“أليس داخل المهرجة التي تضحك الناس شخص حزين !”
كانت هذه هي العبارة الأولى التي أواجَه بها عندما أقول بأني مهرجةٌ بدوام جزئي. تستفزني هذه العبارة ولكنني اليوم أقارب بين هذه المعلومة الكليشيه وحقيقة التهريج من خلال تجربتي. في عام 2014 تحولت في بيروت إلى امرأةٍ غير مرئية لا تراها ولا تسمعها الناس عندما تتحدث، كنت أشعر بأني ضحية، وأن لا أصدقاء لي، أو هل أصدقائي هم فعلًا أصدقائي؟ اتصلت بسابين صديقتي ومؤسسة جمعية “Clown Me In”:
“حاسة أني عم بعمل من حالي ضحية ومالي طايقة الناس اللي حواليي، بتعتقدي إنو ورشة التهريج بتساعدني؟”
“أكيد تعي بكرا عالورشة”، كان هذا جوابها وفعلًا هذا ما حصل.
كنت قد انفصلت عن صاحبي الذي كان مصدري للأمان، ولأنه كذلك انفصلت عنه. بدأت بالبحث عن شريكٍ أتبادل معه الأدوار فتارة أكون مظلته وتارةً يكون قوقعتي، ومع صاحبي هذا لم أكن لأكون مظلته وأنا أبحث عن الأمان في نفسي. نجوتُ من بين براثن التنمر من قبل أحد الزميلات في العمل، وجو العنصرية العام ضد السوريين، وذاكرتي المجزأة -سأشرح هذا لاحقًا- التي لم تسعفني أحيانًا على تذكر أسماء زملائي في المكتب وأسماء شركائنا في المشروع ضمن منظمة عالمية تعمل في مجال “حماية الأطفال”، لأنتقل لفصلٍ جديد من حياتي.
تعلمت خلال السنوات التي هرّجت بها، أن أحتفل بحماقتي! و”الحماقة” هي الترجمة الحرفية لكلمة fool والتهريج يعني The art of being fool أي فن اتقان الحماقة. ترجمت كلمة fool باللغة الإنكليزية: الشخص الذي يتصرف من دون حكمة، الشخص السخيف وهي تعني أيضًا المهرج وتحديدًا مهرج البلاط. والأحمق- المهرج في نظر جان هندرسون -خبيرة في الفكاهة- “له عيون ليرى وقلب ليدرك”.
وتعود أصول مهنة التهريج تاريخيًا إلى عصور ماقبل التاريخ بأشكال وأهداف مختلفة مرتبطة بالغالب بالبلاط الملكي الامبراطوري، حيث يتمتع المهرج بحرية التعبير وانتقاد البلاط في وقت كانت الحريات بالكاد موجودة. في الثقافة العربية يستعرض لي محرك البحث غوغل بشكل أولي مجموعة من العناوين التي تربط التهريج بالسياسة بهدف الانتقاد السلبي لأداء السياسيين وفسادهم. وأكتشفُ ببحثٍ معمّق معلوماتٍ عن وجود المهرجين في العصر الأموي والعباسي ودورهم الذي تباين بين إضحاك الخلفاء وتملقهم أو نقدهم بالدعابة ليكون المهرج صلة الوصل بينهم وبين عامة الشعب.
الاكتشافات الأولى للثقوب السوداء
في ورشة التهريج الأولى التي شاركت فيها، تهدف إحدى الألعاب/التمارين الأساسية إلى استكشاف شخصية المهرجة من طريقة المشي الفريدة بكل فرد فينا، إلى الصوت، إلى الاسم، إلى ردود الفعل ووسائل التعبير التي تلجأ إليها شخصية المهرجة للتفاعل مع تعليمات مدربة الورشة. تنتهي اللعبة بسرد المدربة للصفات الأولية لشخصية المهرجة المكتشفة: “إنت مهرجة ما فيك تطلعي بعيون الناس، ما عندك شعور بالأمان، إذا حدا عيط عليكي بتبكي، وبتبكي كتير كمان.” أهذه أنا أم المهرجة التي في داخلي؟
كنت على وشك البكاء فعلًا، ابتلعت المرارة وواصلت ورشة العمل حتى النهاية، تمرنت فيها بشكل مبدئي على فن الحماقة. ساعدتني التمارين في التهريج والمسرح على مواجهة عيون الناس أثناء التحدث معهم ليروني ويسمعوني عندما أتكلم، وصار صوتي أوضح وانتصبت قامتي بثقةٍ أكبر. شكلت مجموعة المهرجين والمهرجات التي تكونت من تلك الورشة مجموعة دعمٍ ساعدتني على تفريغ شعور المرارة تجاه الأحداث اليومية في بلادي حيث تضيع الحقيقة والأحلام بين سطور أجندات المليشيا المحلية والمستوردة، فتسقط البطلة ضحيةً أو تُجبر على الرحيل.
لا يعتمد التهريج على تقنياتٍ مشابهة للتمثيل والتي تعتمد على دراسة الشخصية المجسدة وعيشها واستحضار المشاعر والذكريات الشخصية للوصول إلى الحالة الدرامية المطلوبة من النص والمخرج. في حالة التهريج، كلما قل التفكير لنعيش اللحظة بكليتنا وبكامل مشاعرنا كلما انفتح المجال للاوعي للارتجال ودفع المزيج المكوّن من أحاسيسنا بنقاط الضعف والخوف والهشاشة مع طبائعنا إلى الصفوف الأمامية مع بعض التقنيات في فنون الأداء التهريجي والعلاقة المتناغمة ما بين الفعل ورد الفعل. ننجح في التغلب على ثقوبنا السوداء عندما نثق أننا أفضل مهرّج أو مهرّجة على وجه الأرض وأن المهارة التي نقوم بعرضها هي أفضل ما عرض على الإطلاق، وزيّنا هو أحلى وأفخم زيّ صنعته البشرية!
وحتى أجيب على سؤالٍ متكرر، لا، ليس من الضروري أن نطلي وجوهنا بالمكياج ، فالأنف الأحمر يكفي ويزيد.
في 2015، تركت مجموعتي التهريجية ولبنان بعدما حصلت على منحة لدراسة الماجستير في جامعة كينغز كوليدج في لندن، رسبت فيها بالفصل الأول بسبب صعوبات في الفهم ولم يكن العائق لغويًا وإنما منطقيًا. بعد فحصٍ طبي تخصصي طويل لقدراتي العقلية والتعليمية في جامعتي تم تشخيص حالتي بالديسلكسيا أو مايسمى بعسر القراءة وهي صعوبة من صعوبات التعلم- وبقصر الذاكرة، حينها تفاقم شعوري بأن ذاكرتي عائقٌ جوهري في كثير من مجالات الحياة.
في 2017، رجعتُ من لندن إلى ربوع لبنان لأعود إلى التهريج بعد إتمام دراسة الماجستير، أصبح اسمي كمهرجة هو “نسيت”، اسمٌ على مسمى. “نسيت” لا تستطيع تذكر الأشياء بسهولة، فتهرب من الثقب الأسود الموجود في رأسها عبر الحماقة.
عدت بعد أن فقدت سِنًا أماميًا بعدما صدمتني سيارةٌ وأنا أتنزه في الريف الإنكليزي. يومها فاتني حضور العرس الذي كنت مدعوة إليه لأُنقل بالطائرة المروحية إلى مدينة بريستول وأبقى في مشفاها مدة 12 يوم. لزمني حوالي السنة لأستطيع زرع سنٍ جديد، وخلال تلك الفترة كان الـ “بلا سن” هو أحد مزايا شخصية المهرجة “نسيت”.
الـ “بلا سن” كانت نكتتي المفضلة خلال اللعب مع الأطفال، يحدقون فيّ باستغراب: “أهي خدعة أم ماذا؟”
تواجهني، و”نسيت”، صعوباتٌ في فهم منطق التهريج على الرغم من متعة التمارين، وأخاف في داخلي من فشلي في فهم رمزيات التهريج وكيفية تحويل الأحداث المحيطة لمواقف تهريجية. وأتساءل، أهي إحدى الصعوبات التي يواجهها من هم ديسلاكسيك؟ وهل هي حجةٌ أم مبرر؟ لم أستطع الإجابة عن ذلك وتتهرب “نسيت” من الإجابة عندما تنسى وتفشل وتضحك.
صراعٌ مع النفس والثقة. أما الثقب الأسود فهو تشبيهٌ رديف لتصوّر ثقب في المدار المحيط يسحبني لهوةٍ سحيقة يمكن أن تودي بي إلى الفضاء الخارجي، هو إحساسٌ بتخلخل الثقة في النفس وخاصة عندما تضطرب معلوماتي بسبب الذاكرة الغائمة والمشوشة. أخوض مع نفسي معارك كرّ وفرّ، حتمًا كان هناك انتصاراتٌ تشبه الإحساس بأشعة الشمس الشتوية في بلادي، وحتمًا كانت هناك هزائم مرفقةٌ بخوف سحيق من حكم الآخرين أحيانًا ضمن مجموعة التهريج.
لم تنسلخ “نسيت” عن هويتي/هويتها، فنسيت هي سوريةٌ بلهجةٍ شاميةٍ واضحة تشبه قليلًا مبالغات اللهجة الشامية في مسلسل “باب الحارة”، المسلسل المشهور الذي نمّط الشوام باللهجة الممطوطة التي تحفز الكثيرين على تقليدها على سبيل الدعابة: “فاجأتك مووووووو”!!
في الشارع، شاركنا كمهرجين ومهرجات في المظاهرات التي خرجت احتجاجًا على السياسات الحكومية في التعامل مع مشاكل النفايات، كنت أتحركش بالأمن اللبناني بلهجتي السورية الباب-حارَوية، فشعور الخوف غير موجود. فلا يقارن الأمن اللبناني في المظاهرات بالأمن السوري الذي كانت تصطك في حضرته ركبتاي. “نسيت” كانت تتجه إليهم بالفطرة، لتشرح لهم كل مرة بحماقة أسباب المظاهرة، ولا يكون هذا التصرف غريبًا، فتاريخيًا كما ذكرت سابقًا، تسمح الحماقة للمهرج، في بلاط الملك، بنقد الجميع بما فيهم الملك والضحك جميعًا مستمتعين بالعرض. ولذلك فمن غير المعقول والممكن والمنطق والأدب وصف السياسيين الفاسدين بالمهرجين، هذه إهانة لي شخصيًا ولزميلاتي وزملائي أطالب الجميع بمن فيهم المنصات الإعلامية بالعدول عنها بشكل قاطع.
هويتي كسورية تبرز أحيانًا خلال التمارين أو في الفيديوهات التي تسخر من واقع العنصرية تجاه اللاجئين السوريين. لكن بالتهريج أتحول إلى مواطنة بحقوق كاملة أثناء الانتخابات البرلمانية وتحضير لوائح التهريج الانتخابية. لم أنتخب ولا مرةً في بلدي، وفي لبنان نحن “أجانب” لا يحق لنا الانتخاب، بل نحن شماعةٌ للفشل السياسي والبيئي والكهربائي والأمني والمروري والكوروني…إلخ.
تستنفر “نسيت” وأخواتها في الانتخابات البرلمانية ونسارع لتحضير قائمتنا الانتخابية المستقلة من دون أجندات أو خطط استراتيجة أو ما يمكن أن يكون بالنسبة للمهرج مضيعةً للوقت، تلهمنا شعارات السياسيين وحملاتهم الانتخابية، فنطلق العنان للحماقة، وتشعر “نسيت” بالأحقية لتكون مرشحةً في الانتخابات، وتتصور مع ابتسامةٍ حمقاء كبيرة علّها تحقق تصويت أعلى وتدخل المجلس النيابي اللبناني مع زملائها المهرجين والمهرجات فيحل العدل على كل من يقطن أرض الفينيق. لكن ومع كل ذلك لا تجرؤ “نسيت” ومن معها من مهرجين ومهرجات أجانب النزول لصناديق الاقتراع للترويج للأئحتهم على سبيل السخرية.
التهريج والقضايا العويصة
في 2018 انفجرت بالبكاء أثناء التمرين وطلبت أن نصوّر فيديو صغير من أجل أطفال الغوطة القابعين تحت القصف، ومن أجل أصدقاء من بلدي لم التقيهم من قبل إلا في الحياة الافتراضية، حينما عرفتهم ضمن عملي الآخر وهو الرسم لدعم حملة على الانترنت تجمع قصصهم لتؤكد أن هناك مئات الآلاف من المدنيين العزل الذين يتوقون لحياةٍ آمنة وحُرّة، ولكنهم بدل ذلك يصارعون الموت يوميًا تحت القصف.
تصاعد شعوري بالتردد في طلب تصوير فيديو لدعم الناس المحاصرين، وخاصة الأطفال مع شعور المونة وإحساسي أنه من واجبنا أن نبادر بذلك كمجموعة تهريجٍ معنيّةٍ بحقوق الإنسان. ومن بين دموعي لُبيَّ طلبي، وكان الفيديو محاولةً قُدّرت وامتُنَّ لها، قأصبحتُ أكثر ثقة لطلباتٍ كهذه فيما بعد وبداية استكشافي لكيفية ربط “نسيت” بقضايا سياسية عويصة والبحث بشكلٍ أعمق بمعنى التهريج السياسي.
وفي سنة 2019 تحولت “نسيت” لإم نقطة، “أم نقطة” كانت أكثر ثقةً من “نسيت”، فهي حامل في شهرها السابع، ترقص وتقفز أثناء العروض التهريجية ببطنها الكبير الذي يشبه الطربيزة أي طاولة القهوة. وفي بطنها كان نقطة يتحوّل من نقطةٍ بيضاء إلى “بحرٍ”، ينضج على موسيقى العروض التهريجية وضحكات الأطفال المخلوطة بسكر الحلويات التي يلتهمونها.
انتصرت “إم نقطة” فقد كسرت التابوهات والصور النمطية عن عجز النساء الحوامل في القيام بالكثير من المهام الفيزيائية: فهي تقفز، تركض، ترقص بالهولاهوب، تمارس الرياضة وتنجز مشاريع العمل الملتزمة بها في الساعات الأخيرة قبل بداية الإحساس بتقلصات الولادة. استمرت “إم نقطة” بالمشاركة في العروض حتى نهاية الشهر الثامن، واستمتعت بنظرة المشاهدين وشكوكهم ببطنها، أهو كرة ؟ مخدة؟ أم جنين؟
اختفت “إم نقطة” منذ يوم الولادة والغياب في الأمومة ولم تعاود الظهور مرة أخرى منذ ذلك الحين، لم أشارك في الثورة، فالبحر أولى. في الأشهر الثلاث الأولى تحولت إلى ما يشبه الكنبة و”بحرٌ” نائمٌ على صدري، لا أنهض إلا لقضاء الحاجات الضرورية في يومي ما عدا الاستحمام الذي أصبح ترفًا أفرح به كلما سنحت الظروف. انتقلت، ولمدة سنة، لحالة توقف إرادي لاستوعب أمومتي، أحسست حينها أني غير قادرة على التفكير بأعمال أخرى وعلى الرغم من اشتياقي لديمة ما قبل “بحر”، إلا أن “ديمة” جديدة قد وُلِدت. فهي مزيج من الأزمات الوجودية وتروما الولادة والنضج الذي يُكتسب مع الأمومة وعملية البحث عن التوازن ما بين المهام المستجدة وطموحاتي الشخصية المرتبطة بأعمال فنية. وأخيرًا هي مكللة بحب لم يكن لي أن أدرك ماهيته من دون وجود ال”بحر” في حياتي.
كانت العودة إلى التهريج بعد انفجار المرفأ. حدثٌ فجر فينا بشكلٍ مؤقت كل احتمالات النجاة في بيروت. اختفت “نسيت” فترةً حيث ضاعت مني مهرجتي بعد طول الانقطاع، وساهمت التمارين والاحتكاك بالزملاء بعودتها تدريجيًا دون أن أكون متأكدة هل ستعود “نسيت” أم تعود شخصًا آخر بثقوب سوداء مختلفة.
ولكن “نسيت” عادت بقوة لمواجهة معارك الكر والفر والصراع مع النفس والثقة والثقب الأسود، تنتصر فيها عندما يصبح التهريج إجباريًا في المخيمات والمدارس المنسية والشوارع المكتظة المحلية. كان عملاً فيه صفر مشقة بل كان مُثريًا في كل مرة أكثر من قبلها، فضحكات الجمهور صغارًا وكبارًا مكسبٌ لا يقدر بثمن، وخاصةً في بلدٍ هجره العدل منذ زمن بعيد.
في 2022 حققت “نسيت” درجة أعلى في الحماقة ضمن تدريبات التهريج مع مجموعةٍ صغيرة استمتع أفرادها بتشكيل العرض الذي شرحت فيه السكيتشات بأدق التفاصيل، استطاعت فيه “نسيت” -وأنا- أخيراً فهم بعضٌ من منطق التهريج ضمن خطوط العرض فأطلقت العنان للإرتجال و صناعة جرعاتٍ أكثر عفوية من الحماقة، ومن بعدها أقمتُ عروض تهريجٍ عدة رمّمتُ فيها بعضًا من النفس وبعضًا من الثقة وبعضًا من الثقب الأسود، وكانت الضحكات أثمن من أن تنسى.
عدت إلى التمرين بعد فترة الأعياد ورأس السنة وبدأت جلسات التحليل النفسي التي تأكد لي فيها أنني لا أعاني من قصر ذاكرة بل هي قلة تركيز مرتبطة بصدمات ما بعد الحرب. متحمسةٌ لرحلة جديدة في اكتشاف مهرجتي وصفاتها وثقوبها على طول هذه السنة الجديدة، يا ترى هل ستبقى “نسيت” نسيت أم سيكون لها اسم آخر؟ وهل ستضيق ثقوبي السوداء وتتسع أخرى. لنهرج ونرى!