تربطني علاقة غريبة الأطوار مع الملابس. في الأعياد والمناسبات كانت جدتي تعطيني ملابس قديمة من خزانتها أيّام شبابها، غالية ونادرة لأرتديها. ملابس باهظة الثمن كانت رمزا للثراء والفخامة في الأفلام الأجنبيّة التي كنت أشاهدها، لكنها لم تكن مريحة أبداً.
أذكرُ “مانطو” جلد الثعلب الذي كان دافئاً جدّاً لكنّه لا يشبه ما يلبسه الأصدقاء، كان ثقيلا جدّاً على كتفيّ. كنتُ أشعرُ أنني أحملُ الثعلب كاملاً على كتفيّ وليس فقط جلدهُ.
المانطو كان جلداً وبراً، أمّا ذنب الثعلب فهوَ فروة على قبّة المانطو مما يجعلهُ ثقيلاً ودافئاً ومربكاً. ولكنّي كنت أفتخر به عندما أتذكر أنّها قامت بارتدائه في إحدى حفلات أم كلثوم.
أناقة جدتي كانت تثير اهتمامي لكنني لم أستطع أن أمشي على خطاها أبداً. كانت دائماً ما تعلّق: ”هذا الجيل مابيعرف يلبس”. خزانتها مليئة بالأثواب التي تبدو غالية جدّاً ولكلّ ثوب علبة فيها ساعة يد من لونه، وحذاء خاص به، مرتبةً في الخزانة وفقاً لمعيار لم افهمه يوماً بين صيفيّ وشتويّ، ويضمن ذلك توزيعات معيّنة ترمز لنوع المناسبة التي يلبس فيها، ثمّ بداخل هذا التصنيف هناك أيضاً تصنيف لونيّ.
باروكة لأوقات الطوارئ
غرفة جدتي كانت تشبه تماماً غرف نوم الأميرات؛ وكأن أميرةً عاشت هنا زمناً وهجرت المكان. غرفة كبيرة وفيها مرآة كبيرة تدعى ”التواليت“ وُضعت فوقها مستحضرات التجميل وباروكتان قديمتان تستندان إلى رأسين بلاستيكيين، وقطعة بلاستيكيّة ليد مرفوعة عرفت لاحقاً أنها كانت تستخدم لحمل الخواتم، كُحل عربيّ ناشف في قارورة نحاسيّة. علب اكسسوارات وصناديق خشبيّة ودروج صغيرة.
كنت أحبّ العبث هناك كثيراً وإكتشاف محتويات العلب. وكانت تمنع عنّي ذلك وتقول لي إنني عندما أكبر سأحصل عليها كلّها وسيكون لديّ ما يكفي من الوقت لإكتشاف كلّ شيء.
سألتها مرّة عن الباروكتين، فقالت إنهما كانتا ”لأيّام الطوارئ“ عندما لا تملك الوقت كي تزور الكوافير ويكون لديها سهرة ترسل بهما صباحاً للكوافير، وفي بعض الأحيان تقوم بإرسالهما احتياطاً في بداية الأسبوع وتتركهما جاهزتين في حال احتاجتهما فجأة، يقوم الكوافير بتجهيزهما ويرسلهما إلى البيت وتجلسان هناك بانتظار السهرة.
مصنوعتين من الشعر الطبيعيّ، أكلتهما الغبرة لاحقاً، لكنّها نبهتني إلى أنهما لم تكونا يوماً في هذا المنظر وأنهما كانتا جميلتين جدّاً. واحدة مجعدة وقصيرة والأخرى أقلّ تجعيداً وأطول قليلاً. كانتا بلون شعر جدتي وليس فيهما ايّ من علامات التصنّع الزائد أو تغيير جذريّ بالشكل.
علّقت مرّة على الاختلاف البسيط بينهما وقالت إنّ بعض الفساتين تحتاج إلى شعرٍ أقصر قليلاً حتى ”تجي هيبتها“.
في الفترة التي شهدتها في جدّتي لم تكن تستخدم معظم الأشياء في الغرفة، إلّا أنها كانت تحرص بشكلٍ كبير أن يكون كلّ شيء في مكانه. تفتح الخزانة في بداية الشتاء وفي نهاية الصيف وتقوم بتنظيف الغبار عن الفساتين وترتيبها من جديد ووضع الصابون واللافندر وأوراق الروائح العطرة بينها وفي الأحذية. تعيد كلّ شيء إلى مكانه. أمّا التواليت فكان دائماً مرتباً، نظيفاً وجاهزاً للاستخدام.
العاملة المنزلية كانت تقوم بتنظيف كلّ شيء في البيت، إلّا غرفة جدتي، كانت جدتي تحرص على أن تكون جزءاً من عمليّة تنظيفها وترتيبها.
حفلة في المرآة
جدتي، الطبيبة النسائية التي كانت تهتم بأناقتها بشكل لطالما شكّل ضغطاً عليّ أن أجاريها، أنا التي كنت أنتقل من ارتداء مريول المدرسة القبيح إلى الجينز والتي شيرت في معظم الأحيان، كانت تؤمن بأن الخياطة أفضل من الجاهز لأنها “تلبسك لبس” وليست مصنوعةً لتناسب أيّا كان بشكلٍ عبثي. وتعتقد بأنّ الخياطة حنونة ولطيفة بينما الجاهز يلغي الشخصيّة ويلغي الجسم ويحوّلنا إلى أوراق شدّة متشابهة بلا لون يميزها.
بعد الضغط، أتى مرّة الخياط الى المنزل ليقوم بتفصيل لباسٍ خاص لي. تشاجرنا ولم تعجبني فكرة الخياط فكنتُ أفضل الملابس الجاهزة التي يلبسها أبناء جيلي، ففي أيّام المراهقة نميل إلى أن نختفي بين الجموع.
لكن وعلى الرغم من ذلك فقد كانت دائماً ما تضيفُ شيئاً لملابسي في المناسبات. قطعة تعلقها على فستانٍ أرتديه في عيد ميلاد إحدى صديقاتي. طاووس ذهبيّ مرصّع بالأحجار الخضراء، أو وشاح صغير تربطه على رقبتي في مناسبةٍ أخرى.
يقال أن جدتي كانت أوّل طبيبة نسائية تفتتح عيادة في المدينة السورية حمص، وأنها كانت من السيدات اللوات كنّ من سيدات المجتمع في وقتها. تزوجت جدّي بعد قصّة حبّ عاشاها معاً في كليّة الطب في جامعة دمشق في خمسينيات القرن الماضي.
لم أشهد جدتي في عزّ أناقتها، لكنني كنت أفتح خزانتها وأفكّر كيف كان يبدو شكلها وكيف كان يبدو شكل سهراتها. المؤتمرات الطبية وحفلات أمّ كلثوم وعبد الحليم، وأتخيلها تمسك يد جدي وتدخل الغرف الكبيرة ذات السقوف العالية والإضاءة الصاخبة، كما في الأفلام، وهي بكامل أناقتها مستخدمة كلّ تلك الأشياء المرميّة الآن أمام المرآة تعكس نفسها مرتين.
وصيّة مكتوبة سريعاً
كنت أنظر إلى خزانة جدتي وأرى من خلالها حياتها التي عاشتها منطقيّة جداً، تنعكس من خلال صور وخيالات لشخصيتها ترتدي هذا الفستان أو ذاك في هذه المناسبة أو تلك. ترافق جدّي ويرافقها في مؤتمراتهما الطبيّة والعشاءات الطويلة مع الأصدقاء والمعارف.
تروي جدتي عن حادثة حصلت معها في العراق أثناء مؤتمرٍ طبيّ هناك. كانت كعادتها ترتدي ملابسها الجميلة، وكانوا في رحلةٍ لزيارة النجف. كانت قد حضّرت نفسها لذلك وحملت معها وشاحاً يغطّي الرأس احتراماً للمقام الدينيّ. وفي لحظة دهشة رفعت رأسها لتنظر إلى السقف المرصّع وانزاح الشال عن أوّل رأسها فظهر جزءٌ من شعرها. سمعت صوتاً يصرخ فيها ”غطّي شعرك يا حرمة“ وإلّا فلتغادر المقام.
كانت تضحك في كلّ مرة تروي تلك القصّة وكثيراً ما كانت تنتقدُ ذلك التشدد وتقول لي ”إنّ الله جميل يحبّ الجمال“ أعطانا هذه الأجسام لنحافظ عليها ونغطيها بنفس الجمال الذي خلقها به. يجب أن نظهر دائماً بمظهر جميل لأنّ الله خلق لنا أجسام جميلة، نقدّرها من خلال أن نلبسها ما يليق بها. فالجسم العاري أنيق من خلق الله وكذلك يجب أن يكون وهو مغطّى بملابس.
كنتُ في كلّ تلك الأثناء أعبر بين الطفولة والمراهقة ولم أكن أفهم الكثير مما كانت تقوله لي جدتي، وإن فهمته لم يكن يروق لي أو يلامسني بشيء، فكنت أرى أنّ الملابس هي أيّ شيء يغطّي الجسد دون دلالاتٍ فلسفيّة كثيرة عن الهويّة التي تعكسها قطع القماش تلك التي نختارها لتلفّ أجسادنا. لكنني اليوم أجدُ منطقها آخاذاً.
وفي 2010 لم تكن تعلم جدتي أنها تترك خزانتها لآخر مرّة دون أن تغلق أبوابها. انطلقت في زيارة لأولادها في الولايات المتحدة الأميركية، ثم بدأت الثورة وتداعت بعدها الحرب، كانت جدتي تنتظر أن تعود يوماً إلى بيتها في سوريا بكل مافيه. لكنها وبشكل خاص كانت توصي من تزور البيت لتطمئن عليه، أن تغيّر الصابون وترتب الروائح في الخزانة وكأنما توصي بالمحافظة على ذاكرتها.
رحلت جدتي في عام 2013 وخزانتها مازالت تنتظرها على بعد محيط وبحر. دُفِنَت هناك، في بلاد التي شيرت والجينز، قبل أن تنتهي الحرب وقبل أن تودع الخزانة.
بعد وفاتها، وجدنا ورقة في واحد من كتبها وقد كُتِبَ عليها بخطّ يدها ”وصيتي اذا صرلي شي القمايش لشيرين”.. لا تاريخ على الورقة، فقط خطّها السريع.
لا نعلم متى كتبتها وماذا كان يدور في ذهنها. لكنها أورثتني، بشكل مباشر أو غير مباشر كلّ ذلك التاريخ وكل تلك الذاكرة المحفوظة اليوم بالبلاد التي ترفضني. ولكنني بإنتظار أن أستطيع الذهاب إلى بيت جدتي يوماً لأدخل غرفتها مفتونةً بكلّ فلسفتها وأراها بعينين مختلفتين هذه المرّة. لأقرأ على روحها، وروح كلّ الجدات اللواتي فقدن خزائنهنّ، الفاتحة.