على أطراف عمان، في مكان مثل منطقة دابوق، ستجد بقايا ما كان ذات يومٍ غابةً وارفةً. شجر البلوط يظلّل نباتات الزعتر البري والزعرور والفستق والكثير غيرها على الأرض التي ثبّت عليها أصحابها لافتات كتبوا عليها “للبيع”. وكيف لا تكون كذلك وهي واقعة في أثرى ضواحي العاصمة، حيث لا يمكنك استصدار ترخيص بناء إلا للفلل الفارهة والقصور. أحيانًا أفكر لو كان لدي ملايين الدولارات، لاشتريت كل هذه الأراضي ووضعت حدًا للزحف عليها.
مرّ عامان منذ أن التقيت بشجر البُطُم الأطلسي في دابوق، في بقايا إحدى الغابات القديمة. تقف الشجرة بجذعها السميك وأغصانها الملتوية المتشعبة وأوراقها الفاتنة التي تتدلى على مستوى خفيض كأنها شمسيّة مستديرة، تمنح نوعًا من السلوى للمكان والإنسان، إنها الشجرة التي لا يمكنك مقاومة الاسترخاء تحتها، أو الجلوس والاتكاء على خشبها.
يعيش شجر البُطُم (مفردها بُطمة) في فلسطين والأردن بشكل أساسي، لكنه منتشر في غرب آسيا وشمال أفريقيا، حيث تصمد البطمة في موائل متناقضة ومختلفة تمام الاختلاف عن بعضها، تعيش براحة في الغابة والجو المعتدل مثلما تقاوم قسوة الصحراء. يخبرنا هذا بالكثير عن قدرة البطم على التكيّف والمرونة.
ومع ذلك، فشخصيتها القوية تتهاوى أمام تنمّر الإنسان عليها واستهتاره بوجودها؛ بقطعها أو التسبب في الحرائق أو توسّع في العمران بلا وازع أو ممارسة الرعي الجائر. كل هذه القسوة كسرت كبرياء الشجرة التاريخية وعرّضتها إلى خطر الانقراض في موائلها المتعددة.
المهندسات الأصليات للبيئة
يعد البطم من النباتات الأصلية، أي التي تعيش في منطقة بعينها لملايين السنين، وقد ظهر منذ ثمانية مليون سنة بحسب المهندسة الزراعية ديما عساف. فحين تموت البطمة الأم تكون قد فرّخت من أسفلها جذورًا لشجرة جديدة سوف تخلفها. وعلى مرّ العصور، نجا البطم من ظروف جفاف قاسية مختلفة، لكنه اليوم مهددٌ أكثر من أي وقت مضى ليس من قسوة الطبيعة بل على يد الإنسان.
“الأشجار مهندسات البيئة”، بتعبير عسّاف، تنقي الهواء وهي سبب التنوع الحيوي من طيور وحشرات كما أنها تزيد المياه الجوفية. تقف البطم مع أخواتها من الأشجار والنباتات الأصلية المهددات مثلها من البشر؛ القطلب (القيقب)، والسلمون (خروب الكلب)، القندول (قنديل)، الميس، الخروب، الزمزريق (خفّ الجمل)، القريضة، الزعرور، والزرود، والدلب المشرقي، الصنوبر الحلبي، الإجاص البري، السنديان، البلوط الحلبي، الملول (بلوط رومي)، الرتم، السويد الفلسطيني، السماق، العليق المقدس، الجوري البري والعبهر.
ما تبقى من غابات الأردن اليوم يقبع على 1٪ فقط من مساحة أراضيها، منتظرًا إما خطة إنقاذ حقيقية أو أن يلاقي القليل المتبقي مصير الغابات التي اختفت. فحين تسقط تلك الستائر السميكة من الأشجار، تفقد البيئة رطوبتها ويزداد سمك الهواء، وشيئًا فشيئًا يساهم غياب البطم مع أنواع أشجار أخرى في الجفاف الذي نشهده.
تصوير ديمة دعيبس
الأشجار والآلهة.. قصة كنعانية
كما هو الحال مع أي شيء قديم ووفير وضروري في دورات المواسم، كان الكنعانيون، أجدادنا، يعتبرون الأشجار مقدّسة. في العهد القديم كلمة Terebinth (بطم بري) مرتبطة بالتعبد، وفي الأساطير ارتبطت بـ إيل، الإله الأب للآلهة الكنعانية. كما أنها تشير إلى الأنواع الأخرى من البطم البري، بما في ذلك البطم الفلسطيني، والبطم العدسي.
كل هذه الأشجار لها خصائص طبية وغذائية متشابهة، ويبدو أنها مرتبطة بمجموعات مماثلة من القصص، مع خصوصية كل واحدة بالطبع. على الرغم من أنه من حيث الحجم والعمر، يمكن أن يصل طول البطم الأطلسي إلى عشرين مترًا وتعيش حتى ألف عام، وربما يعني ذلك أنها بمثابة جدّة البطم البري.
بالنسبة للثقافات القديمة، كان اعتبار الأشجار مقدّسة أو مرتبطة بإله أمرًا شائعًا، عائلة البلوط والطحالب البرية ارتبطت مثلًا بزوجة الإله إيل؛ الآلهة الأم أشيرا. وترتبط شجرة الأكاسيا بالآلهة العربية العُزّى. أما النخيل فمرتبط بالإلهة الآشورية البابلية عشتار، التي كانت تُدعى أيضًا “سيدة عناقيد التمر”، ويرمز لها في آثار وادي الرافدين بنقش يجسّد النخلة. يقال أيضًا إن روح الإله الفرعوني أوزوريس تسكن داخل شجرة أرز.
ما زلنا في الثقافة الشعبية في بلاد الشام نستخدم كلمة “بعل” عندما نشير إلى النباتات والأشجار التي تعيش على مياه الأمطار وحدها. وفي دورة الجفاف والمطر في هذه المنطقة، تجسد دورة البعل المأخوذة من الأساطير الكنعانية رمزًا للعَوْد السنوي
لم تنته قدسية الأشجار في بلادنا. فلا يزال بإمكانك العثور على أشجار مرتبطة بشخصيات توراتية، يُنظر إليها كأشجار مقدسة، أو تدور أحاديث حول أرواح قديسين أو جن تسكنها. وفقًا للبحث الذي أجراه عالم النبات العرقي رامي ساجدي، ما زال الاعتقاد بأن شجرتا السدر وعنّاب المسيح الشائك الموجودتان حول وادي الأردن والقدس وفي مدينة الكرك (جنوبي الأردن) تجسدان قيمة روحية. ويعتقد أهل المنطقة أن قطع هذه الأشجار المقدسة أو أخذ غصن منها دون إذن يمكن أن يؤدي إلى كوارث للأفراد والقبائل التي تسكن في محيطها على حد سواء.
مثلًا بالنسبة لبعض عشائر الكرك، فإن شجرة السدر في قرية بذّان بالتحديد محروسة بالأرواح المقدّسة، فلا يقطعونها ولا يكسرون منها غصنًا ولا يؤذونها بأي شكل كان، لاعتقادهم أن من يفعل فإن الشجرة ستلاحقه وتعذّبه.
لا بعل بدون رضى الأشجار
ما زلنا في الثقافة الشعبية في بلاد الشام نستخدم كلمة “بعل” عندما نشير إلى النباتات والأشجار التي تعيش على مياه الأمطار وحدها. وفي دورة الجفاف والمطر في هذه المنطقة، تجسد دورة البعل المأخوذة من الأساطير الكنعانية رمزًا للعَوْد السنوي.
يصارع بعل، الذي يمثل الخصوبة والمطر والوفرة، الجفاف وقساوة الطبيعة وفوضى موسم الأمطار الممثلة بالإله مُوت (إله الموت والجحيم الكنعاني)، والإله يم الذي يمثل رياحًا قوية وصقيعًا. اعتقد الكنعانيون أيضًا بأن ثمة دورة من سبع سنوات تتجاوز الموسمية السنوية، ويقترح البعض أنها قد تعني أن الجفاف الشديد والأمطار الغزيرة تتحرك في دورات من سبع سنوات.
مع ذلك، يتميز صيفنا بارتفاع درجات الحرارة وانعدام الأمطار. بينما يبدأ موسم الأمطار في أكتوبر (تشرين أول) وينتهي في مارس (آذار) أو أبريل (نيسان). لذلك في هذه الدورة، وبينما يكون في مقدور بعل التغلب على هذه العناصر من خلال إخضاع يم، والتغلب حرفيًا على مُوت (الموت نفسه)، لكن كل هذا لن يكون ممكنًا بدون موافقة ومشاركة العناصر الأخرى؛ فكل واحد منها يلعب دورًا حيويًا. الإلهة أشيرا هي أم كل الآلهة في المعبد الكنعاني. بدونها، لا يوجد شيء على وجه الأرض. ومثلما كان القدماء يعدّون الآلهة تجسيدًا للعناصر الطبيعية، يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة للأشجار.
يبدو أن أسلافنا قد فهموا بعمق أهمية الأشجار. في الأسطورة التي تدور حول الفصول، يريد بعل بناء منزله الخاص، وربما يرمز ذلك إلى ترسيخ مكانته في هذه الدورة. لكن قبل القيام بذلك، لا بدّ أن يحصل على إذن من والدته أشيرا.
أصبح النموذج الأصلي للبطل الذكر مهيمنًا على جميع الأنماط البدائية الأخرى، عندما أصبحت مجتمعاتنا أكثر أبوية، لكن في جوهر الأسطورة، كان أسلافنا يحاولون سرد قصة مختلفة. قصة تعاون و توازن، قصة حاجة كل العناصر إلى أن يكون لها مكانها وغايتها..
بالنسبة لي، يشير هذا الإذن إلى العلاقة الجوهرية بين الأشجار والمطر. لكي يمطر بعل، يجب أن تكون أشيرا (الأشجار) منسجمة معه وراضية عنه.
يشار إلى أشيرا أحيانًا بعبارة “هي التي تمشي على البحر”، ويبدو أن لها صلة قوية بالمسطحات المائية، وأحد أبنائها يم، إله البحر. كما يشير ارتباطها بالمياه إلى أهمية الأشجار وارتباطها الحيوي كمصدر للدعم في جلب الأمطار والخصوبة إلى الأرض.
عندما أصبحت مجتمعاتنا أكثر أبوية، أصبح النموذج الأصلي للبطل الذكر مهيمنًا على جميع الأنماط البدائية الأخرى. أعتقد، في جوهر الأسطورة، أن أسلافنا كانوا يحاولون سرد قصة مختلفة. قصة تعاون، قصة توازن، قصة حاجة كل العناصر حتى وإن كانت الموت وفوضى يم إلى أن يكون لها مكانها وغايتها.
أتذكر عمل عالمة بيئة الغابات سوزان سيمارد، التي وجدت أن أشجار الأم والجدة وأسلافهما تعيش في علاقة تكافلية وتعاونية مع شبكة الفطريات والنباتات والأشجار الأصغر سنًا من حولها. عمل هذه الأشجار، الذي عرفته الثقافات بالفعل لآلاف السنين، حطم فكرة المنافسة والتسلسل الهرمي عند أي كائنات غير البشر. أعتقد بضرورة رؤية دورة المطر البعل بنفس المنظار.
تصوير ديمة دعيبس
الأشجار المعمرة.. جسر العصور والأرض والسماء
إنها أكبر النباتات على وجه الأرض؛ فلديها حياة طويلة بعضها يمتد لآلاف السنين، لذلك تستثمر بكثافة في الطبيعة والبيئة المحيطة بها.
لنأخذ مثلًا البلوط الأطلنطي على وجه الخصوص والذي يتمتع بجذور قوية يمكنها أن تمنع تآكل التربة. كما أنها تساعد في الحفاظ على الرطوبة في التربة مثلما في الهواء، ويمكنها أن تبطئ الرياح.
يجسد طول عمر الأشجار هذا صلةً بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما أنها تقدّم حكمتها عبر أجيال من البشر، وتعمل كما لو أنها نقاط الوصل بين بطن الأرض وسطحها والسماء.
أثناء بحثي عن تاريخ الآلهة أشيرا، عرفت أن بعض علماء الآثار يعتقدون بوجود صلة بينها وبين قتيش أو قُدُش، الإلهة المصرية. الارتباط هو أن قدشو، (قدوسة)، وهو اسم آخر لأشيرا. في حين أن هذه الفكرة لم يتم الاتفاق عليها، إلا أنني مفتونة بالطريقة التي ما زلنا نستخدم بها اسمها إلى اليوم.
في اللغة العربية كلمة “مقدس” من جذر “قدس”. وهو جذر اسم مدينة القدس، أو الحرم المقدس، وحتى في الثالوث المسيحي المقدس، ما زال بإمكاننا العثور على الجذر قدس.
عدت مؤخرًا إلى زيارة البطمة الجدة التي تعيش على أطراف عمان، رأيتها تقف بين عدد من أشجار البلوط الأخرى، والأشجار الأمهات والجدات المهيبات. شعرتُ أنهن بعض ما تبقى من الحماية ومن قوت الأرض..
بالنسبة للعديد من ثقافات السكان الأصليين، فإن امتلاك الأرض يعني أن تكون حاميًا لتلك الأرض، على عكس هذه الفكرة القائلة بأن الملكية تعني فعل ما نريد. بالنسبة إلى الفلسطينيين، يُنظر إلى الأشجار والأرض على أنها مقدسة، وهي محمية على هذا النحو، ربما في إشارة إلى المعنى الحقيقي لما يعنيه امتلاك الأرض حقًا.
مشاهدة المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين يتعرضون للمضايقة والضرب والاعتقال والإيذاء في أماكن عبادتهم في القدس، أثناء كتابة هذا المقال، أعاد إلى ذهني هذه العلاقة القديمة بين الملكية والقدسية. إذا كان شيءٌ ما يخصك حقًا، فستفعل ما في وسعك لحمايته بدلاً من تدميره.
عدت مؤخرًا إلى زيارة البطمة الجدة التي تعيش على أطراف عمان، رأيتها تقف بين عدد من أشجار البلوط الأخرى، والأشجار الأمهات والجدات المهيبات. شعرتُ أنهن بعض ما تبقى من الحماية ومن قوت الأرض. لا تزال لافتة للبيع قائمة في مكانها. هل سنحمي الأشجار والغابات؟ هل سنتعلم ونتذكر أن نتحكم في قدرتنا على الطبيعة بدلًا من أن نتحكم في الطبيعة نفسها؟ حتمًا لا يمكننا النجاة بخلاف ذلك.