في القُرى الأردنية، دائمًا هناك ساعة من الزّمن -تقريبًا- تفيض عن حاجة الرّجال يوم الجمعة، وهي السّاعة الواقعة في الفترة بين الانتهاء من الصّلاة والجلوس إلى مائدة الغداء. فبينما تنشغل النّساء في إنجاز مجموعة من الأعمال دفعةً واحدة (من غسيل وتنظيف وطبخ)، يتنافس الرّجال في ابتكار وسائل لكسر الزّمن كي يصل إلى ساعة الصّفر/ الطّعام؛ فتجدهم يجلسون أمام البيوت والدّكاكين أو يتمشون في الشّوارع متباطئين.
صورة نمطيّة
حينما كُنَّا نخرج من المسجد بعد صلاة الجمعة ونلتقي أصدقاء المدرسة كُنَّا نختار التمشّي، وكان السؤال الجاهز والمكرر الذي نوجّهه لبعضنا البعض هو: “شو طابخين اليوم؟”، وكانت الإجابة نفسها تتكرر دوما وهي: “منسف“. وكثيرًا ما كُنّا نكذب، أنا شخصيًا كنتُ أكذب وأردد الإجابة نفسها دون أدنى فكرة عن الطبخة التي تُعدها أميّ لنا في البيت.
فقد كانت تنوِّع الطّعام يوم الجمعة وتتنقّل بسهولة بين المنسف والمقلوبة والملفوف والدّوالي والملوخية وصواني الدّجاج المشوي. في البداية، لم أكن أعرف سبباً لكذبي، لكنني عرفتُ لاحقًا أنني خاضع لسلطة العقل الأردني الجمعي الّذي يفترض أنَّ يومَ الجمعة اليومُ الرسمي المعلن لأكل المنسف في الأردن.
حينما كبرتُ وازداد شغفي بالتّراث والتّاريخ الأردنيين ورحتُ أقرأ في التراث الغذائي وجدتُ أنَّ للطّعام دورًا محوريًا في صراع الهويات -هجومًا ودفاعًا، وأنّ هذا الطّعام مرتبط بحكايات وأساطير خلقت تاريخًا خاصًا يمنحه الشّرعية والثّبات اللّذين تحتاجهما الهوية، في مقابل روايات وقراءات أخرى مرتبطة بالهوية المنافسة تحاول الإطاحة بها وتحاول ربطها بما يفككها ويهدمها. على الأقل، هذا ما حدث مع أكلات مثل المنسف والملوخية والمقلوبة والمسخّن والكعاكيل في الأردن.
هامش لا بدّ منه في المتن
تنقسم الهوية الأردنية إلى مجموعة من الهويات الفرعية، كما هو الحال في أغلب بلدان العالم، غير أن سعي الأمير عبدالله الأوّل (1882- 1951) إلى ضم الضّفة الغربية -مطلع خمسينات القرن العشرين- تحت مسمّى “وحدة الضّفتين” وقيامه بتجنيس عدد كبير من الفلسطينيين بالجنسية الأردنية أدّى إلى نشوء فرعين رئيسين تنضوي تحتهما الهويات الفرعية الأخرى، وهما: الفرع الشرق أردني ويضم تحت رايته أهل البلاد الأصليين، والفرع الفلسطيني ويضم الفلسطينيين الذين نزحوا إلى الأردن إثر حرب فلسطين عام 48 أو كانوا متواجدين في الأراضي الفلسطينية الخاضعة لسلطة القوات الأردنية. فإذا حدث أنّ قدّم الأردني نفسه لأي عربي -ولأي أجنبي لديه أدني حد من المعلومات عن الأردن- فإنّ أول سؤال سيواجه به: “أنت أردني أردني ولّا أردني فلسطيني؟”
هذه الظروف غير الطبيعية التي عصفت بالأردن وفلسطين، أحدثت صراعات هوياتيّة استخدمت كل ما يُتاح لها للتعبير عن نفسها، ويشكّل الطّعام مدخلاً مناسبًا للإطلالة على طبيعة هذه الصراعات.
عودة إلى النمطية
“خُذ ملوخياتك وعلى الجسر” كانت أول مرة أسمع فيها هذه العبارة عام 2004 أيام الدراسة الجامعية؛ قالها قريب لي موجهًا كلامه إلى زميل لنا من أصول فلسطينية. كان الكلام في سياق المزاح، فانفجر الفلسطيني ضاحكًا، ثم قال: “مش طالعين بدنا نظل قاعدين على قلوبكم”. كان قريبي يقصد بالجسر العودةَ إلى فلسطين، أمّا الحديث عن الملوخية فيحتاج إلى كشف عن الخلفية الثقافية الكامنة خلفه.
فهناك تصوّر شائع بين الأردنيين من أصل فلسطيني بأنّ الأردن قبل عام 48 -أي قبل الهجرة الفلسطينية- كانت منطقة بدائية لا تعرف من الأشياء إلا أبسطها، فالأردنيون حسب هذا التصوّر لم يكونوا يعرفون من الزّراعة إلا زراعة البقوليات والقمح، حتى جاء الفلسطينيون وعلّموهم زراعة منتجات جديدة عليهم مثل الملوخية والبطاطا والزهرة والبندورة…إلخ. مثلما علموهم الطّبخ وأنواعًا جديدة من الطّعام كالمقلوبة والمسخّن والملوخية. وينسب هذا التصوّر إلى اللاجئين دورًا محوريًا في تطوير البلد في استبعاد واضح لأي دور للسكّان الأصليين.
يواجه الشّرق أردنيون هذه السّردية عبر تعزيز تصوّر ساخر مفاده أن الشيء الوحيد الّذي جلبه الفلسطينيون معهم هو الملوخية، وقد أثبتت التحاليل المختبرية أنها بلا فائدة غذائية تُذكر، ويستعينون بنكتة تتحدّث عن فلسطيني سافر إلى ألمانيا وأخذ معه كمية من عشبة الملوخية، فاعتقلته الشّرطة الألمانية بتهمة تهريب المخدّرات وبعد فحص العشبة أثبتت التحاليل أن هذه العشبة غير مُخدِّرة بل هي مجرّد عشبة غير ضارة وغير نافعة في الوقت نفسه.
لا أحد ينكر دور الفلسطينيين في بناء الأردن في مختلف المجالات؛ فأغلب الأردنيين من أصل فلسطيني جاءوا من أصول فلّاحية وبدوية، في مقابل قلّة فلسطينية من أصل مدني، سعوا إلى تطوير أنفسهم بسبب الظروف الصعبة التي عصفت بهم، فكانوا أكثر وعيًا من غيرهم بقيمة التعليم والعمل وأهمية الأرض وزراعتها
هذا التصوّر يُفسِّر الجملة التي تُقال لفلسطيني الأردن على سبيل المزاح أو الجد حسب الموقف: “إذا مش عاجبيتك البلد شيل ملوخياتك وعلى الجسر”. لكنّ الطّرفين يعلمان أن الملوخية وصاحبها باقيان إلى أجل غير مُسمَّى، وأنّ ما يجري بينهما لا يعدو كونه مناكفات لا أكثر.
أمّا التصوّران (المتعالي والسّاخر) فيمكن لهما أن يتعرضا لكثير من الهزّات التي تجعلهما لا يصمدان طويلاً أمام الوثائق والمعطيات التاريخية؛ فالأردن، قبل عام 48، كان يعرف الكثير من أنواع المزروعات من الحبوب والخضار والفواكة مثل القمح والعدس والفاصولياء والزّهرة والخيار والبندورة والملفوف والبطيخ والشمام والبطاطا والرّمان والعنب…إلخ، إضافةً إلى أنه كان يصدّر الخضراوات إلى فلسطين مطلع أربعينيات القرن الماضي كما ذكر هاني حوراني في كتابه “التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن” (1978).
كما أنّ النّصف الثاني من القرن العشرين شهد تطورات وتحولات سريعة وضخمة في أغلب البلدان العربية -سواء تواجد فيها الفلسطينيون أم لا- بعد حصولها على الاستقلال.
من جهة أخرى، فلا أحد ينكر دور الفلسطينيين في بناء الأردن في مختلف المجالات؛ فأغلب الأردنيين من أصل فلسطيني الّذين جاءوا من أصول فلّاحية وبدوية، في مقابل قلّة فلسطينية من أصل مدني، سعوا إلى تطوير أنفسهم بسبب الظروف الصعبة التي عصفت بهم، فكانوا أكثر وعيًا من غيرهم بقيمة التعليم والعمل وأهمية الأرض وزراعتها. فاتجه البدو إلى تعلم الأعمال اليدوية، بينما اتجّه الفلّاحون منهم إلى العودة إلى ممارسة الزّراعة كما أخبرني الفنان صالح حمدوني من مخيم إربد في حوار شخصي حول الموضوع، في حين أُرسل جيل الأبناء والبنات إلى المدارس. ثم جاء سوق النّفط الخليجي الذي فُتح أمام الفلسطينيين أكثر من غيرهم من أبناء البلدان العربية، ليصبح المال حافزًا إضافيًا لتطوير الذّات.
ومن هنا تصبح عبارتا “احنا علمناكم الطّبخ” و”خذ ملوخياتك وعلى الجسر” عبارتين دفاعيتين في مواجهة اتهام متبادل قائم على المبالغة والتخييل، بيد أنّ السؤال يبقى: ما جدوى الهوية خارج المبالغة والتخييل؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال عبر التطرّق إلى الروايات التاريخية لأشهر طبق أردني وهو المَنْسَف.
المنسف عبر التاريخ
جاء في الإصحاح الثالث والعشرون من سفر الخروج أن “لا تطبخ جديًا بلبن أمه”، هذه وصيّة صريحة وردت في التّوراة بتحريم المنسف عند اليهود. يرافق هذه الوصية رواية شعبية أردنية تعود بجذورها إلى التاريخ القديم إلى الملك ميشع ملك ذيبان ومؤاب (مناطق أردنية) في حربه مع المملكة اليهودية، قبل ثلاثة آلاف عام، فبعد أن كانت البلاد مستباحة بسبب الغزوات اليهودية جاء ميشع ليوحّد ذيبان (تقع في محافظة مادبا) ومؤاب (تكاد تشمل جنوبي الأردن) وينتصر على مملكة يهوذا موقعًا آلاف اليهود في الأسر.
هنا تظهر الرواية الشعبية التي تنتصر للمنسف، ففي مقابل نص التوراة تقول هذه الرواية بأنّ ميشع كان يُحرّض شعبه على أكل الجدي بلبن أمه “المنسف” في تحدٍ للسردية التوراتية، كما أنّه أجبر الأسرى اليهود على أكل المنسف.
وفي مقابل الرواية الوطنية للمنسف تبرز رواية أخرى تتخذ موقفًا جذريًا من النظام الأردني، ولا تراه إلا في إطار علاقته بالإنجليز وفكرة الكيان الوظيفي، وبذلك فهي تربط كل ما يتعلّق بالهوية الوطنية بالاستعمار والامبريالية، وتعد أي شيء تشجعه الدولة استمرارًا لنهج الاستعمار وفكرة المؤامرة بما في ذلك المنسف
هذه سردية وطنية تحاول أن تربط الطبق الوطني “المنسف” بالتاريخ الوطني للأردن لتعود بالتاريخ إلى جذوره الأولى وتعطي المنسف بعدًا عموديًا يرتبط بهوية أبناء البلاد، غير أنها تفتقر أمام الاختبار إلى الأدلة التاريخية. فلا يوجد ما يؤيدها سوى وجود ميشع وحربه مع اليهود، والاكتشافات الأثرية القديمة التي أثبتت وجد أواني طعام أثرية في الأردن تشبه (السِّدر) الذي يُقدم به المنسف، عدا عن أنّ طبخ الجدي بلبن أمه عادة قديمة عند العرب، أمّا حادثة إجبار اليهود على أكل المنسف فهي رواية شعبية أكثر منها رواية تاريخية.
المنسف بوصفه عميلاً
وفي مقابل الرواية الوطنية للمنسف تبرز رواية أخرى تتخذ موقفًا جذريًا من النظام الأردني، ولا تراه إلا في إطار علاقته بالإنجليز وفكرة الكيان الوظيفي، وبذلك فهي تربط كل ما يتعلّق بالهوية الوطنية بالاستعمار والامبريالية، وتعد أي شيء تشجعه الدولة استمرارًا لنهج الاستعمار وفكرة المؤامرة بما في ذلك المنسف. ويأتي كتاب “آثار استعمارية: تشكيل الهوية الوطنية في الأردن” (2019) للباحث الأردني/ الفلسطيني جوزيف مسعد –أحد أبرز تلامذة إدوارد سعيد- في طليعة هذا التيار إذ قدم رؤية متكاملة لصناعة الهوية الوطنية في الأردن ضمن مشروع الاستعمار وصنيعته “الدولة الوطنية” التي بدأت على يد الضابط البريطاني كلوب باشا –قائد الجيش العربي الأردني من (1939-1956)- ونضجت على يد النظام الأردني.
يقول مسعد: “يكمن إبداع كلوب في تحريكه عملية إنتاج ثقافي كاملة، أدت إلى نزع البداوة عن بدو الأردن، وفي الوقت نفسه إعادة تعريف كل ما قدمه بوصفه بدويًا”، وذلك في سبيل خلق هوية بدوية متخيلة وتعميمها على كل سكان الأردن سواء أكانوا بدوًا أم فلاحين أم حضرًا.
ويقدم مسعد عدة حجج لإثبات فرضيته وتطبيقها على المنسف بوصفه الطبق الذي قنّنه مهندسو الهوية الأردنية؛ فهو يذهب إلى القول بأنّ المنسف ليس أردنيا بدليل أنه يُطبخ في بعض مناطق فلسطين وجنوب سوريا، ويستدل أيضًا بأن المنسف لم يكن معروفًا بشكله الحالي إلا عند الفلاحين (كان يطبخ بالبرغل أو الفريكة قبل دخول الأرز)، ورغم أن البدو طبخوه مع مرق اللحم (لحم الخراف أو الإبل) والخبز فقط فإنّه أصبح في فترة متأخرة، وبعد سنوات من تعريب قيادة الجيش وطرد كلوب عام 1956، الطبقَ البدوي بامتياز والأكلةَ الوطنيةَ للأردن.
ويستند إلى حداثة عهد الأردنيين بالأرز الأبيض، الذي دخل بسبب نشاط العلاقات التجارية الكولونيالية، كي يوجه الضربة القاضية لوطنية المنسف وليؤكد “أن معظم مكونات المنسف الحالية جاءت بها الدولة الانتدابية- الهاشمية والدولة الهاشمية بعد الاستقلال، وأن المنسف الجديد أعيد تكوينه وتقديمه (كطبق تقليدي)، وحينها فقط تمت وطننته”.
وعلى الرغم من أنَّ هذه الرواية تلجأ إلى تحصين نفسها عبر كم كبير من التوثيقات فإنها ترى أن كل حدث أو نشاط إنساني يحدث في زمن الاستعمار أو الدولة ما بعد الاستعمارية ناتج بالضرورة عن مخطط استعماري أو مؤامرة استخباراتية، ويهمل التطوّر الاجتماعي للشعوب ودوره في صناعة هويتها انحيازًا منه لنظرية المؤامرة.
فقضية المنسف أبسط وأقل تعقيدًا مما يصوره كتاب مسعد؛ إذ إن بدو الأردن بعد قيام الدولة وجدوا أنفسهم مجبرين على الاستقرار وترك الغزو والترحال، الأمر الذي ترك أثره الإيجابي على العلاقات العشائرية والقبلية وأصبح البدو والفلاحون أكثر اختلاطًا واندماجًا من السابق بوصفهم مواطنين في دولة واحدة. وأدى الاستقرار والاختلاط إلى اتجاه البدو إلى صناعة المنسف بالطريقة الأفضل طعمًا ضمن سياق التطورات الاجتماعية والرفاهية التي تفرضها الحياة الجديدة.
ربط جوزيف مسعد -بكثير من الجرأة- الأرز بالكولونيالية إلى الدرجة التي كادت أن تدفعني إلى مقاطعة هذا المنتج. ولكنَّ العودةَ إلى كتب المذكرات المحلية ورحلات المستشرقين، إضافة إلى التراث الشعبي، جعلتني أكثر معرفة بتاريخ الأرز في المنطقة الذي يعود إلى فترات لا علاقة لها بالإنجليز والاستعمار
كما أنّ تأمل سريع في مكونات المنسف يأخذنا إلى أنّ المنسف ليست أكلة فلاحية خالصة ولا أكلة بدوية خالصة بل هي منتج المكون الفلاحي-البدوي المستقر كما ذكر الباحثين ناهض حتر وأحمد أبو خليل والمعزا رباح في كتابهم “مداخل إلى تراث الإنتاج الفلاحي- البدوي”. علمًا أن أغلب بدو الأردن من البدو المستقرين وجزء كبير منهم استقر قبل تأسيس الدولة مثل قبائل بني حسن والعدوان وأغلب قبائل البلقاء.
أمّا الاحتجاج بأن المنسف يطبخ في فلسطين وجنوب سوريا فهو يتناسى أنّ ما يقارب نصف الأردنيين اليومَ قدموا من فلسطين وأن ّعددًا غير قليل من العشائر الأردنية لها امتدادات داخل الجنوب السوري، مما يدعم مرويّة الأكلة الوطنية أكثر مما يضعفها. في المقابل لو عدنا إلى مصادر جوزيف مسعد ومراجعه التي حشد منها أدلته وشواهده سنجد أنه اعتمد على معجم العلّامة روكس بن زائد العزيزي للعادات والتقاليد والأوابد الأردنية، وعلى كتب أحمد عويّد العبادي المختصة بالتّراث الأردني؛ والأول مؤرخ البداوة الأردنية وحافظ تراثها الذي يتهمه الباحث بأنه شريك أساسي في بدونة الهوية الأردنية، والثاني يتهمه الباحث بأنه بدوي عنصري منحاز ضد “الآخرين” في الأردن. والسؤال المطروح هنا: إذا كان هؤلاء زودوه بكل هذه المعلومات التي تنسف رواية “بدونة المنسف” فمن الذي سعى إلى تقديم المنسف بوصفه الطبق البدوي؟!
الأرز في قفص الاتهام
يظن كثير من الأردنيين أنهم حديثو عهد بالأرز، وأنهم لم يعرفوه إلّا بعد فرض الانتداب البريطاني لشرقي الأردن، الأمر الذي دفع جوزيف مسعد -بكثير من الجرأة- إلى ربطه بالكولونيالية إلى الدرجة التي كادت أن تدفعني إلى مقاطعة هذا المنتج. ولكنَّ العودةَ إلى كتب المذكرات المحلية ورحلات المستشرقين، إضافة إلى التراث الشعبي، جعلتني أكثر معرفة بتاريخ الأرز في المنطقة الذي يعود إلى فترات لا علاقة لها بالإنجليز والاستعمار.
فحينما يتحدّث عودة القسوس (1877-1943م) في مذكراته عن لقاء هربرت صموئيل -المندوب البريطاني السّامي- مع أهالي شرقي الأردن عام 1920 في السّلط، يذكر أن صموئيل وعد وجهاء شرقي الأردن وزعاماته بإعادة توفير السّلع التي شحّت في البلاد بسبب الحرب العالمية الأولى، وهي الأرز والسكّر والكاز، أي أنها كانت متوفرة قبل ذلك. كما أنه يتحدّث عن مجاعة ضربت الكرك في القرن التاسع عشر، فقام أهالي الكرك باقتراض السلع الأساسية -من بينها الأرز- من تجّار الخليل بكفالة الشيخ محمد المجالي، ليسطع بعد ذلك نجم عشيرة المجالي بوصفها زعيمة الكرك.
كما أنّ هناك قصيدة على لسان الشِّيخ جديع بن هذَّال -أحد شيوخ قبيلة عنزة – تتحدّث عن المنسف والأرز، علمًا أنَّه كان معاصرًا وصديقًا للشَّاعر نمر العدوان الَّذي عاش في القرنين الثامنَ عشرَ والتاسعَ عشرَ وكثيرًا ما كان يقيم في البلقاء. يقول جديع بن هذَّال:
عشـرة حـمول من الرز كيله *** وبيت كبيـر ومنوه للخطاطـير
وبمنسف يسدِّر جمعْ القِبِيله *** نرجد عليه من كثر الطوافير (اللحم)
ويذكر الرَّحالة والمبشِّر البريطاني آرتشيبولد فوردر في كتابه “مغامرات بين العرب” أنَّه حينما نزل ضيفًا على شيخ مادبا عام 1891م، قدّم له الأخير عشاءً مكونًا من دجاجتين وأرز مسلوق وخبز. كما أنَّ السلطان عبد الحميد الثاني أصدر فرمانًا -بقي معلقًا- يقضي بإنشاء ولاية عَمَّان عام 1878م، وكان الفرمان يتضمّن استغلال منطقة غور الأردن في زراعة الأرز، وذلك ضمن مشروعه للمنطقة الَّذي باء بالفشل مثل كل مشاريع السلطان كما ذكر سعد أبو دية في “عمان في الوثائق العثمانية والبريطانية”.
مسخَّن… ومقاومة
قبل عدِّة أسابيع، كتب الروائي المصري شادي لويس على صفحته منشوراً مازحًا يتحدَّث فيه عن صدمته بالمسخّن الفلسطيني أمام التهويل الَّذي يصطنعه الفلسطينيون حول هذا الطبق، وعن اكتشافه أن هذا الطبق مجرد “رغيف عيش مدلوق عليه نص لتر زيت فوقيه ربع فرخة”. لتنهال عليه التعليقات الشاتمة والمستهجنة تجرؤَ هذا المنشور على المطبخ الفلسطيني. فالبعض تحدّث عن رمزية المسخن بوصفه إرثا وتراثًا فلسطينيًا يُقدم للملوك والرؤساء والسفراء ولكل ضيوف فلسطين، وهو يعبّر عن الهوية بوصفه “تعب أمهاتنا، وزيت الزيتون هو حياتنا وقضيتنا وشقاء الأجداد والآباء”.
تعليقات أخرى قالت إنَّ الفلسطيني يطبخ المسخّن بيد ويقاوم باليد الأخرى. وما ينطبق على المسخَّن ينطبق على بقية الأطباق الفلسطينية عند أصحاب هذا الموقف، غير أنّ المسخَّن أكلة موسمية ترتبط بموسم زيت الزيتون، وهو لا يُنافس أكلة تُقدّم في كل المواسم مثل المنسف بل يُضع في أحسن الأحوال في مواجهة المكمورة الأردنية التي تشتهر في شمالي الأردن وتُطبخ في موسم الزّيت أيضًا. أمّا الأكلة الفلسطينية التي توضع في مواجهة المنسف فهي المقلوبة.
يشير عمر خليفة في مقاله “عن الصراع بين المنسف والمقلوبة” إلى نقطتين جوهريتين يمكن استخدامهما في المفاضلة بين المنسف والمقلوبة: الأولى تتعلّق بتعقيد عملية إعداد المقلوبة في مقابل بساطة إعداد المنسف، أمَّا الثانية فتتعلّق بطقوس تقديم المنسف وارتباطه بمنظومة متكاملة من العادات والتقاليد في مقابل غياب تام لمثل هذه الطقوس والعادات حين يتعلّق الأمر بالمقلوبة.
يمتلك المنسف منظومة آداب كاملة في التعامل معه بدءًا من طريقة أكله باليد، مرورًا بلائحة من التعليمات التي يجب مراعاتها عند المثول أمام المنسف. فعلى سبيل المثال يُحرَّم على الضيف أن يبدأ بأكل رأس الذبيحة، خاصة اللسان والعين، وعليه أن ينتظر المعزّب كي يقدمها له
فالمقلوبة تحتاج إلى سلق الدَّجاج ووضعه في أسفل الطنجرة، ثم إلى قلي الخضراوات (الباذنجان والبطاطا والزّهرة) ووضعها فوق الدّجاج ومن ثم يأتي دور الأرز، لنصل إلى الخطوة الأخيرة وهي قلب الطنجرة دفعة واحدة في السِّدر. وفي مقابل ذلك لا يحتاج المنسف إلى كل هذا التعقيد، فهو لحم ماعز أو خاروف يطبخ مع اللَّبن/ الجميد ويوضع على الأرز. والإشارة إلى التعقيد والبساطة غالباً ما تحمل تلميحًا إلى طبيعة الفروقات بين المجتمعين؛ فالتعقيد نتاج طبيعة حياة حضرية مستقرة، أمَّا البساطة فهي نتاج مجتمعات رعوية غير مستقرة.
من جهة أخرى، فإنّ المنسف يمتلك منظومة آداب كاملة في التعامل معه بدءًا من طريقة أكله باليد، مرورًا بلائحة من التعليمات التي يجب مراعاتها عند المثول أمام المنسف. فعلى سبيل المثال يُحرَّم على الضيف أن يبدأ بأكل رأس الذبيحة، خاصة اللسان والعين، وعليه أن ينتظر المعزّب كي يقدمها له.
وأي مخالفة للائحة تُعد إهانة قد تؤدي إلى تأويلات غير محمودة العواقب. فيروى أن مسؤولاً سياسيًا رفيعًا في الأردن نزل ضيفًا على زعيم عشائري معارض في أربعينات القرن العشرين، وكان بينهما خلافات سابقة، وعند حضور المناسف بادر هذا المسؤول إلى أكل عين الذبيحة، فأسرع صاحب البيت إلى الذبيحة وقطع لسانها. فقد فهم الزعيم أن قلع العين الذبيحة تهديد له فبادر إلى قطع لسانها وكأنه يؤكد قدرته على رد الإساءة والغدر.
محاولات إثبات
يعد الصراع حول الطعام الفلسطيني (المقلوبة والمسخن والملوخية…إلخ) والطعام الأردني (المنسف والمكمورة والكعاكيل…إلخ) أحد تجليات صراع الهويات في الأردن، ورغم أن أصحاب الاتجاه الوسطي أو الوحدوي يحاولون إنكار وجود مثل هذا الصراع وتسخيفه إن وجد، فإنَّ هذا الصراع يستند إلى النقطتين السابقتين في التعبير عن نفسه وفي تحديد نقاط انطلاقه؛ فالأردني – الأردني يلجأ إلى إثبات وجوده من خلال استحضار منظومة العادات والتقاليد التي تحكم حياته بوصفها منظومة أصالة ونقاء، لذلك فهو يُحذِّر من أي لعب في قواعد هذه المنظومة ويعد هذا التلاعب اعتداءً على هويته.
ويتجلّى ذلك في الطّعام أيضًا، مثل التلاعب بمكونات المنسف أو بتقاليد تقديمه، وقد عبروا عن ذلك غناءً بقولهم: “منسف مع جاج ما ينفع مع أردنية… بدهم منسف باللَّحمة البلديّة”، ومن خلال مهاجمتهم مشاريعَ تحوّل المنسف إلى وجبة سريعة، مثل المطاعم التي انتشرت مؤخرًا تحت شعار “منسف بالكاسة” التي تبيع المنسف بكميات قليلة موضوعة في كأس، إذ عدُّوا ذلك إهانة لطقوس تقديم المنسف.
كما أنّ هناك أطباقًا تَحضُر للتأكيد على أصول المتحدِّث من خلال معرفة طريقة لفظ اسم الطبق، فطبق (الكعاكيل) يلفظ الأردني حرفَ الكاف في اسمه كما يُلفظ بالإنجليزية المقطعَ الصوتي (ch)، وفي المقابل فإنَّه ينظر بازدراء -جادًا أو مازحًا- إلى أي شخص يلفظ الكاف كما هي، ويُعد -من وجهة نظره- شخصًا تنقصه المعرفة بعادات البلد وتقاليده ضمن رؤيتنا للآخر.
أمّا الأردني- الفلسطيني فإن تعامله مع طعامه فيه استدعاء لنظرة التفوُّق التي يرى نفسه فيها، فهذا الطعام المعقد يُعبِّر عن الخلفية المدنية – الفلاحية للمجتمع الفلسطيني في مواجهة الخلفية البدوية – الرعوية للمجتمع الأردني الذي يقوم طعامه على أساس البساطة. وتقوم هذه النظرة على استبعاد التكوين البدوي الّذي هو مكوِّن رئيسي من مكونات المجتمع الفلسطيني وعلى استبعاد التكوين الفلّاحي -الحضري الذي هو مكوِّن رئيسي من مكونات المجتمع الأردني.
ورغم أنَّ البداوة من أبرز مكونات الذِّهن العربي، ولا يمكن تغييبها، فإنَّ هذا الاستبعاد الثنائي هدفه تعزيز الشعور بالذات المدنية التي بنت البلد -كما يعتقد أصحاب هذا التصوّر- وعلَّمتْ أهلها الطبخ والزراعة. ويتوازى مع هذا الشعور بالتفوّق شعور بالخوف على الهوية الفلسطينية من الطمس، خاصة بعد محاولات “إسرائيل” المتكررة سرقة قائمة الطعام العربية -تحديدًا الفلسطينية- وتقديمها بوصفها قائمة الطعام “الإسرائيلية”. الأمر الَّذي يدفع الفلسطيني -في كل البلاد العربية- إلى ربط هوية مطبخه بهوية المقاومة.