انتهى الصيف الحارق الذي شهدناه هذا العام في فلسطين، تفننت درجات الحرارة في آب باللعب بين المرتفعة والأكثر ارتفاعاً، وبينما يتذمر كثيرون من تلك الحرارة ويتحدث البعض عن علاقتها بالتغير المناخي، فإن لحرّ الصيف الفضل في نضج العنب والتين والصبر والعنّاب، ومن اللظى ابتكر اللسان الفلسطيني الأمثال التي تربط شدة الحرارة بالزراعة: “في آب (أغسطس) اقطف عنقودك ولا تهاب”، “في آب اقطع الشرش ولا تهاب”، “آب طباخ العنّاب”.. إلخ، كما ارتبط الصيف بحصاد القمح في تموز (يوليو) وتذريته في آب.
يزجي أهل بلدتي كفر راعي (23 كيلو متر جنوب غرب مدينة جنين) أوقات المساء صيفاً في ساحات المنازل بالسهر معاً، يجتمعون حول النرجيلة والهواتف الذكية وتناول البطيخ وما تجود به أشجار البيت من برقوق وعنّاب وعنب وخلافه.
لا شيء يعادل هذه الأمسيات، خاصة وأن المساء يجلب معه نسيم عذب بعد نهارٍ شديد الحرارة ورطوبة عالية. لكن في السنوات الخمس الأخيرة؛ تحولت هذه الأمسيات العذبة إلى عذاب على هيئة بعوضة لا صوت لها، سوداء بنقاط بيضاء، مصاصة للدماء، تستطيع لسعتها إنهاء أجواء الأمسيات الصيفية الخارجية نتيجة شراستها.
سهرة بأعراض جانبية
ما أن يدنو المساء، حتى ننتقل إلى الجلوس على كراسٍ بلاستيكية خارج المنزل. لقد انتظرنا أن يتلطف الجوّ بنا بما يكفي للخروج والاستعداد للسهر في باحة البيت، إذ يستحيل البقاء داخل المنزل بعد أن امتصّ حجر الباطون من الحرارة ما يكفي للتسبب بضغط لا يحتمل داخل البيوت.
بعد جلوسنا بقليل، تبدأ هجمات واسعة من بعوضة نعرّفها بـ”السوداء المنقطة“، لسعتها مؤذية ومؤثرة، تظهر أعراضها مباشرة، سواءً لسعتنا في أماكن مكشوفة كاليدين أو القدمين، أو من فوق الملابس، ولكن لا نعرف أصلها ولا منشأها ولا كيف وصلت فلسطين، ولماذا تحمل لنا الطبيعة القاسية بعوضاً غير البعوض الذي عهدناه دائمًا والذي يترك ندوبًا حمراء فقط.
مع البعوضة السوداء المنقطة، بدا لنا أننا عرفنا بعوضًا أهدأ وألطف من هذه، كما لو كان هناك سلالة محلية من نتاج بيئتنا الفلسطينية، وعلامة من علامات الطفولة عندما كانت آثار اللسعات تظهر نقاط حمراء صغيرة على الوجنتين أو اليدين، وإن كانت نقاط كثيرة، فهذا يدل على أن ربة ذلك المنزل لم تشعل القرص الأخضر الطارد للناموس، أو لم تستعمل المبيد ذا الرائحة الكريهة المعروف بلقب “فليت”، والذي كثيراً ما لجأت إليه الأمهات في مكافحة القمل من رؤوس الأطفال.
تحوّل البعوض إلى أمر بغيض في السنوات العشرة الأخيرة، يلقي الناس في كفر راعي باللوم على مكب “زهرة الفنجان” للنفايات، هو السبب في انتشار البعوض في نظرهم، فقد ظهر المكبّ فجأة بالقرب من القرية. سألت “جوجل”: ما هي البعوضة السوداء المنقطة بالأبيض؟، أجاب بأنها بعوضة النمر الآسيوي، من سلالة الحشرات الخطرة القادرة على حمل الأمراض والفيروسات، ثم انفرطت الأخبار عن هذه البعوضة لأجدها وقد غزت العالم.
عندما كنت أعود سنوياً لزيارة قريتنا من المغترب، كنت أتعرض بشكل يومي ومكثف للسعات “النمر الآسيوية”، فيعلّق أحد أفراد العائلة إن “دمك جديد ومختلف لذلك تتعرضين للسعات كثيرة”، فأبدأ عهداً من الحكّ المتواصل والغزير تصحبه رغبة شديدة في مزيد من الحكّ حتى يبدو فيه الجلد مخدشاً ومجرّحاً ومتورماً، ولا تنفعه محاولات فرك مكان لسعة البعوضة بالثوم أو بالماء البارد أو عدم اللمس.
آنذاك، قررّت أن أبحث عن مبيد ذو فعالية عالية في البلد الذي كنت أقيم فيه حتى أنعم بصيف هادئ في بيت عائلتي، وخاصة أن لسعة “النمر الآسيوي” تعاند كافة مضادات الجسم، والمضادات الخارجية من أدوية ومراهم علاجية، وقد تختفي آثار اللسعات بعد أسبوع، لكنّ عنادها يترك بقعًا بنية اللون على الجلد.
تصوير: وصال الشيخ
المقاومة بالرش والحرق
أحضرت قريبتي عبوة بيضاوية وكأنها مرهم، قالت إنها حصلت عليها من الصيدلية، وهي مخصصة لإبعاد القارص وكافة أنواع الحشرات، ويمكن بالتالي أن ندهن أطرافنا المكشوفة فقط، اليدين والقدمين، وأن ذلك كافٍ حتى نمضي أمسية بالخارج دون انزعاج قد يشوشّ جلستنا.
بدت لي تلك العبوة آخر صيحات العلاجات الواقية من بعوض “النمر الآسيوي” إضافة إلى 46 صنفاً من البعوض تعيش وتتكاثر في بيئة فلسطين.
كان ذلك حلّاً فعّالاً على مستوى الملامسة المباشرة للجلد البشري، لكنه غير آمن، يقول مسؤول دائرة مكافحة الحشرات والقوارض في وزارة الصحة سامر صوالحة: “يجب استعماله مرتين شهرياً لأن هذا المرهم قادر على اختراق طبقات الجلد ويظهر أعراضاً جانبية”. تُرفق هذه التحذيرات، أيضاً، على الورقة الخارجية للعبوة، وتقول “يجب الامتناع عن تكرار الاستخدام في فترات متقاربة”.
لكن إن كانت التحذيرات تمنع استخدامه بشكل متكرر، فعلى المتضررين من بعوضة “النمر الآسيوي” البحث عن حلول أخرى.
ظهر في الأسواق وشاع بين الناس ما يسمّى بمبيد “الأسبرين الصحي” الذي توفرّه الصيدليات أو الأماكن المخصصة لبيع المبيدات الزراعية وغيرها. ورغم أنّ ثمنه ليس بسيطاً، ما يقارب الـ25 دولاراً للعبوة الكبيرة، أبدى غالبية الناس ارتياحاً لهذا المنتج بعد فقدانهم الأمل في تجريب أقراص الكهرباء والعبوات الكهربائية السائلة، ومبيدات الرّش الليلية سيئة الرائحة، أو الأقراص الخضراء التي تعمل بالإشعال، وغيرها من التجارب التي أثبتت فشلها أمام البعوض بشكل عام.
بدأت النساء في محيط بيتنا يتبادلن النصائح وطرق استعمال “الأسبرين الصحي” بخلطه بالماء وشطف أرضيات المنازل به، دون أن يترك آثاراً جانبية إن لامسته أيدي الأطفال، كذلك يمكن رشّه في الهواء وفي مختلف الأماكن لقدرته “العجيبة”، التي تؤمن بها جاراتنا، على طرد كافة الحشرات والزواحف، العقارب والسحالي والصراصير الحمراء وغيرها.
انتقلت سمعة هذا المبيد من امرأة إلى أخرى، ورغم أنه يوصف بالآمن لكنه يظلّ في دائرة المبيدات، أي أن الخطر والسموم حاضرة حسب هذا التصنيف. وتبقى تجربة “الأسبرين” تجربة ناجحة نسبياً، تستطيع فيها العائلات إبعاد البعوض وقضاء ليالٍ هادئة.
الاكتشاف الأول لـ”النمر الآسيوي”
عثر مسؤولو الصحة البيئية في وزارة الصحة عام 2012 على أول حالة لبعوضة النمر الآسيوي في مدينة قلقيلية شمال غرب الضفة الغربية. وسجّلت الوزارة أولى حالات انتشار البعوضة عندما وصلتها شكاوى مواطنين من لدغات مزعجةٍ وغريبةٍ من نوعها.
يقول صوالحة: “جمعنا عينات وبدأنا باختبارها حتى توصلنا إلى أنها بعوضة النمر الآسيوي، ثم عثرنا في ذات الأسبوع على البعوضة نفسها في مدينتي طولكرم وسلفيت، والآن تنتشر في معظم مناطق فلسطين”.
قدرة هذه البعوضة على التأقلم في بيئات وظروف مختلفة جعلها تنتقل من موطنها جنوب شرق آسيا وتغزو مناطق ودول لم تكن بالحسبان، مثل إيطاليا وباريس وسويسرا مؤخراً، كما أنها انتقلت إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 عبر مطار “بن غوريون”.
يقول صوالحة إن “أول ظهور للنمر الآسيوي سجّله عام 2003 في محيط المطار، وإلى عام 2007 وصلت إلى مناطق عديدة، منها مطار “اللّد” حيث تنتقل هذه البعوضة بالبضائع أو إطارات السيارات المتبادلة بين الدول، ويعود تاريخ تنقلها بين دول العالم إلى سبعينيات القرن العشرين”.
تمتاز هذه البعوضة بدورة حياة عصية على الانكسار، بسبب تكاثرها بأعداد مهولة وقدرتها على التأقلم في الأجواء الباردة جداً والحارة جداً أيضاً. ويفسّر كثيرون ذلك بتأثيرات التغير المناخي على البيئة والطقس وطبيعة الكائنات الحية أيضاً.
انتقلت هذه الحشرة من سيقان البامبو من دولة ما في جنوب شرق آسيا نحو العالم لتعلن عن قوّتها في تحدي ظروف التنقل والنقل والعيش في بيئة جديدة.
وتأهبت السلطات في مختلف الدول لمحاربتها دون أي قدرة على ذلك، فقد استطاعت بلدغتها المقيتة أن تساوي بين من يعيش في بلدة فلسطينية مع شخص يعيش بالقرب برج “إيفيل” في باريس أو في طبيعة سويسرا الساحرة.
علمياً، تعيش هذه البعوضة في المناطق التي تكثر في الأشجار والنباتات الخضراء والماء العذبة مثل مياه الأمطار، وتمتد دورة حياتها من مرحلة اليرقة إلى الشرنقة لحوالي 12 يوماً فقط، تضع بيضها فوق أسطح المياه الراكدة والمكشوفة، ثم في دورة حياتها على اليابسة قد تستريح على سيقان الأشجار أو الأوراق.
ووفقاً لصوالحة، هي تنتقل للعيش في الأماكن السكنية في براميل المياه أو عجلات السيارات التالفة التي توفر لها بيئة خصبة للتكاثر نظراً لتوفّرها على الرطوبة، وأسطح المياه التي تتجمع بها بفعل الأمطار أو تشكّل الندى أو أي مياه أخرى، أو على أي سطح بلاستيكي مثل الأكياس حتى تضع بيوضها فوقها. وتقاوم الجفاف وظروف الطقس المتطرفة، وتنشط في النهار أيضاً وعند غروب الشمس، لكنها لا تطير إلى مسافات بعيدة.
لا تهتم هذه البعوضة بالذات بنوعية الغذاء خلافاً لأنواع البعوض الأخرى، فـ”النمر الآسيوي” تتغذى على دم الإنسان والحيوان، مما يعني أنها قادرة على حمل الأمراض و22 نوعاً من الفيروسات، مثل حمّى الضنك التي يصاب بها الملايين سنوياً حول العالم.
كما تنقل حمى زيكا والشيكونغونيا، فضلاً عن الحساسية والتورم والاحمرار والحكة الشديدة حتى يتحول الأمر إلى التهاب موضعيّ، يشرح مدير الصحة.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
ساعات نهار ملغاة
تمضي عائلتي في منزلها المستقل ساعات ما بعد العصر خارج الأبواب، أي في الحديقة المحيطة به، كذلك معظم الجيران من حولنا. بيوت مستقلة ترافقها حدائق من أشجار مثمرة وورود زينة وما قد تجود به الطبيعة.
فحرارة الصيف تصل نهاراً إلى 36 درجة مئوية في مناطقنا، بل إنها في آب (أغسطس) سجّلت 47 درجة مئوية، وأمام الخيارات القليلة في بلدتنا المتوفرة لإمضاء الوقت، نخرج إلى الساحات في نزهة زمنية قصيرة لا تتجاوز العاشرة ليلاً.
نصادف حينها سيارة قسم الصحة التابعة للبلدية وقد وضعت جهاز رشّ الأزقة والشوارع في الخلف وبدأت بعملية الرش. إنها عملية تتولاها البلدية على مسؤوليتها الخاصة كنوع من الخدمات التي تقدمها لأهل البلدة.
يملأ الشوارع دخان محروق ناتج عن خلط مبيد يوصى عليه من السوق الإسرائيلية ويضاف له مبيد “الأسبرين الصحي”، وباستخدام البنزين في الحرق يولد دخان أبيض.
ويفضلّ إجراء هذه العملية في الأوقات الضبابية أو الغائمة حتى يستقرّ الدخان على الأرض كي يظهر مفعوله في التخفيف من حدّة الحشرات المنتشرة في البلدة، مثل “النمر الآسيوي” و”أبو مقرف” (حشرة سوداء صغيرة تطلق رائحة كريهة عند قتلها).
تكّلف عملية الرّش، على سبيل المثال، بلدية كفرراعي حوالي 700 شيكل (250 دولاراً) عن كل مرّة كما يؤكد مدير قسم الصحة هناك، أحمد ملحم، إذ بدورها لا تتكلف وزارة الصحة بمكافحة الإزعاج من الحشرات، وإنما تتولى مسؤولية الوقاية من الأمراض الناتجة عنها.
وتكتفي بتوزيع كميات قليلة من المبيدات على المجالس القروية والبلدية في حالة الوقاية من الأمراض فقط. وتلقي مسؤولية المكافحة من الإزعاج على المجتمع والأفراد الذين يتوجب عليهم تنظيف مصادر المياه، مثل البراميل أو الأوعية البلاستيكية وتجفيفها وإغلاقها بإحكام لمكافحة بعوضة “النمر الآسيوي”.
رغم ذلك، لا مناص من هجمات البعوض الأنثى التي تتغذى على دم الإنسان لمساعدة بيوضها على النمو.
قد نواصل حياتنا إلى جانب هذه البعوضة الشرسة، وفي طور ذلك قد نشهد تراجعاً لحياة الإنسان وعلاقته بطبيعته المحيطة لصالح حشرات أو أعراض أخرى نتيجة التغيّر المناخي وتبدّل أطوار الحياة، وأمام انكسار فعالية المبيدات أمام “النمر الآسيوي” والزواحف السامة مثل العقارب والأفاعي يلجأ البعض إلى حلّ قديم يُدعى “الشيد”.
تصوير: وصال الشيخ
الشيد.. أداة حماية قديمة
سعى الفلّاحون في بلادنا قديماً إلى إيجاد حلول مقاومة لخطر الحشرات والزواحف، فأوجدوا مادة الشيد ومصدرها الحجارة الكلسية.
يصف الكاتب غسّان دويكات في مقالة له كيف كانت تنتج هذه المادة بواسطة ما يسمّى “التشبّارة”، يقول: “التشبارة مكان واسع (في أرض ما) تُجمع فيه الحجارة الكلسية ومادة الاشتعال، وتكون فيه حفرة خاصة بالحرق، وتُنفذ فيها عملية إنتاج مادة الشيد. ومهمة هذه المادة هي تثبيت الحجارة بعضها ببعض، وللقصارة أيضًا، حيث تُكسى جدران الأبنية من الداخل بطبقة منها لإغلاق المسامات بين الحجارة، كناحية جمالية وصحية من جهة، ولعكس الضوء داخل البيت من جهة ثانية، لأن لون الشيد أبيض”.
بحسب دويكات، بدأ فلاحو فلسطين إنتاج الشيد في أواخر العهد العثماني، وهي عملية كانت تتم في موسم الصيف فقط، حين يكون جفاف التربة والحجارة والنتش أو الحطب.
وتمرّ عملية إنتاج المادة في عدة مراحل عملية وزمنية تصل لأيام عدة، قائمة بالأساس على حرق حجارة الكلس بعد تغطيته بنبات البلّان الشوكي المعروف محليا بـ”النتش”.
تتناقل ذاكرة النساء من الأجيال السابقة دور “التشبّارة” في حياتهنّ وكيف دخلت على خط حماية المنازل والأهالي من خطر الزواحف والحشرات، ولا تزال هذه المادة فعّالة إلى يومنا، إذ تُشترى عادة من الأسواق وترشّ حول المنازل على شكل خطوط بيضاء.
رغم ذلك، فقد قضى كثيرون على مواقع التشبّارة لصالح زراعة الزيتون، إذ نادراً ما توجد آثار تدّل على وجود تشبّارة في المكان، كما أنّ وفرة المبيدات حلّ بشكل كاسح لهذه المادة التي كانت أحد أعمدة التجارة الفلسطينية في السابق.