لم يحتاج سائق التاكسي وقتًا للتفكير ليرد على سؤالي الغريب “بما أنك تعيش في مدينة السادس من أكتوبر، أين يمشي سكان مدينتنا؟” رد باندفاع “يا مول العرب يا مول مصر”. كنا حينها نقطع محور جمال عبد الناصر في الاتجاه لوصلة دهشور حيث مجمع المطاعم والكافيهات، في مدينتنا -التي صدر قرار بإنشائها عام 1979- اعتدنا أن نقطع المسافات القصيرة والطويلة لنصل إلى نقطة معينة باستخدام العربات، تطبيقات رحلات التوصيل، التاكسيهات، الميكروباصات، أو عربات الربع نقل وهي أرخص المواصلات ثمنًا، والمشي ليس أول الخيارات المطروحة أمامنا، فالمسافات طويلة ومرهقة والسماء المكشوفة وشمسها الحارقة عدو رؤوسنا الأول والمشي في الليل تحت أضواء أعمدة الإنارة ليس آمنا، خاصة للنساء.
لم يكن اختيار المول مكانًا للمشي والتنزه رفاهية بل الاختيار الوحيد المناسب. أكمل السائق حديثه معي بنبرة يغلب عليها التساؤل والحيرة وهو يحسب التكلفة المادية التي يدفع ثمنها في كل مرة يصطحب فيها أسرته للتمشية في المول، يتكبد مشتروات لم تكن في حسبانه، ومشروبات له ولأسرته ستتعدى ميزانيته المحدودة، لكنه ضحك لأن ركن التاكسي في ساحة انتظار المول مجانية، وهو الشيء الوحيد الذي لن يدفع له مقابل في هذه النزهة.
بعد أن أنهيت مشواري وفي طريق العودة غيرت وجهتي، كتبت على خريطة جوجل “مول العرب”.
تحركت من ساحة انتظار السيارات إلى أول بوابة دخول أمامي، وفي لحظة انتقلت من الخارج إلى الداخل، ابتلعتني أصوات المول، أضواء النيون، حركة الناس المتنقلة بين المحلات في ساحة المول الطولية. إذا كان معنى المشي -كما يقول فريدريك جرو- أن تكون في الخارج حيث الهواء الطلق فإن المول في حد ذاته داخل، لكنه داخل يسعى للامتثال لسياقات الخارج، هنا ينفصل المشّاء زائر المول عن منطق المدينة بالخارج فيصبح بشكل مؤقت جزءًا من مدينة المول، يمشي وفقًا لخريطتها ويمارس مشيًا من نوع مختلف.
خط واحد
تمنحنا خريطة المول مسارات المشي بداخله، وهو في الحقيقة خط واحد متصل وملتف حول نفسه لا يقطعه أدوار علوية أو سلالم كهربائية، إنه اتجاه واحد للذهاب والعودة، وعلى الجانبين تتجاور واجهات المحلات التجارية التي يتم تقسيمها إلى مناطق وكل منطقة بها محلات ذات مستوى متشابه في طبيعة أسعاره وشريحة الجمهور المستهدفة في عملية الشراء، لذلك يبدو أمام خريطة المول أن الجانب الأيمن مخصص لشريحة اجتماعية معينة، والجانب الأيسر لشريحة أخرى أقل منها، ويفصل بين الجميع الساحة الخارجية الكبرى حيث النافورة الراقصة التي تبث أضوائها على نغمات الموسيقى.
قراءة خريطة المول دفعتني إلى التفكير في مسار آخر موازيًا للمشي الذي جئت لأتتبعه، هنا يتجاور فعل المشي مع عملية التسوق، أو كما تشير أستاذة علم الاجتماع منى أباظة عن فكرة الفيلسوف والتر بنيامين بأنه “يمكن النظر إلى التسوق على أنه شكل من أشكال التسكع”. يضع بنيامين التسكع في شوارع المدينة في سياق معرفي، فالمتسكع في رأيه ليس متجولاً فحسب بل يمنحه هذا التسكع سياقًا لقراءة المدينة، ما يراه في تسكعاته اليومية، ما يسلكه من طرق متقاطعة ومتشابكة، كل هذا يضيف معنى جديد في قاموس قراءته للمدينة. تثير هذه الفكرة بداخلي سؤال عن معنى المشي داخل مدينة المول.
عالم ما قبل المول
خطواتي في المول واضحة، أحفظ خريطته لأني أملك تاريخًا طويلاً من المشي بداخله، المشي يعيد تأكيد رسم الخريطة في ذهني ويفيد خرائط جوجل مابس في التأكد من أن الإحداثيات محدثّة بشكل مستمر. داخل المول لا أحتاج لخرائط جوجل، لكن في مدينة السادس من أكتوبر -التي أسكنها فيها أنا والمول- أحتاج الخريطة لأتفادى المشي في الطرق السريعة ولاحتمي في الحارات الآمنة وأتفادى التوهان في أحياء المدينة التي تتشابه في مبانيها السكنية.
لم أحفظ حتى الآن خريطة المدينة ولم أمشي في كل شوارعها، والمفاجأة أنني تعرفت على خريطتها الحقيقية وتقسيم أحياءها الاثني عشر من قصة “خريطة العقرب” للكاتب المصري أحمد وائل من مجموعته “تربية حيوانات متخيلة”.
“يقابل الأول السابع، الخامس يوازي الحادي عشر، السادس يواجه الثاني عشر، هكذا يرسم خريطة المدينة واضعًا أحياء السادس من أكتوبر مثل أرقام الساعة الاثني عشر متقابلة، سكانها يتحركون لصناعة دبيب الزمن لهذه الساعة المتخيلة”.
إذا كانت مدينتنا تشبه الساعة في تقسيمتها الجغرافية فإن المشي فيها يشبه مشي عقرب الدقائق في الساعة، والسير بالعربية يشبه قفزات عقرب الثواني، هكذا كل شيء ونقيضه موجود عندنا، والطرق السريعة تغوي سكان المدينة لركوب السيارات وتبعدهم عن الرغبة في المشي في الخارج حيث الصحراء والطرق السريعة. هنا يصبح المشي بداخل المول له دلالته، ويدفعنا لتأمل خريطة المدينة التي لا تتبدل ملامحها.
تقف مدينة السادس من أكتوبر في منطقة وسط من الزمن، بين القديم والحديث، يعود تاريخ وضع حجر أساسها لمارس عام 1981، وضعه الرئيس الراحل السادات؛ يمكننا قراءة التغيرات الزمنية لجيل الشباب في عهد السادات وهم في خضم أزمة البحث عن شقق سكنية للزواج فإذا بالرئيس يعدهم بمدينة جديدة في قلب صحراء دهشور بالجيزة وتبعد قرابة الـ 40 كيلو متر عن القاهرة، أمل يبنى على مهل وحصاده سيُجنى في سنوات.
السير بداخل الأحياء السكنية يضعنا أمام سردية موازية لقراءة سكان المدينة، طباعهم ومستوياتهم الطبقية والعمرية، سكان المدينة هم الأجيال المتعاقبة، جيل الشباب في عهد السادات الذي أصبحوا آباء يعيشون الآن مع أبناءهم وأحفادهم أيضًا، فتتجاور الأسر القديمة مع الأسر الجديدة التي تبدأ حياتها في مدينة اكتسبت عمرًا وتاريخًا ولم تعد مدينة جديدة كالسابق، لكنها مدينة تحاول أن تجاري الزمن.
ميدان الحصري هو النقطة المركزية التي تربط أحياء المدينة الاثنا عشر كلها في نقطة واحدة تتجمع فيها محطة وسائل المواصلات والمحال التجارية والمطاعم والقهاوي الشعبية والباعة الجائلين، هذه النقطة المزدحمة لا تشبه هدوء المدينة وشوارعها الساكنة، بل هي أقرب نسخة ممكنة لوسط القاهرة الكلاسيكي ونقطة انطلاق مركزية ومساحة محدودة للتسكع النهاري والليلي
يتجاور الزمن القديم الساكن مع شباب الألفية وجيل الثورة صاحب الإيقاع السريع، والجيل الأول الذي جاء إلى تلك المدينة المهجورة يبحث عن بيوت للسكن وبداية حياة جديدة في الصحراء لم تشغله مظاهر الرفاهية، لكن الجيل الجديد من الأبناء يبحث عن المتعة والترفيه، يريد مواكبة سرعة الحياة وإيقاعها بعيدًا عن شوارع المدينة الغارقة في سكونها.
في بدايات الألفية أنشئ مركز تجاري “سنتر” ذو طوابق في كل حي ليستوعب المحلات التجارية وتكون قبلة سكان المدينة للتسوق، لكنها لم تصمم للنزهات والمشي الطويل والتسكع. في ديسمبر 2010 تم افتتاح مول العرب، وهو أول مركز تجاري ضخم على مساحة كبيرة يتم تأسيسه في مدينة السادس من أكتوبر أثناء فترة انفصالها عن محافظة الجيزة (أُعلنت المدينة كمحافظة مستقلة في 2008 ثم تم إلغائها في 2011) والمول ينتمي لشركة مراكز للتطوير العقاري التي أسست في مصر عدد من المراكز التجارية أهمها مول العرب، وتعود ملكية مراكز إلى عائلة الحكير السعودية التي تعمل شركاتها في الاستثمارات العقارية وإنشاء مراكز التسوق ومحلات الأزياء والأغذية والترفيه والفنادق.
تركيز سكان المدينة على المول كوجهة أساسية تجمع بين التنزه والتسوق يدفعنا للتفكير في المدينة نفسها قبل إنشاء المول، يمكنني تلخيص الأمر في خواء المدينة وعدم وجود مساحات للترفيه عن السكان الذين انعزلوا عن العاصمة للعيش في الصحراء، لا مكان غير الشارع للنزهة، وأضحت المدينة بحاجة إلى منطقة مركزية للنزهة، وأصبح منتصف عقارب الساعة هو ميدان الحصري.
يعتبر ميدان الحصري هو النقطة المركزية التي تربط أحياء المدينة الاثنا عشر كلها في نقطة واحدة تتجمع فيها محطة وسائل المواصلات والمحال التجارية والمطاعم والقهاوي الشعبية والباعة الجائلين، هذه النقطة المزدحمة لا تشبه هدوء المدينة وشوارعها الساكنة، بل هي أقرب نسخة ممكنة لوسط القاهرة الكلاسيكي ونقطة انطلاق مركزية ومساحة محدودة للتسكع النهاري والليلي، وبمرور الوقت تحول الميدان إلى مساحة شعبية يجد فيها أبناء الطبقة أقل من المتوسطة ملاذًا لكنها لا تتناسب بحال كل الطبقات خاصة سكان الكومبوندات والأحياء المسّورة الذين يحتاجون مساحة آمنة وحتمًا لن يجدوها في الشارع.
يبدو المول الآن وجهة منطقية تجمع بين كل وسائل الترفيه المفتقدة في هذه المدينة التي لا يريد سكانها أن يقطعوا مسافات طويلة للخروج منها إلى القاهرة بحثًا عن الترفيه وقضاء وقت الفراغ، أو اللجوء إلى مولات حي مدينة نصر في الجانب الغربي للقاهرة، فماذا لو أصبح إنشاء مول بمواصفات مختلفة هو وجهة تستقطب سكان المدينة وأيضًا سكان الأحياء المجاورة؟
مدينة لا تنتمي للمدينة
اخترت أحد الكافيهات لأجلس على طرفها المفتوح على ساحة المول الداخلية لأشرب مشروبًا ساخنًا وأراقب حركة الناس وإيقاع مشيهم، كل الطبقات الاجتماعية والجنسيات الأجنبية تمشي جنبًا إلى جنب، كلٌ يعرف وجهته، وقلة يستكشفوا مسارات الحركة، لكن لا أحد هنا يشعر بالغربة، ثمة شعور خفي بالانتماء لهذه المكان.
إعادة النظر إلى خريطة المول تمنحني شعورًا قاطعًا بأن المول في حد ذاته لا ينتمي للمدينة بقدر ما ينتمي لنفسه، هذه المساحة المستقطعة من أرض المدينة تخصه وحده، تجعله مدينة خاصة لها داخلها وخارجها، مدينة لا تحتاج إلى لغة بعينها للحديث، ولا هوية محددة لسكانها، هي التي تمنحهم الهوية وتجعلهم ينتمون لها، وكل فئة تعرف المنطقة التي تنسجم في التجول والجلوس فيها. لفت نظري أن الزوار العرب خاصة من دول الخليج يختارون المول تحديدًا لقضاء الوقت فيه، يبدو أن هناك سببًا يسهل تخمينه.
سيكون الأمان أول الإجابات المنطقية، يبحث السائح عادة عن أكثر المساحات الآمنة لينعم بوقته فيها دون خوف على أمانه، والمولات تمنحه هذا الأمان بداية من بوابات الدخول وأجهزة التفتيش ووصولاً لأفراد الأمن المتواجدون في كل مكان وكاميرات المراقبة التي ترصد الحركة داخل المول وخارجه.
وإلى جانب الشعور بالأمان فإن خريطة المول لن تشعر الزوار بالتيه والغربة فهي لا تختلف كثيرًا عن خرائط المولات في بلدانهم، فهي مساحتهم الخاصة للتنزه بعيدًا عن القيظ بالخارج، للمشي بعيدًا عن شوارع تلتهب من شدة الحرارة. في مول الأڤنيوز بمدينة الكويت توجد مساحات محددة بداخل المول هي نماذج معمارية مطابقة لشوارع المدينة وأسواقها القديمة، صممت لتمنح الزوار شعورًا مفتقدًا وهو المشي في شوارع مدينتهم، قد ينسى سكان المدينة الشوارع التي ينتموا لها بسبب الحراراة المرتفعة أو البعد عن العيش في المدن والأحياء القديمة، لكن بالإمكان أن نمنحهم هذه الشوارع حتى لو بطريقة مصنعة وغير حقيقية.
مشي نقيض المشي
أثناء مراقبتي لتسكع الشباب والعائلات داخل المول أصبحت الحركة من حولي تشكل إيقاعًا خاصًا يختلف عن فلسفة الكاتب فريدريك جرو في المشي؛ يقول جرو أن المشي قادر على تحريرنا من أوهام الأشياء الضرورية، وأننا أثناء المشي نمارس تجربة الحياة خارج المنظومة، وأن المشاء يتمتع بوحدته لأن المشي في فلسفته يعني الحرية، أن تكون مجرد جسد، لا أحد، أنت تمشي وحدك دون ذاكرة أو تاريخ.
بإمكاني أن أقارن بين فلسفة جرو في المشي وبين المشي داخل المول باعتبار الأخير يعكس كل متناقضات هذه الفلسفة، فالمشي بداخل المول يعني حتمًا أنك ضمن منظومة معينة بل جزءً منها لا ينفصل عنها، ومن يمشي فيها يعلن انتماءه لها وانسلاخه عن ذاته ووحدته، إذا كان ذهنك شاردًا في واجهات المحلات ولافتات الخصومات وإعلانات المعروضات الجديدة فأنت تفكر في إطار الخيارات المتاحة أمامك، لا تختار طريقك في التسكع بل تمشي في مسارات محددة لك مسبقًا، تمامًا مثل ألعاب المحاكاة التي نحرك فيها الشخصيات للمشي في إطار عالم إفتراضي له جغرافيته الخاصة وخياراته المحدودة، ونحن من نتحكم في مشيهم.
التسكع التسوقي يمنحنا عيونًا جديدة، نظراتنا موزعة بين واجهات المحلات هنا وهناك، والنظرة تجذبك إلى محلات محددة، بضائع جديدة، البعض تحتاجه والبعض الآخر لم يكن في خطة حساباتك الشخصية، لكنك في سياق التسوق دخلت في حلبة البيع والشراء التي عليك أن تتقدم في المشي أكثر لتشتبك معها أكثر وتكون طرفًا فيها، بإمكانك أن تمتلك كل ما يعرض أمامك وتقع عليه عينك، أو حتى تتخيل أنك تمتلكه فيتكون في قوائم أحلامك، يستحيل هدفًا تنشده في الزيارات القادمة، ومع زيادة الراتب الجديدة، هذا التسكع لا يحررنا من أوهام الأشياء الضرورية بل يثقلنا بأشياء لم تكن أصلاً في الحسبان، فيختل توازن المشاء من التخفف من الحياة إلى الرغبة الزائدة في الامتلاك الذي بدوره يشعره باللذة واكتساب قيمة ما.
يمنحنا التسكع في المول مشاءً مستهلكًا، هذه صفقة رابحة.
مشي بقوة الظرف الاقتصادي
في هذا التسكع داخل أروقة المول لا يمكننا قراءة المشهد الاقتصادي بدرجة دقيقة، ولا يمكن القول أن هذه المدينة يعيش سكانها في حالة انتعاش اقتصادي لأنهم يتوافدون بكثرة على المولات، قد تكون الإجابة الأكثر دقة داخل المحلات التجارية وليس في طرقات المول وممراته الطويلة، هل حركة الشراء والبيع تسير بوتيرة جيدة؟ وهل المعروضات تتناسب مع طاقة المستهلكين الشرائية؟
تحدثت مع بائع يعمل بأحد متاجر الملابس التي اعتدت الشراء منها، والمتجر لا يزال يعرض ملابس رأيتها من قبل في موسم الشتاء الماضي، سألته عن هذه المعروضات القديمة وسبب خواء المتجر من أزياء جديدة، ابتسم لي لأن الإجابة معروفة دون شك، وأكد أن أزمة الاستيراد لا تزال موجودة بل وتتفاقم بمرور الوقت، فالاستيراد شبه متوقف والكثير من الأنشطة التجارية متعطلة بسبب الظروف الاقتصادية المضطربة وارتفاع سعر الدولار مقابل انخفاض قيمة الجنيه.. “محدش بقى بيشتري زي الأول، الحركة قلت والزباين بتفكر كتير قبل ما تشتري أي قطعة. كتير بيستني يوم زي البلاك فرايداي، وأيام الخصومات، مش بتعرفي تمشي في المول أصلا من كتر الزحمة، ساعتها هيبقى المول مش بتاع مشي، هيبقى شرا عشان فيه خصومات بس”.
ضحكنا، وتذكرت شكل المول في العام الماضي يوم خصومات البلاك فرايداي، احتلت النساء المول، ومنع الكثيرين من الدخول بسبب الإقبال الشديد وازدحام طرقات المول التي لم تتحمل كل هذه الأعداد.
كان “البارك” المنطقة الوحيدة داخل المول التي تصلح للتمشية التي أحبها وأفهمها، حيث الأشجار تحاوطني والأرض من تحتي ممهدة للسير عليها في مسارات بعيدًا عن العشب، مشي هدفه المشي فقط لا شيء أخر
لكن الركود الاقتصادي الحالي لم يمنع زوار المول من التجول داخل المحلات شبه الخاوية بل وتجريب الملابس الشتوية والبحث عن تخفيضات مختفية هنا وهناك. في المقابل فإن المطاعم والكافيهات لاتزال تحظى برواج وتوافد المستهلكين عليهم، بل أحيانًا يعلن عن فتح فروع جديدة لنفس الكافيه في نفس المول.
الكافيهات وساحة الطعام المفتوحة داخل المول تشكل في خريطة المول مساحة الاستراحة التي يلتقي فيها الجائعين والباحثين عن مقاعد للاستراحة من المشي، وهي أيضًا الاستراحة التي يأخذ فيها موظفي المول والمحلات ساعة “بريك” لتناول الغداء واحتساء المشروبات والجلوس بعد ساعات متواصلة من الوقوف. في هذه الساحة الكبرى يتبدل إيقاع المول، تتداخل الأصوات وروائح الأطعمة المختلفة، وتمتزج الوجوه المجهدة من العمل والمرهقة من فرط التسكع داخل المول، وحتى يتم إلهاء الأطفال أثناء استراحة أهاليهم في تناول وجبة الغداء تم استقطاع مساحة من ساحة الطعام مخصصة لألعاب الأطفال، بإمكانك هنا أن تلهي أطفالك في اللعب وتأخذ راحتك. وإذا كانت هذه الساحة تجمع فئة معينة من سكان مدينة المول، فإن مساحة استراحة أخرى للفئات الاجتماعية الأعلى تم التخطيط لها عام 2015 وتم تنفيذها والانتهاء منها قبل عامين، وهي “البارك”.
“البارك”.. حديقة مدينة المول
خريطة جديدة أضيفت إلى خريطة المول الرئيسية يتوسطها “البارك” وتحيطها مطاعم تنتمي لطبقة اجتماعية أعلى من تلك الموجودة في ساحة طعام المول الرئيسية، هذا الامتداد الجديد للمول يعيد تقسيم خريطته ويفصل بقدر ما ويحدد الفئات المتواجدة في هذا القسم وذاك، تقسيمًا يمكننا تلمسه في المدن الحقيقية التي تتجاور فيها الأبراج الشاهقة مع الأحياء الشعبية. و”البارك” الجديدة مغلقة على نفسها بأسوار وحراسة تنتقي من يدخلها وتمنح المطاعم التي تحاوطها امتيازات حصر الزوار على فئة معينة ومنحهم مساحة جمالية ما حيث الأشجار ومسارات مخصصة للمشي الرياضي، حديقة صغيرة تشبه الحدائق داخل الكومبوندات، لكن “البارك” تنتمي إلى مدينة المول.
على بوابة “البارك” يقف موظف الاستعلامات وموظف الأمن عند البوابة ويتفحصان جيدًا الزوار، فلا يسمح لأي أحد الدخول من أجل التنزه والتمشيه، وفي أيام العطلات الأسبوعية لا يدخل إلا زوار لهم حجوزات مسبقة في أي من مطاعم البارك.
كان “البارك” المنطقة الوحيدة داخل المول التي تصلح للتمشية التي أحبها وأفهمها، حيث الأشجار تحاوطني والأرض من تحتي ممهدة للسير عليها في مسارات بعيدًا عن العشب، مشي هدفه المشي فقط لا شيء أخر، وإذا احتجت الراحة أجلس على أحد الدكك وأنصت إلى صوت الطبيعة وهدوئها. و”البارك” في حد ذاتها خارجًا، فضاء لا يحده سقف، بل أسوار خارجية، لكنه لا يزال ينتمي إلى داخل المول، داخل منتقى بعناية، محدودًا وليس متاحًا للجميع.
تعيدنا خرائط المول من جديد إلى التفكير في المسارات التي تحدد لنا للمشي، مسارات تشبه أسئلة الفلسفة الوجودية الكبرى.. “هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟” وهكذا، لكني في غمار هذه الأسئلة تذكرت أني جئت لأفتش عن إجابة مختلفة: أين يمشي سكان مدينتنا؟