فجر يوم اعتيادي من شهري أغسطس أو سبتمبر، أصوات أعيرة نارية تقطع السكون. أقفز من فراشي لأتطلع من النافذة صوب تلك الشجيرات الوارفة الظلال، بنادق صيد (خرطوش) تتربص بالطيور المهاجرة. مشهد مكرر في مثل هذا الوقت من السنة في مدينتي طبرق الواقعة في أقصى الشرق الليبي، حوالي 150 كم عن الحدود المصرية.
لقد حل موسم هجرة الطيور، خاصة طائر اليمام القادم من مناطق أوروبا الباردة في الشمال إلى الجنوب الإفريقي هرباً من فترة الشتاء، ومعه تبدأ طقوس متأصلة بين معظم من أعرفهم من سكان طبرق الذين يتربصون بها، إما في المدينة أو يلاحقونها على طول الساحل الشرقي للبلاد.
إنه موسم “الوقعي” كما نسميه محلياً، ويمكن الجزم أن كل رجل في المدينة يتحول خلاله إلى صياد. جوّ المدينة العام يأخذ شكل منطقة صيد مفتوحة يباغتك فيها شخصٌ ما يحمل بندقية حيثما وليت وجهك: بين المباني، على الطرق الرئيسية، وحتى بالقرب من جزر الدوران أو عند الأشجار التي تحيط بسور مركز المدينة الطبي. إنه باختصار شغلهم الشاغل ما دامت أسراب اليمام تحلق في سماء البلاد.
جلّ اهتمامي ينصرف إلى تتبع مسار حياة طائر اليمام وهو يواجه خلال الرحلة سلسلة طويلة من اختبارات النجاة ما بين شراك وفخاخ تطلبه حياً وفوهات بنادق تريده ميتاً.
تُنقل سيارات الصيادين إلى مخيم “أم الغرانيق” في منطقة الهلال النفطي (قرابة 600 كم من طبرق) ، حيث أهم خط عبور للطيور المهاجرة القادمة من شمال المتوسط قاصدة الجنوب الليبي قبل التوغل في جنوب القارة لإمضاء فترة التشتية ..
تنتشر مخيمات للقنص على طول الساحل وبعضها في قرى قريبة من المدينة مثل القرضبه وراس الغزالة أو أبعد قليلاً مثل راس التين، بالإضافة إلى تمركزات أخرى تمتد على طول الساحل الغربي لمدينة بنغازي وصولاً إلى منطقة الهلال النفطي في وسط البلاد حيث مخيم أم الغرانيق الأشهر بين عشاق الصيد.
بعد عدة مشاورات تسنّت لي أخيراً فرصة الالتحاق برحلة قنص إلى أم الغرانيق رفقة الصياد عبدالسلام عبدالقادر، المنشغل صحبة أربعة من أقاربه بتجهيز “قافلة تموين” تكفيهم قرابة الشهر. كلفة الرحلة كبيرة لكن التشويق والتسلية يخففان من أعبائها على جيوب عبدالسلام ورفاقه إذ يتكفل كل فرد منهم بدفع ألف دينار.
نبهني ذلك إلى أن التكلفة المرتفعة للرحلة هي ما يجبر العديد من الصيادين على ممارسة هوايتهم داخل المدينة إذ ليس كل صياد سيهون عليه دفع المبلغ الذي دفعه عبدالسلام في ظل مشاكل عدم توفر السيولة النقدية في البلاد منذ سنوات.
التجهيزات التي يقوم بها هواة صيد الوقعي -وهم كُثر- ملفتة للنظر وتتم بشكل علني صاخب في ساحة كورنيش طبرق الفسيحة حيث تُحمل سيارات الدفع الرباعي على “زنطلون” وهو الاسم المحلي لشاحنة نقل السيارات.
يرى عبدالسلام أن النقل أجدى من قيادة السيارات المكشوفة ومواجهة مشاكل الطريق المعبدة من سرعة الرياح واختلال التوازن. يتحدث ذو الأربعين عاماً بينما تُحمل عربة مجرورة تحوي مؤناً ومعدات تخييم على الزنطلون.
غير بعيد منا يقف سائق الزنطلون أحمد جمعة واضعاً يديه على خاصرتيه مراقباً بصمت تحميل السيارات وفي لحظة ينفجر: “أنتبه جيداً لهذه الحمولة الزائدة.. إن لم نحسن شد وثاقها ستجلب لنا مشاكل”.
أحمد معتاد على نقل سيارات الصيادين إلى مخيم “أم الغرانيق” في منطقة الهلال النفطي (قرابة 600 كم من طبرق) ، وفيها أهم خط عبور للطيور المهاجرة القادمة من شمال المتوسط قاصدة الجنوب الليبي قبل التوغل في جنوب القارة لإمضاء فترة التشتية. يمضي أحمد صوب أم الغرانيق بينما يتابع الصيادون رحلته عبر الهاتف.
بشكل عفوي يمارس رفاق عبد السلام أدوارهم، فيتكفل صلاح جمال بمهمة الاتصال الهاتفي وحين يأتيه الخبر الأكيد يبلغ عبدالسلام الذي يرد مثل قائد عسكري: هناك ينتظرنا “ليمام” أو نحن من سينتظره، هي ساعات فقط.
مسارات هجرة اليمام. خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
طريق السيارات الغريبة
ونحن نهم بالتحرك عبر طريق طبرق اجدابيا (حوالي 400 كيلو متر) ، قلت بلهجتنا الدارجة “ليمام” لماذا نسميه “اوقعي” يجيبني عبدالسلام أن “اوقعي” أو “الوقعي” تعني طيور اليمام المهاجرة ومنها طائر القمري من فصيلة اليمام، ليقاطعنا صلاح جمال مضيفاً أن طائر الحجمي هو أكبر من القمري.
قطعنا الطريق المعبد بصعوبة بالغة نظراً لخطورته بوجود حفر وتشققات وانجرافات فهذه الطريق يستخدمها المسافرون من الشرق إلى وسط وغرب ليبيا وتعتبر وجهة للشاحنات المحملة بالبضائع من جمهورية مصر العربية، طريق يعرفها سكان اجدابيا بطريق الموت.
رغم طول المسافة إلا إن الطريق تضج بالحياة وبمئات الصيادين الذين يجوبونها جيئة وذهاباً وهم يقودون سيارات نوع جيب رانجلر وتويوتا أر توب، ما يميز بعضها أن سائقيها قاموا بقصّ السقف من الجهة الأمامية وهو أمر يفضله عبدالسلام، فالسيارة المكشوفة تساعده على قنص الطيور وتوفر له حرية المناورة والحركة السريعة كما تعطي أفضلية رؤية لأربعة قناصين دفعة واحدة.
السفر عبر طريق طبرق أجدابيا يبدو مثل حلم ترى فيه سيارات عفى عليها الزمن: مازدا أمريكية الصنع بجانبها تويوتا قديمة يعرفها العامة “بأربع فنارات” ولاند كرايزر تعرف بين قدامى السائقين برأس الحمار وهناك من يشبهها بالبقرة الضاحكة. كلها لم تعد تشاهد بكثرة داخل المدن منذ التسعينيات لكنها تجوب هذه الطريق الصحراوية بنشاط كبير.
يوقظني صياح عبدالسلام من حلم السيارات ذات الأسماء الغريبة محذراً للسائق: “انتبه انتبه أمامك حفرة”. يربت عبدالسلام على كتفي مطمئناً ليذكرني أن هذه الطريق هي طريق الحفر والتشققات التي لا تنتهي.
أخيراً تتراءى لنا مشارف أم الغرانيق عبر البحيرة المسماة بـ”بردي أم الغرانيق” وهي مثل أرض الأحلام لصيادي الوقعي. أرض مستوية تتخللها برك ماء وأعشاب متنوعة.
يملك عبد السلام خبرة بالصحراء تفوق خبرته بالشواطئ فيعطينا نبذة عن طبيعة تضاريس المنطقة: على شاطئ أم الغرانيق تنمو أعشاب وشجيرات صحراوية مثل “العتل والأثل“.. الرمال هنا ناعمة وقد تربك سائقاً ليس له خبرة في المناورة في الرمال.
مجتمع أم الغرانيق
بين شجيرات بردي أم الغرانيق انتشرت خيام متباعدة كل واحدة منها تضم خمسة أو ستة صيادين تجمعهم قرابة عائلية أو صداقة قديمة، بينما نصب بعض الصيادين خيماً أخرى أصغر حجماً تستخدم مطابخ لإعداد الطعام.
المشهد العام هنا يوحي بأنّي مدعو لمعرض أسلحة صيد غير مسجلة بينما مُنعت بناء على اتفاق عرفي بين سكان المدينة الأسلحة الحربية المغنومة خلال الحروب السابقة، مثل الكلاشنكوف، كي لا تستخدم في حال نشوب شجارات بين الصيادين.
أتجول بين الخيام يلفتني أن مجتمع أم الغرانيق عبارة عن مجتمع ذكوري بالكامل يضم شباباً ورجالاً وأطفالاً مراهقين، يحملون في الغالب بنادق ايطالية من نوع بريتا وبانيلي، تأتي بعدها بندقية بيكالو روسية الصنع وبندقية أف أن البلجيكية التي كسرت الحظر العرفي لأسلحة الحرب، أما الذخيرة أو “العلف” كما نسميها، فهي إيطالية من نوع “بي بي”، وهناك نوع آخر يسمى “ميراج”، ويتكفل تجار من مدينة مصراتة (غربي البلاد) بتوفيرها خصيصاً لصيادي طبرق.
في فترة نظام العقيد معمر القذافي لم يكن الصيد منتشراً على نطاق واسع كما هو عليه اليوم. كانت الدولة تشدد رقابتها على الأسلحة ولا تسمح بتداولها إلا بتراخيص وأذونات من البلدية.. الحال اليوم تغير !
التقيت الصياد عبدالناصر القبائلي كامناً في شق بالأرض السبخة قبالة البحر ينتظر أسراب اليمام والإوز ممسكاً ببندقيته القديمة من نوع بريتا ايطالية أوتوماتيك. يخبرني القبائلي أن الأسلحة في فترة التسعينيات من القرن الماضي أصلية الصنع وكانت تأتي إلى ليبيا بطرق غريبة نوعاً ما، أشهرها البندقية الأمريكية ذات السبطانة المفردة “فرده” وكان يأتي بها حجاج بيت الله الحرام العائدون من المملكة العربية السعودية، وهناك بندقية إسبانية مزدوجة الماسورة.
حدثني عبدالناصر عن استخدام الصيادين أحياناً لجهاز يعمل ببطارية السيارة ويصدر أصواتاً تجذب الطيور لكن كثرة استخدامه حولت هواية الصيد إلى تجارة رائجة وحرب إبادة لليمام.
خارج سلطة الدولة
في فترة نظام العقيد معمر القذافي لم يكن الصيد منتشراً على نطاق واسع كما هو عليه اليوم. كانت الدولة تشدد رقابتها على الأسلحة ولا تسمح بتداولها إلا بتراخيص وأذونات من البلدية.
حكى لي والدي أنه أثناء وجوده في الثمانينيات بإيطاليا اشترى بندقية صيد بريتا وبعد عودته إلى مطار بنينا، تحفظت جمارك المطار على البندقية لعدة أشهر ولم يفرج عنها إلا بعد استكمال اجراءات حيازتها واستخدامها.
الحال اليوم تغير ففي أم الغرانيق أسلحة تم اقتناءها من محلات متخصصة تتكاثر مثل الفطر في طبرق وتبيع الأسلحة والعتاد ومعدات الصيد بأنواعها من الملابس إلى المناظير والخيام وكلها تمارس نشاطها دون ترخيص.
غياب سلطة الدولة على هذا النشاط جلي إذ لم ألحظ خلال سنوات متابعتي لرحلات الصيادين أي عملية إيقاف لصياد أو مصادرة لأسلحة أو طرائد. ربما من قبيل المصادفة أن يقابلني خلال تصفحي للفيسبوك وأنا مستلقٍ في الخيمة مخاطبة من وزارة الداخلية بتاريخ 25 أغسطس (آب) 2022 لمديري الأمن بإصدار تراخيص حيازة الأسلحة والذخائر وتعميماً على التمركزات الأمنية بضبط أي سلاح غير مرخص. لم يهتم أحدٌ من الصيادين المشغولين بلعب الرومينو وتبادل أخبار الصيد بالخطاب ما أعطى فكرة واضحة عن مصيره.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
لا طعام دون قنص
خيم مجتمع أم الغرانيق الصغيرة تتكون من أشخاص يتقنون حرف مختلفة تسهل إقامتهم في هذا المكان النائي. الثلاثيني حليم ابراهيم يملك إلى جانب مهارة الصيد مهارات مطبخية جعلته صاحب حظوة بين رفاقه فهو ماهر بتحضير الطعام وبإعداد خبز التنور. هو يعتقد أن إعداد خبز التنور في الطبيعة له نكهة أخرى مختلفة تماماً عن إعداده في المدينة.
شغف حليم ورفاقه بالتفاصيل دفعهم لجلب التنور من طبرق حيث توجد ورش صغيرة تصنعه من طين الطفلة، أما الحطب فموجود بكثرة في الجوار ويفضل حليم اقتلاع الجذور الجافة من على وجه الأرض كحطب مثالي لخبز التنور.
لا يستعجل الصيادون الخروج للقنص إذ لا تصل أفواج اليمام إلى أم الغرانيق إلا قرابة التاسعة صباحاً ما يسمح لنا بالبقاء حتى تفوح في المكان رائحة خبز تنور حليم. بعدها ينطلق عبدالسلام وصلاح وبعض مرافقيهم إلى سياراتهم المكشوفة بحثا عن صيد ثمين في الجوار. يمارس عبدالسلام مجدداً دور القائد العسكري محذراً جيشه الصغير من إحداث جلبة تنبه الطيور لتقدمهم.
وفيما يستعرض مدمنو الصيد الجائر طرائدهم التي قد تتجاوز المئات بوضعها على مقدمات السيارات وتصويرها ونشرها على صفحات الوسائل الاجتماعي يهرع الأكثر رزانة بينهم إلى خيم المطابخ لإعداد وجبة الغداء المتأخرة. الأرز بلحم اليمام هو الوجبة المفضلة لدى الصيادين
ببساطة يشرح عبدالسلام خطته: “الطائر يفاجئنا وأحياناً نحن من نفاجئه وعادة ما يكون الحظ في صالحنا إذ لا يمكن له الهروب من نيران بنادقنا المتوثبة”.
تقنيات النجاة لدى الطيور تختلف ففي حين يرتبك بعض الصيادة عندما تفاجئهم أسراب الإوز القادمة من البحر والمحلقة على ارتفاع متوسط أو قريب من سطح البحر وتغافلهم وتهرب من مدى رمايتهم، فإن مصير اليمام محتوم بالوقوع بين أيادي الصيادين لأن اليمام حين يحلق فوق سطح البحر ويرى اليابسة يهوي إليها مندفعاً بكل قوة للراحة من عناء السفر ليجد بنادق البريتا في انتظاره.
تنتهي المغامرة مع غروب الشمس وحصيلة الصيد مرضية لعبد السلام القنوع، يتقرر بعدها العودة للمخيم الذي تغلب عليه حالة من البهجة الشبيهة بعودة الفرسان إلى مضاربهم بعد غزوة ناجحة. وفيما يستعرض مدمنو الصيد الجائر طرائدهم التي قد تتجاوز المئات بوضعها على مقدمات السيارات وتصويرها ونشرها على صفحات الوسائل الاجتماعي يهرع الأكثر رزانة بينهم إلى خيم المطابخ لإعداد وجبة الغداء المتأخرة.
الأرز بلحم اليمام هو الوجبة المفضلة لدى الصيادين. يتم طهي اليمام في قدر بوضع كمية قليلة من الزيت وإضافة البصل ومعجون الطماطم مع حبات من الطماطم الأخضر وقرون الفلفل الحار ورشّات من الملح والتوابل، وبعد نضج اليمام يتم إخراجه من القدر ويضاف قليل من الماء في القدر ثم يسكب الأرز ويترك حتى ينضج ليقدم في صحن كبير.
استراحة محارب
بعد خمسة أيام قضيتها في أم الغرانيق، قررت العودة إلى طبرق لإجازة قصيرة قبل السفر إلى مخيم رأس التين (120 كيلومترا غربي طبرق). تكفل رفيق الرحلة عبدالسلام بترتيب الأمر وفجراً كنت أركب سيارة دفع رباعي إلى جوار صياد يرغب في قضاء بعض أيام الراحة مع عائلته في طبرق.
عدم وجود معرفة بين الصيادين لا يقف عائقاً في التواصل والتعارف بينهم إذ يكفي أن تسأل أحدهم عن أوضاع الوقعي لينشأ على الفور قاسم مشترك.
التدخين بشراهة علامة مسجلة لدى هؤلاء لذلك يشعل السائق سيجارته وينفث الدخان بهدوء ويدعوني لمشاركته.. أرفض لكنه يكرر دعوته مستغرباً أن يرفض رفيق رحلة صيدٍ تدخين سيجارة. كررت الرفض مستفهماً عن خط سيرنا فيجيبني أننا سنمر عبر طريق اجدابيا الصحراوي وينفث دخان سيجارته بقوة مرحباً بي مرة أخرى.
ساعات التهمتها حكاياتنا المكررة والمبتذلة أحياناً، وبينما كان السائق مشغولاً بتدخين السجائر كان كلبه “بريكس” في صندوق السيارة الخلفي يلهث وينبح على السيارات العابرة. بريكس، الكلب الصغير والرشيق، وجه معروف في مخيم أم الغرانيق بتأديته خدمات مهمة وجلبه لليمام المتساقط أثناء الصيد.
شاكست رفيقي معاتباً على عدم تركه لبريكس في المخيم ريثما يعود. نظر لي بتأنيب مؤكداً أنه لا يمكن له الانفصال عن رفيقه الأنيس الذي يشعره بالزهو بين الصيادين.
راس التين.. أرض المغامرة الحقيقية
قضيت في طبرق يومين لم أشعر خلالهما بالحنين إلى مشهد الصيادين الذين يحملون بنادقهم ويتنقلون خلف أسراب اليمام التي تعبر سماء المدينة قبل أن أنطلق رفقة صياد آخر صوب راس التين سالكين الطريق الساحلي غرباً مروراً ببلدات التميمي أم الرزم وخليج البمبة. المنظر العام في رأس التين يخطف الألباب بشاطئه الرملي المحاط بأودية صخرية تتنشر فيها الأشجار والمياه العميقة الزاخرة بالأسماك. إنه بحق مكان مثالي للسياحة ولصيد الوقعي.
هناك كنت على موعد مع الصياد علاء عيسى المسماري الذي يقسم وقته بين الصيد وبين دراسة حياة الطير المهاجر. علاء نموذج ملفت للنظر بين أفراد مجتمع الصيد الجائر. الصياد الماهر الذي يقترب من توديع مرحلة الثلاثينيات من عمره والحاصل على شهادة جامعية في الحاسوب يصطاد على عكس أغلب رفاقه فقط ما يكفيه وما يشبع شغفه كصياد يدرك أهمية الحفاظ على اليمام من الانقراض وعدم المبالغة في قتله.
ممارسته الصيد في سن صغيرة رفقة صيادين يكبرونه عمراً وعمله كمرشد سياحي مع صيادي الطير الحرّ القادمين من دول الخليج العربي قبل ثورة فبراير سجلاه رقماً صعباً بين أقرانه. وإجادته الحديث باللغة الإنجليزية وقدرته الجيدة على التواصل جعلاه قبلة لعدد من خبراء الطيور الأوروبيين القلقين من دخول الطيور إلى الأرض الليبية.
رغم محاولات علماء وباحثين غربيين خلق بيئة صناعية تشبه بيئة الحياة في الجنوب الأفريقي فإن اليمام لم يتوقف عن تتبع مساراته الطبيعية والغريزية في الهجرة
في إحدى استراحاتنا خلال الصيد ناولني هاتفه النقال ليريني محادثات مع خبراء فنلنديين وتشيكيين يستفسرون عن مصير طائرين من فصيلة الشحيم وبوقميح (تسميات محلية) وضعت في أرجلهم حلقات معدنية تحوي بياناتهما. المحزن أن كلا الطائرين لم ينجو بحسبه من القنص. الشحيم خرج من التشيك وقنص في مخيم القرضبة (40 كم غريي طبرق) أما بوقميح فقد سجل خروجه من فنلندا قبل أن تصيبه بندقية أحد الصيادين في مخيم صغير يسمى عين الغزالة (60 كم غرب طبرق).
نقل لي علاء مشاعر الأسف التي يبديها الخبراء عند علمهم بالنهاية الأليمة لعملية التتبع وضياع جهودهما في تسجيل مكان الطائر والمسافة التي قطعها وخط سيره وزمن رحلته.
يحدثني علاء بأسلوب الباحث الشغوف عن دورة رحلة الطيور المهاجرة التي تغادر معظم دول أوروبا شهري أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) نحو دول الجنوب الإفريقي التي تغادرها في شهر أبريل (نيسان) قاطعة مسافة طويلة لتجنب فساد البيوض بسبب برد أوروبا شتاءً أو حرّ أفريقيا صيفاً برحلة غريزية تتكرر كل موسم.
ورغم محاولات علماء وباحثين غربيين خلق بيئة صناعية تشبه بيئة الحياة في الجنوب الأفريقي فإن اليمام لم يتوقف عن تتبع مساراته الطبيعية والغريزية في الهجرة. ويكشف لي عن “استراحة أبريلية” يقضيها الطائر في منطقة الجبل الأخضر الليبية في طريق عودته إلى أوروبا لتشابه مناخها مع نظيره الأوروبي، ويؤكد لي أن طعم لحمه يتغير فيها بسبب تناوله زهرة عباد الشمس.
صيادون شغوفون وآخرون كسالى
للوهلة الأولى لا يختلف للناظر مخيم راس التين كثيراً عن أم الغرانيق لكن الأيام الخمسة التي قضيتها فيه كشفت لي أن الصيادين هنا هم أصحاب الأدرينالين الأعلى بين بقية المتربصين بمسار الوقعي في طريقه نحو دفء افريقيا.
بالطبع لا يمكن مقارنتهم بصيادي شوارع طبرق الذين قد يسير أحدهم متكاسلاً بضعة خطوات خارج بيته لينال صيده بأريحية قد يكون خلالها مصحوباً بأبنائه الصغار الذين يتسابقون لجمع الطرائد السهلة. وفي حين يحط الوقعي مرهقاً على يابسة أم الغرانيق ليجد الصيادين في انتظاره فإن شغف صيادي راس التين وتمركزهم في نقطة مبكرة يمر بها الطائر في أوج حيويته ونشاطه يسمح لهم باستعراض مهارات الصيد والطريدة عابرة في السماء.
هذه الفروق بين المعسكرين انعكست أيضا على مواعيد بداية الصيد اليومي ففي حين يستيقظ صيادو راس التين قبل بزوغ الفجر مترقبين وصول الفوج الأول، يتسنى لصيادي أم الغرانيق أن يناموا في خيامهم إلى قرابة التاسعة صباحاً.
الفوارق تتجلى أيضاً في مواعيد تناول الوجبات فمعظم وجبات الغداء التي تناولتها مع عبدالسلام ورفاقه كانت مع مغيب الشمس الذي تتوقف فيه البنادق تماماً عن الصيد. أما رفاق علاء فغداءهم مبكر إذ لا نبلغ منتصف النهار إلا وقرقعة القدور والأواني تملأ المكان.
ضحية التفرد
قد يختلف وعي الصيادين فهناك صنف شاهدته يسابق الوقت في الظفر بأكبر عدد من الطيور للتباهي بقدرته على القنص والتصويب وصنف آخر يعتبر الصيد هواية ويكتفي بوجبات معتدلة ولا يطلق طلقة إلا بحسابها، لكن في الحالتين الخاسر الأكبر هي الطيور التي ينتهي بها المطاف مكدسة على مقدمات السيارات أو في قدور تغلي على نار هادئة.
يرجع هؤلاء ولههم بالطائر إلى لحمه الخالي من الكوليسترول وطعمه الشهي المختلف عن بقية الحيوانات، بيد أنهم يحجمون عن تفسير إفراطهم في قتله. إنه طائر وقع ضحية لتفرده.
خمسة أيام أخرى كانت كفيلة بأن أبلغ مرحلة التشبع من عالم الوقعي ورجاله لذلك قفلت عائداً إلى طبرق لألبي دعوة وصلتني للقيام بتغطية صحفية لبطولة الدولة للسباحة في المياه المفتوحة.
في اليوم الختامي وبينما كان الفائزون يحتفلون بميدالياتهم كنت أسمع بين حين وآخر أصوات طلقات خراطيش تأتي من خارج أسوار نادي السباحة ومعها تتعالى تنهيدات السباحين المشتكين من تفويتهم لموسم الصيد للمشاركة في مسابقة سباحة.
تنتهي المسابقة وينفضّ الجمع وفيما أهم بركوب سيارتي أجد قبالتي شابين يتهامسان وهما في وضع القرفصاء وفوهات بنادقهما مصوبة نحو زوج من اليمام يحط على جذع شجرة قريبة. أومئ لهم محيياً كي لا أفشل المهمة وأشغل سيارتي وأمضي في سبيلي وأنا أتخيل المصير المحتوم الذي ينتظر الزوج المسكين.