في البداية “نيهال”
8 يونيو 2013
كانت حبيبتي..كانت حبيبتي معي عندما جاءني الخبر، كانت حبيبتي.. قبل أن تصبح – ولحسن الحظ- زوجتي وأم أولادي، كانت تتجادل معي بأمر ما من أمور السياسة عندما رن هاتفي، كان اليوم قد انتصف والغروب قد حل بالفعل، عندما قام أحدهم بإلقاء الجمرة في أذني.
كنا في حي السيدة زينب حسبما أتذكر، لدقيقة ظللت أستوعب ما قال، كانت شفتا نيهال تتحركان في كلمات لا أسمعها، لم أشعر بشيء بعد ذلك سوى ذراعيها تضماني بقوة محاولة إعاقتي من الوقوع في تشنج بكائي مفاجيء، كان البكاء خليطاً من السعال والدموع والنشيج، وحرقة القلب التي تشبه فقدان الأم لوليدها.
كانت مشغولة بتهدئتي ومعرفة السبب في انهياري المفاجئ، وبعد فترة من الوقت لا أعلم حتى الآن مداها لكني أتذكر وجعها البالغ، استطعت أن أتمالك كلمات ثلاثة وأطلقها نحوها: حسام البمبي مات، فردت في عفوية ومباشرة: مين حسام البمبي؟ معذورة، فهي لم تكن تعلم من هو حسام البمبي، ساعتها كنت أعرفها من فترة تزيد على الشهر بقليل، لم تكن تعلم بعد من هو حسام البمبي، لكن هل استطعت أنا الملتاع من خبر رحيله والباكي على فراقه كما لم أبك عند رحيل أبي صديقي التاريخي والأقرب على مدار عمري وعمره، معرفة حسام البمبي؟
هل استطاع حسام نفسه..؟
بصيرة شاعر وشفافيته
“إن الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا أبداً أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السيء، لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة. لأنه لم تُعط لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة”
هكذا يخبرنا ميلان كونديرا (93 عاماً) في عمله “كائن لا تُحتمل خفته” كما جاءت إحدى الترجمات العربية للعنوان، أو “خفة الكائن التي لا تحتمل” كما في ترجمة أخرى، وإن كنت أميل للترجمة الثانية للعنوان فيما يخص الرواية، إلا أن الترجمة الأولى أقرب لروح القصيدة، القصيدة التي كتبها ونشرها حسام البمبي على حسابه الخاص بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، وتحديداً قبل عشرة أيام من رحيله، متنبئاً فيها بما سيحدث:
ختاماً مرحباً/ أنا ابن السما والأرض/ الشمس ربتني/ لما الدمعة كات تُحفر ف خدي/ القمر كان يطبطب عليَا/ ف آخر حكايتي الأرض ضمتني/ وحضنتني/ والقبر بقى سكني/ ورجعت أنا والتراب.. اخوات/ بس الأحبة والأهل والأصحاب/ نَدبوا وعيَطوا عشان مش حيرجعوا يشوفوني/ لا ضحكتي حتهون زعلهم/ ولا كلمتي تداوي جراحهم./ وحياة غلاوة الحُسين/ يا أحبة سامحوه/ ساب الدنيا بمزاجه/ هو الجاني وعليه مجني من نفسه/ ساب الدُنيا بإرادته/ مرضيش يزاحم اللعيبة/ وسابهم ف الدنيا يتلاعبوا. حُسام البَمبي .. 28-مايو- 2013
وفي مساء الثامن من يونيو لنفس العام نشر موقع جريدة اليوم السابع الإلكتروني خبراً بعنوان: مصرع طالب بالإعلام بعد سقوط سيارته من ارتفاع 20 متراً بمحور صفط اللبن.
حكاية كل يوم
أثناء دراستي الجامعية بكلية طب الأسنان -كمغترب- كنت أسكن في شقة إيجار بشارع “الهرم”، للدقة بأحد الشوارع المتفرعة من شارع “الهرم”، وللدقة أكثر بأحد الشوارع الرابطة بين شارعيَ “فيصل” و”الهرم” الشهيرين بمحافظة الجيزة، كانت جامعتي في مدينة 6 أكتوبر، وكان الموقف الذي يضم الميكروباصات التي تذهب إلى حي السادس من أكتوبر يقع على بُعد خطوات من شارع “الوفاء والأمل” الواصل بين الهرم وفيصل.
خمس سنوات سكنتها بشارع “الوفاء والأمل”، أغرب ما في تلك الفترة أنها وبعد مرورها بسنوات اكتشفت أنها قد حُملّت تماماً وتحديداً بمعانيها المجردة الحرفية “الوفاء” و”الأمل”، وفاء لذلك الشارع وتلك الشقة.
هذا الشارع الذي لا يعرفه حقاً سوى قاطنيه، بطابعه الخاص، والذي برغم كونه مليء بالمحلات التجارية والمطاعم والسوبرماركت والمكتبات لدرجة أن أياً كان ما تريده سوف تجده في هذا الشارع، إلا أنه ليس مزدحماً كشارع “العريش” مثلاً الذي يسبقه بشارعين لكنه يعاني ازدحاماً قاتلاً على مدار الساعة، على عكس “الوفاء والأمل” الهاديء نسبياً معظم اليوم والمُنشغل بإعتدال في فترتي الظهيرة وبعد العشاء، هدوء نسبي وأشجار خضراء وفلاحات في السادسة صباحاً، قادمات من الفيوم حاملات أكثر الفواكه والخضروات طزاجة.
“الوفاء والأمل” كليشيه قديم، حيث توجد الكثير من المناطق بجمهورية مصر العربية بالعاصمة والمحافظات تحمل نفس الاسم، جمعيات خيرية أنشأتها جيهان السادات زوجة الرئيس الأسبق أنور السادات، تساعد المعاقين والفقراء والأيتام، مقابر، جمعيات لقدامى المحاربين أو على أفضل تقدير شركات لبيع الأجهزة التعويضية، تحمل جميعها اسم “الوفاء والأمل”، وعود قديمة ودائمة وتاريخية بالوفاء وبالأمل لكن هل تتحقق؟ ربما.
ربما تحقق لي طرفاً من الخرافة أو الأسطورة في السنوات الخمس التي قضيتها في تلك الشقة، حيث أنني وعلى خلاف غيره من الشوارع أو المناطق التي سكنتها أشعر بوفاء حقيقي لذلك الشارع الذي تركته بلا أي زيارات لاحقة منذ ما يزيد على عشر سنوات.
لا زلت أتذكر تفاصيل الشقة، أتذكر المعلومة المدهشة لي وقتها والتي أخبرني بها الأستاذ تامر المحامي نجل الحاج سيد صاحب البيت ذي الأدوار الأربعة بأن من كان يسكن الشقة التي تشغل الدور الثاني بأكمله كان راقص الباليه المصري العالمي الشهير “أحمد يحيى” والذي كان بطلاً لفيلم يوسف شاهين “اسكندرية نيويورك” 2004 وعدة أعمال سينمائية وتلفزيونية أخرى، مدعياً -أو هكذا كنت أظن حينها- أن الشقة كانت “وش الخير” على “يحيى”، وكذلك ستكون عليّ.
البداية “كتاب”
2007- 2012 سنوات خمس كانت من أوفر سنوات حياتي من ناحية الدهشة والاكتشاف، شاب سواحلي -كما يقولون- من السويس ينزل إلى القاهرة، والتي يقولون عنها في السويس “مصر”، ليس لتحقيق حلم والدتي في أن أصبح طبيباً للأسنان بل لتحقيق حلم شخصي في أن أصبح كاتباً. كاتب متحقق يُطبَع اسمه على صفحات الجرائد وعلى أغلفة الكتب.
“الأمل” كان بلاحدود، أولاً في إنهاء هذا الكابوس الدراسي المُعطل للحلم وقد حدث بأسرع ما يمكن وبتقدير عام جيد جداً. وثانيًا في صعود هذا السلم الذي كنت أحسبه طويلاً فقطعته قبل أن أدري، أن ينشر اسمي على قصص وموضوعات بالصحف والمجلات فحدث، ثم أن أنشر كتاباً ففعلت، ثم أن أنشر كتاباً ثانياً بدار “ميريت” للنشر أحد أهم وأكبر دور النشر واكتشافاً للكتاب الشباب وقتها، فنشرت كتابين.
ثم تحقق لي وأنا لا زلت بتلك الشقة ما لم أكن أحلم به، وما لم يكن ابداً في سقف طموحاتي وأمنياتي، أن أحضر شخصياً باللحم والدم فعاليات “الثورة“، لأنطلق من شارع الوفاء والأمل بصباح الثامن والعشرين من يناير بصحبة صديقي الشاعر مصطفى حجازي قاطعين شارع الهرم مشياً على الأقدام منضمين للمسيرات، ثم مشتركين بالاشتباكات غير محرومين من الإصابات، مندمجين في الأحداث، وهناك في ميدان التحرير وجدنا حسام البمبي وباقي الأصدقاء منهم من كان في مسيرات أخرى ومنهم من كان موجوداً بالميدان .
لم يكن الموضوع وليد اللحظة كما قد يتخيل البعض، دعوة من “كلنا خالد سعيد” للتظاهر في عيد الشرطة.. لم يكن الأمر بسيطاً هكذا، كانت تلك فقط هي صفحته الأخيرة، البداية كانت أقدم، ربما بداية هذا الشوط كانت مع إضراب عمال المحلة بالسادس من أبريل عام 2008 -وربما أقدم- تجمع بعض الشباب تحت راية هذا اليوم وبدأوا في تجميع الأصوات الشبابية الرافضة والمتمردة وقتها عبر فروع لهم بجميع محافظات الجمهورية.
ومع التوسع الطولي والعرضي للحناجر الرافضة كان الغليان المركزي ينبئ بقرب الانفجار، نشاط حركة “كفاية” 2009، يليها تجمع “أدباء ومثقفون من أجل التغيير” بالعام ذاته، ثم النشاط الكبير لحركة “الاشتراكيين الثوريين” وغيرها من الحركات الشبابية الثورية.
كان وسط القاهرة مفعماً بالثورة ولكن ليس كما صدرت لنا الأفلام القديمة عن طريق طبع المنشورات وتجنيد العملاء السريين، فالسوشيال ميديا قد تكفلت بالأمر، لكن مقاهي وسط البلد كانت تزدهر بالكتابة، بالغناء والشعر، القصة والقصيدة والأغنية والتجمعات من أجل حفلة الكينج محمد منير، شلل من الشباب تشترك جميعها في وجود حسام البمبي كفرد منها.
هل كان يمتلك مهارة التواجد الآني في أكثر من مكان؟ أرجح الإيجاب ولا أستطيع النفي، إفيه للكبار فقط هنا يخلع الضحكات من القلوب خلعاً ، ثم قصيدة في مقهى آخر تبكي كل صاحب إحساس، ثم يصعد إلى “ميريت” يجالس الجميع ويضاحك الجميع ويعاود النزول، كان حسام البمبي معنا وليس معنا، مع الجميع وليس مع أحد.
وفي خلفية هذا المشهد النخبوي الثفافي المتمرد سياسياً كانت جريدة “الدستور” في إصدارها الثاني -مارس 2005- قد تسيدت المشهد صحفياً، وجذبت صفحة “ضربة شمس” التي كان يحررها خالد كساب مع مجموعة من الصحفيين والكتاب الشباب، قصص وقصائد ومقالات صعدت بمعظم أصحابها الآن للصفوف الأولى في الصحافة والأدب.
نشرتُ بصفحة “ضربة شمس” عدداً من القصص والمقالات، كما نشر حسام البمبي عدة قصائد، كان شاعراً بروح كبيرة وجسم نحيل وسن صغير لم يتجاوز العشرين، روحاً محلقة لم يستطع أن يحتويها الجسد المُتعب، لتأخذه مع الـ فيات 128 الحمراء وتطير من فوق الكوبري في مساء لم أستطع منع دموعي فيه لأول وآخر مرة عند فقدان أحد الأعزاء.
المصدر: صفحة حسام البمبي على فيسبوك
الموت كجواب غير نهائي
“وحدها الأسئلة الساذجة هي الأسئلة الهامة فعلاً، تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب، إن سؤالاً دون جواب حاجز لا طرقات بعده، وبطريقة أخرى: الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانيات الإنسانية، وهي التي ترسم وجودنا”
بالطبع لم يكن ميلان كونديرا وهو يتحدث عن خفة الكائن يعلم بسؤال حبيبتي: “مين حسام البمبي؟” والذي لم تكن تقصد أو تعلم أنه سيكون له مفعول السحر في بداية مشوار تهدأتي، فهو لم يكن سؤالاً ساذجاً بقدر ما يبدو عليه كذلك، هو سؤالاً وجودياً، لم يكن للبمبي نفسه أن يجيب عليه، لكن البمبي كان يملك ما لم يكن يملكه أحد وقت أن حدث ما حدث.
كانت الزيارة الأخيرة لأبي رحمة الله عليه لي بشقة الوفاء والأمل في بدايات 2012 قبل أن أتركها بشهور متجهاً لحي لسيدة زينب، أتى معه من السويس ببعض كنوز البحر أسماك وسوبيا و كابوريا، أكلنا بعضها سوياً وترك لي الكثير ما مليء الديب فريزر الخاص بثلاجتي الصغيرة، وفي عمقها خلف كل الأكياس أودع كيساً مميزاً بلونه الأسود الداكن طلب مني ألا أقترب منه لاحتوائه على أمانة سيأتي أحد الأشخاص ليقابلني ويستلمها مني بعد عدة أيام، بعد ضغط بسيط أعترف أبي باحتواء الكيس على عدة قطع من لحم سمك “القراض” السام، والمعروف بأعراضه التسممية العالية والتي غالباً ما تصل للموت بعد التناول بساعات قليلة.
زالت دهشتي – التي تفجرت عندما أخبرني أنه منشط جنسي-نسبياً عندما أخبرني عن التقنية المتبعة في سلخ وتنظيف السمكة، ثم نقع قطع اللحم البعيدة عن الرأس والذيل والأشواك في الخل والملح والليمون لأيام قبل تناولها، عاد أبي للمدينة الباسلة وبقيت أنا في فصلي الدراسي الأخير، أذهب للجامعة صباحاً ولوسط البلد ليلاً وفي المنتصف أسخن كيساً من الفريزر لأتناوله وعندما انتهت الأكياس – عدا الكيس الأسود بالطبع – أصبحت أشتري علبة كشري أو سندوتشين فول أو بيتزا صغيرة، أي وجبة سريعة حسبما تسمح الميزانية.
وفي أحد الأيام نسيت، وبعد يوم جامعي طويل صحوت فيه بالسادسة صباحاً ولم أعد إلى المنزل إلا في السادسة مساء نفس اليوم، وبعد تغيير ملابسي واستلقائي على أحد المقاعد نظرت للثلاجة المغلقة تذكرت أن أياماً بل أسابيعاً قد مرت ولم يأت الصديق لاستلام الأمانة، وأن قطعة واحدة صغيرة من ذلك السمك المشبوه قد تسكت الجوع، وأن غسلها بالخل قبل قليها جيداً في الزيت ثم رش ليمونتين كبيرتين عليها قد يقتل سمها تماماً، كل ذلك السيناريو تم تنفيذه بدقة بالغة، لأتلقى عكس النتائج التي توقعتها تماماً.
دوخة بسيطة وكأنها مدخل للنوم أو هكذا كنت أتمنى أن تكون، أستلقي على السرير وأقبض على الهاتف بيميني، يبدأ التنميل خفيفاً خادعاً متسرسباً نحو المركز، أفكر في مكالمة أحد أصدقائي الأطباء فتخذلني يدي الممسكة بالهاتف، أحاول تحريك رأسي لليمين واليسار فلا تتحرك إلا ميلليميترات قليلة بصعوبة شديدة، أحاول الصراخ فلا يخرج مني أدنى صوت، الشلل يغزو أطرافي ولا أستطيع تحريك إلا وسطي.
أحرك جسدي كاملاً وأتدحرج من على السرير لأقع على أرضية الغرفة، أزحف على وجهي ببطء شديد حتى أصل إلى الدرج أسفل الدولاب، بفمي أفتحه، وبفمي ألتقط منه سرنجة فارغة وأمبول كورتيزون، وفي نفس الوضع وأنا نائما على بطني على الأرض وبصعوبة بالغة أملأ السرنجة بالسائل وأحقنها لذاتي في العضل، بعد دقائق أجد أني قد استطعت الكلام.
أتصل على صديقي الطبيب مستغلاً التحسن القليل خائفاً ألا يكون كافياً إلا لعدة دقائق، يخبرني الصديق الطبيب بضرورة طلب الإسعاف وعمل غسيل للمعدة أغلق الهاتف في وجهه وأطلب حسام البمبي شاكاً أنه قد يكون بالمنزل، نسيت القول أن حسام يسكن في مواجهة شارع الوفاء والأمل مباشرة من ناحية فيصل، سألته إن كان بالمنزل وكانت إجابته بالإيجاب هي القشة التي تعلقت بها، وكان تعلقي على شكل جملة واحدة طلبت فيها منه إحضار عدد من السرنجات وأمبولات الكورتيزون وشرائط من أقراص الفحم من الصيدلية والإسراع بالقدوم.
طوال ثلاثين عاماً لم أكن قد سمحت لأحد أن يخترق جسدي بإبرة حقنة، لكني لا أعلم إلى الآن كيف دخل حسام البمبي إلى الشقة أصلاً، فما كنت أراه وقتها عبارة عن مشاهد متقطعة، أفتح عيني وأنا على الأرض لأراه يملأ السرنجة، ثم يعاد فتحهما وأنا على السرير والبمبي يفتح فمي ويلقي به بالأقراص تتبعها المياه، أشعر مرة بإبرة السرنجة تخترقني وأشعر مرات بحسام يتعارك مع أمه على الهاتف ويخبرها بعدم قدرته على العودة وتركي وحيداً، مشهد آخر لحسام ممسكاً بجريدة صانعاً منها مروحة ورقية أمام وجهي.
بعد 24 ساعة كاملة أتذكر أن فترة امتحانات منتصف الفصل الدراسي ستبدأ في اليوم التالي لمدة أربعة أيام، المشكلة ليست في المعلومات، المعلومات بدأ عقلي في استحضارها، الأزمة في الجسد، لم يعد لكامل عمله بعد، الشلل بدأ ينسحب بعكس انتشاره، من المنتصف للأطراف، لذا فاليدين والأرجل هي آخر ما سيتركه التنميل، الامتحانات في الأيام الأربعة على شكل اختيار من متعدد، فالاستخدام اليدوي سيكون في أقل نطاق ممكن.
أربعة أيام العكاز في يميني ويساري على كتف حسام البمبي، يأتي معي حتى كرسي الامتحان بداخل لجنة الامتحان، ينتظرني لمدة ساعة بالخارج ثم يدخل ليسندني حتى العودة للسرير، أربعة أيام حتى ينسحب السم بشكل كبير وتنتهي الامتحانات، فينقذني حسام البمبي من الموت مرة ومن الرسوب مرة ومن فقدان الأمل في البشر ألف ألف مرة .
عن البمبي
كتب الشاعر مصطفى حجازي متأثراً برحيل البمبي:
الباترينة/ اللي عرضنا فيها التجربة/ والدمع بالقافية/ السجع بالمغفرة/ ربط الكلام بالوزن/ الليالي اللي نِحسبها/ قبل امّا تبدأ/ “الخمرة مش متوفرة”/ والعِلبة مش كافيَة/ نمنع ساعات الانبساط/ عشان بنستنى المدد/ دخل علينا “البمبي” بالجلابية المقلّمة بالطول/ وأمرنا نبدأ الانبساط/ -صُبّوا الكاسات/ ضحكته ندهت آدان الفجر م المغرب/ وف نص القاعدة…سابنا ومشي/ كان مستعجل ع السما
حسام البمبي كان دائما ما يخبرني أني أشبه أخيه الأكبر المتوفي المرحوم حسن وانه لو كان قد عاش كان سيصبح في مثل سني الآن، كان سني حينها 27 وحسام 19 ، لو رايته ستخمن كونه في السادسة عشر لكن بمجرد أن يفتح فمه تجد أسنان سوداء ومتكسرة لطفل عجوز، طفل عجوز شقي يدخن من سن مبكرة لا يأكل جيداً ولا يهتم بأسنانه على الإطلاق.
واحد من أشقياء وسط البلد لكن وكأنه يعلم أن العمر قصير، فهل كانت حياة حسام البمبي قصيرة فعلاً؟ أم أن هذا القلب الرهيف لم يكن له ليتحمل أكثر من ذلك؟ أرى أني قد استمتعت كثيراً بلعبة الأسئلة التي بلا إجابات.
ليالي طويلة قضيتها مع حسام في شقة “الوفاء والأمل” ندخن السجائر نشرب الشاي والقهوة نستمع الى الموسيقى ونتحدث عن الفن والأدب والكتابة، كان حسام يتحدث عن حلم ديوانه الاول وكنت اخطط لكتابي الجديد، لم يكن البمبي صديقًا لى وحدي، كان بالنسبة لى من الخمسة الأقرب، إلا أنه كان يشعرني بأني الوحيد في ظل وجود العشرات، هكذا كان على الدوام مع الجميع ، حميمياً ورومانسياً.
لم أر واحداً يكره حسام البمبي بل لم أر واحداً ولا واحدة تقترب منه ولا تحبه، لم أراه يتشاجر على قدر ما رأيته، يكتب الشعر ويدرس الإعلام ويتاجر وفي الأسمدة والمبيدات – عمل العائلة- ويحلم ويحب ويطير، يطير نظرياً وعملياً، هل كانت قصيدة تلك التي كانت تطارده فوق الكوبري فأعمته للحظات عن رؤية الطريق أمامه ولما أفاق لم يجد مفراً لحظياً سوى الذهاب لأقصى اليمين ليطير، أم أنها حورية من الجنة قد هبطت خصيصاً لتأخذه لمكانه الأبدي؟ كل ما أعلمه هو ما كتبته عن حسام فور رحيله، وأكتبه كلما أتذكره، أنه نال المحبة وعُفيَ من رؤية الكابوس.
“ولكن العالم كان من البشاعة بحيث أن ما من أحد كان يريد أن يُبعث من بين الأموات”
كائن لا تحتمل خفته – ميلان كونديرا
المصدر: صفحة حسام البمبي على فيسبوك
اللقاء الأول
في المرة الأولى التي أرى فيها حسام البمبي قام بعمل مقلب في أضحكني أكثر مما أضحك الآخرين، وقد لفت انتباهي من اللحظة الأولى لسرعة بديهته الهائلة وذكائه اللافت وخفة ظله التي لا يخطئها مبدع، المكان فيلا المخرج الكبير علي بدرخان بمنتصف شارع الهرم، حيث كان ملحقا بالفيلا وقتها مبنى صغير تم تحويله لمكتبة لبيع الكتب وإقامة الفعاليات الثقافية، مكتبة بدرخان 2009، حفل توقيع جماعي لعشرة كتب كتبها عشرة كتاب جدد ينشرون للمرة الأولى، ودار النشر جديدة، نشرت طبعة واحدة من الكتب العشرة ثم أغلقت أبوابها بعد ذلك إلى الأبد.
كانت تلك المجموعة بعنوان “كود ساويرس” وقد أدرك البمبي اللغز بمجرد أن أمسك النسخة بين يديه، فتح الفهرس ورأى النصوص المكتوبة عن الأرقام بين القصص، جمع الأرقام وقام بالاتصال.
في ذلك الوقت كنت أقف بعيداً عنه بعدة أمتار، كنت واقفاً بين مجموعة من الأصدقاء وكان، رددت على المكالمة فقام بتهنئتي بالكتاب الجديد وبحفل التوقيع، وعندما سألت عن هوية المتصل رد بإسمه بمنتهى البساطة: معاك حسام البمبي، بسبب الضوضاء من حولى وضعف مزمن قديم بحاسة السمع سمعتها ” حسام البدري ” ، قربها مخي لأقرب تكوين لغوي مفهوم بالنسبة إليه وقتها، فاستفهمت : حسام البدري بتاع الأهلي؟ ، كان حسام البدري وقتها هو المدير الفني للنادي الأهلي قبل أن يصبح – وياللعجب- لتدريب المنتخب الوطني لكرة القدم، فرد في نفس البساطة: أيوة أنا حسام البدري بتاع الأهلي، لكن صوته لم يكن مثل صوت حسام البدري، ثم أن الضحكات من خلفي دفعتني للالتفات، لأجد ما يقرب من عشرة أشخاص منهمكين في الضحك، يتوسطهم شاب نحيل يرتدي شنطة رياضية ويرفع الهاتف على أذنه، أقترب وأسأله: كابتن حسام البدري، فتنفرج شفتيه عن ابتسامة واسعة، نتصافح، أصافح المجموعة التي كانت معه.
انتقلت مع حسام من مجموعة لأخرى يعرفني عليهم ومع الوقت اكتشفت سر الفارق الكبير في الكتب المباعة، تسعة كتب لتسعة كتاب سواى لم يبع أكثرهم إلا عشرة نسخ إلا أن كتابي باع في تلك الليلة وحدها ثماني وسبعين نسخة، اضطرت الناشر للخروج واحضار نسخ إضافية من سيارته لأنه لم يكن يضع بالمكتبة إلا خمسين نسخة فقط.
السر كان في صفحة “ضربة شمس” بجريدة الدستور، على مدار أكثر من عام توجد مجموعة إليكترونية للصفحة، لكتاب وقراء ومحبي الصفحة، تناقش تلك المجموعة محتويات الصفحة كل أسبوع ومن ضمنها قصصي ومقالاتي ولم أكن وقتها من متابعي السوشيال ميديا الجيدين ولا زلت، وعندما علم المتفاعلون بالصفحة بأمر إصداري لكتابي الأول قرروا الحضور وشراء المجموعة ومقابلتي وتوقيع الكتاب، ولا أقول أن هؤلاء وعلى رأسهم حسام البمبي قد صنعوا يومي، فيومها كنت أشعر بزهو امتلاك العالم أجمع، ولكن كل هؤلاء الأشخاص الرائعين قد صاروا رفقاء الرحلة فيما بعد، رحلة الدهشة والاكتشاف، والتي قرر حسام البمبي في لحظة ما، أننا لا نستحق دفء وجوده بيننا، أو أن العالم قد أصبح ثقيلاً ولا يتحمل كل هذا القدر من الخفة.
نيهال مرة أخرى
بينما أكتب عن حسام، تقترح عليّ زوجتي أن أدخل على صندوق الرسائل المشترك بيني وبين حسام البمبي “ماسنجر” لعلي أجد ما يمكن إضافته إلى الموضوع، أستحسن الفكرة وأتركها للنهاية، وعندما أقترب من إنهاء الموضوع أفتح صندوق الرسائل لأجد أن آخر ما بيني وبين حسام محادثة قصيرة يطلب مني فيها أن أرشح له رواية ليقرأها، كان البمبي على قصر عمره “دودة كتب ” كما يقولون ، قرأ المئات من كتب الشعر والتاريخ والقصص والمسرحيات ، لم يكن له طول بال على الروايات ونادراً ما أكمل رواية لآخرها، إلا أن تلك الليلة كان الأرق يفترسه ويرغب في رواية إما تدخله في النوم أو تسحبه بأحداثها حتى الصباح، كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي يطلب مني فيها ذلك الطلب، هل استطعت تخمين الرواية التي رشحتها له؟ نعم، هي، رائعة ميلان كونديرا، الكائن الذي لا تُحتمل خفته.