في البداية لم يثر انتباهي منشور أحد الأصدقاء على الفيسبوك بخصوص تحذير قيس سعيد من المهاجرين الأفارقة، ليلة الثلاثاء 21 فبراير، ذلك أنه وسط هذا الكم الرهيب من الإشاعات والأخبار الزائفة، لا مانع من إضافة إشاعةٍ أخرى جديدة. غير أن المناشير تواترت وتكاثرت. سارعت للصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية التونسية، على نفس الموقع للتأكد. وهناك قرأت التالي:
“ترأس رئيس الجمهورية قيس سعيّد، عصر اليوم الثلاثاء 21 فيفري (فبراير) 2023 بقصر قرطاج، اجتماعًا لمجلس الأمن القومي خُصّص للإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس”
أعدت قراءة البلاغ أكثر من مرةٍ بذهول، ذهول أننا -في تونس- أمام سابقة لم تحدث منذ 177 عامًا مرت على آخر مرةٍ تدخل فيها رأس السلطة التنفيذية بشكلٍ مباشر في مسألة تتعلق بأصحاب البشرة السوداء، لكن مع بعض الفروقات هذه المرة.
إذ بينما كان جوهر التدخل السابق بهدف تحرير وإلغاء العبودية، جاء التدخل الحالي لاتخاذ كافة الإجراءات اللازمة من أجل التصدي “لترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس”، على حسب عبارات البلاغ.
ومعه تحولت المسألة من مجرد تعبير عن نفور عشوائي يبديه البعض بناءً على أسُسٍ ثقافية واجتماعية وأمنية محلية في أقصى تقدير إلى مؤامرةٍ عابرة للأجيال والأوطان يمكن أن توصف حتى بكونها كونية، تحمل تهديدًا وجوديًا للـ “كيان التونسي” في كل أبعاده.
هناك رغبة لدى رئيس الجمهورية في مجاراة الرأي العام والاستجابة له ولو إعلاميًا فقط بهدف استمالته وتدعيم مشروعيته وسطه، خاصةً في ظل مفاوضاتٍ شاقة مع صندوق النقد الدولي من جهة وجملةٍ من المحاكمات والمتابعات القضائية الكبرى التي تعصف بالبلاد..
وبشكلٍ صادم تماهى خطاب قرطاج مع أغلب فحوى سردية أقصى اليمين التونسي، لا فقط مضمونًا عبر التأكيد على ضرورة الحفاظ على هوية تونس وانتمائها الحضاري ولكن كذلك من خلال عباراته المستعملة من قبيل الحديث على “جحافل المهاجرين غير النظاميين والوضع غير الطبيعي والتوطين”.
من الصعب الوقوف على الأسباب الحقيقية من وراء هذا الاجتماع، إذ تتعدد السيناريوهات المحتملة وأولها طبعًا هو الوجود الفعلي لمثل هذا المخطط، بقطع النظر عن حجمه، مما استوجب اجتماع المجلس بأعلى قياداته للرد عليه، وهو أمرٌ لا يعدم وجود بعض الصحة فيه ولو بدرجةٍ ضئيلة، خاصةً أنه سبق وأن حاولت بعض الأطراف الخارجية، الأوروبية تحديدًا، إبرام اتفاقات مع الدولة التونسية بهدف توطين عددٍ من المهاجرين القادمين للقارة الأوروبية بشكل غير نظامي وهو ما طلبه صراحةً سنة 2018، تيو فرانكي وزير الدولة للجوء وشؤون الهجرة البلجيكي.
أما السيناريو الثاني فيتمثل في رغبة رئيس الجمهورية في مجاراة الرأي العام والاستجابة له ولو إعلاميًا فقط بهدف استمالته وتدعيم مشروعيته وسطه، خاصةً في ظل مفاوضاتٍ شاقة مع صندوق النقد الدولي من جهة وجملةٍ من المحاكمات والمتابعات القضائية الكبرى التي تعصف بالبلاد. أما الاحتمال الأخير، فإنه قد يكون توليفًا وتجميعًا بين كل ما سبق.
متى بدأ كل هذا؟
لا يمكن تحديد بداية تصاعد موجة العنصرية المفاجئة بالتدقيق، ولكن يمكن تتبع ذلك إلى نهايات الشهر الماضي، مع ظهور عددٍ من الصفحات على مواقع الفيسبوك التي تدعي أنها تمثل اليمين التونسي الجديد أو “القومية التونسية”، كما تسمي نفسها وتتبنى خطابًا معاديًا لوجود أفارقة جنوب الصحراء في تونس وخطر تحويلها إلى فضاءٍ لتوطين “لي زافريكان” (الأفارقة).
بطبيعة الحال لم يكن حديث هذه الصفحات جديدًا من حيث المضمون إذ سبق وتبنته في السنوات القليلة الأخيرة مجموعةٌ من اليمينيين تحت مسمى “الأمة التونسية” ولكن خطابها بقي في أفضل الحالات منحصرًا ضمن حدود ضيقة تقتصر على بعض القوميين المتعصبين أو المهتمين بالمسألة (والحقوقيين والناشطين ضد التمييز العنصري من جهةٍ أخرى بطبيعة الحال).
لكن ما صعّد الموضوع فعلًا لم يكن حادثًا أو جريمة “هزّت الرأي العام” كما يحلو للصحف الصفراء التعبير عنها، إنّما أساسًا حوار تلفزي بتاريخ 25 يناير الماضي جمع من بين ضيوفه شخصًا يدعي أنه رئيس حزب قومي تونسي يدعى “الحركة القومية التونسية”، ليدور النقاش في جزءٍ كبير من الحلقة، وبشكلٍ عنيف، عن برنامج هذه الحركة لمقاومة ظاهرة زحف “الأجصيين” ومخطط توطينهم في تونس. وكلمة “الأجصيين” هذه مصطلح غير معروف سابقًا، وإنما يدعي ابتداعه مؤسسو الحركة كاختصار لـ “أفارقة جنوب الصحراء”.
صحيحٌ أن الحصّة التلفزيونية لم يتابعها في البداية سوى قلة، لكن نشرها وإعادة مشاركتها على مواقع التواصل سواء من طرف المنددين بمثل هذا الخطاب أو المناصرين له، لفت انتباه الكثيرين للموضوع. لتتحرك على إثر ذلك آلة الدعاية بوتيرة متزايدة ويتصاعد الموضوع حتى يتصدر المشهد، ولكن الأخطر هو أننا سنبلغ نقطة مثلت سابقة في السياق التونسي، ألا وهي خطاب رئيس الجمهورية يوم 21 فبراير.
“آسفة ظننتك منهم”
ليس الخلط الممكن بين اللاجئين وطالبي اللجوء من جهة والمهاجرين غير النظاميين، على مستوى الإجراءات القانونية والإدارية والأمنية المحتملة، سوى جزء بسيط من حالة الفوضى العامة. فخارج نطاق مؤسسات الدولة وبالعودة لشبكات التواصل الاجتماعي أين تقارع حشود “الوطنيين الصادقين” الجحافل الوهمية “للمد الأسود” نجد الخلط قد بلغ منتهاه.
إذ يغيب التمييز بين اللاجئين وطالبي اللجوء من جهة والمهاجرين غير النظاميين (يحلو للكثيرين التشبث بعبارة غير الشرعيين بدلًا عن غير النظاميين إمعانًا في نزع الشرعية عن هذا الوجود الإنساني) من جهةٍ أخرى. كما لا يختلف هؤلاء جميعًا عن الأجانب المقيمين بشكل قانوني لأغراض العمل أو العلاج أو الدراسة. وتُختم القصة بالخلط بين كل هؤلاء والتونسيين ذوي البشرة السوداء.
بشكل دراماتيكي تحولت هذه الحالة من موجة كراهية تجاه المهاجرين إلى حالة ذعر جماعي ورعب من “المليون أسود” (وهو عددٌ أطلقه بعض المساندين للرئيس وللحملة دون أي تبصر في حين تجمع أغلب المصادر الرسمية عن كون هذا العدد لا يتجاوز الستين ألف في أفضل التقديرات) بقطع النظر عن خلفيته أو دينه أو جنسه أو حتى ولو كان تونسيًا أبا عن جد.
وبطبيعة الحال لم تطل المدة لتتحول موجات الكراهية الافتراضية هذه، إلى أفعال ملموسة على أرض الواقع. وفي هذا الصدد حدّثني صديق من الجنوب التونسي، أسود البشرة، عن تعرضه للاستهزاء من طرف سيدة داخل أحد المتاجر في العاصمة وعندما رد عليها بالعربية “أنا تونسي” أجابته: “آسفة ظننتك منهم”.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
“زحف جحافل الأفارقة على تونس”
هكذا تمت صياغة الخبر في خطوطه العريضة، وفي أيامٍ معدودة قبل خطاب رئيس الجمهورية وبعده اجتاحت الفيسبوك والتيك توك (المنصات الرئيسة في تونس) عشرات من مقاطع الفيديو لأفارقة يسرقون القطط من حدائق المنازل “لقتلها وطبخها” (تقول التعليقات) وصور لجرائم نشل وعنف يرتكبها هؤلاء ضد التونسيين الآمنين أو ضد بعضهم البعض. إضافةً لشهادات مواطنين وصيحات فزع يطلقونها لميكروفونات صحافة الشارع خوفًا وتحذيرًا من أولئك المجرمين الأفارقة الذين اجتاحوا الأحياء وروّعوا الآمنين وشكلوا العصابات واحتلوا فضاءات خاصة لهم كمقاه وكنائس وغيرها.
انهمرت هذه الأخبار على الجميع، وسرعان ما تحولت لطوفان اجتاح النت. بعضها يعود لسنوات خلت مثل 2018 وبعضها يعود لدولٍ أخرى وبعضها مزيف أصلًا. لعدة أيام كان التجول في صفحات الفيسبوك يستوجب مني التعرض بين كل منشورٍ عادي وآخر لمثل هذه المنشورات التحذيرية. لم تطل المدة حتى تغير الخطاب من الترويع إلى الكراهية.
ومن الحديث عن الجرائم إلى نشر الصور والمقاطع المستهزئة والمتخيلة لتونس سنة 2050 وقد تحولت إلى دولة جنوب صحراوية رئيسها أسود وأكبر شوارع عاصمتها لم يعد يحمل إسم “الحبيب بورقيبة” وإنما “مامادو بوركيبا”. وتحولت النكات من السخرية من الأوضاع الاقتصادية المتردية إلى السخرية من سرعة تكاثر السود وطريقة حديثهم ولباسهم بل وتمّ حتى استعادة ظاهرة العبودية القديمة كمادةٍ للتَنَدُّرْ.
“كلنا مهاجرون”
لم تتجاوز المدة الفاصلة بين البلاغ الرئاسي والردود الرافضة له عدة ساعات، إذ سرعان ما نددت جمعيات ومنظمات وأفراد بهكذا خطاب ليتم الدعوة في اليوم الموالي ع للتحرك والاحتجاج ضد ما سمي بخطاب “الكراهية والفاشية” عبر الإعلان عن مظاهرة يوم 25 من الشهر نفسه للتنديد بهذا الخطاب والمطالبة بسحب البلاغ وإيقاف المد العنصري الذي طال اللاجئين والمهاجرين في عقر بيوتهم.
وتلقفت الدعوة عشرات المنظمات والجمعيات، على اختلافها، من نقابات ومؤسسات صحفية وجمعيات مناهضة للتمييز العنصري وجمعيات معنية بشؤون الأقليات الدينية والجنسية وأخرى نسوية وبيئية. وفعلا لبّى المئات من الناشطين والأفراد هذا النداء، لتنطلق المظاهرة من أمام مقر نقابة الصحفيين بتونس وتجوب شوارع العاصمة تحت شعارات أهمها “ضد العنصرية”.. “كلنّا مهاجرون” وطبعًا “تونس أرض إفريقية“.
ومن فترة إطلاق الدعوة للتظاهر والتنديد إلى حدود اللحظة، لم تقم مؤسسة الرئاسة بسحب البلاغ أو الاعتذار عنه بشكل صريح، ولكن مع ذلك فإن الرئيس قيس سعيد نفى لاحقاً نعته بكونه عنصريًا وأكد أن الإجراءات الأمنية والقضائية موجهة ضد المقيمين بشكل غير قانوني فقط دون سواهم.
هذا التكتل الجمعياتي الذي قلما نشهد التفافًا مثيلًا له في الحجم وبهذه السرعة، يذكرنا بأن الجمعيات التي ساهمت بالضغط عام 2018 لسن القانون عدد 50 لمناهضة التمييز العنصري، قادرة اليوم على الضغط من أجل ضمان احترامه وإنفاذه
وهو ما أكده بيان وزارة الخارجية التونسية الذي تزامن مع موعد المظاهرة (جاء هذا البيان أساسًا للرد على بيان مفوضية الاتحاد الأفريقي الذي نددت فيه بتصريحات الرئيس) والذي عاد ليتبنى مقولة “تونس، أرض اللقاء والحضارات” وأن مواقف السلطات التونسية موجهة أساسًا ضد الاتجار بالبشر والإجرام، وبالتالي فإنه لا داع للانسياق “وراء المزايدات والاتهامات التي تقوم بها جهات تحركها أغراض مختلفة”.
ومنذ يوم المظاهرة، لم يعرف الخطاب الرسمي أيّ تصعيدٍ جديد في محتواه باستثناء النشاط الإعلامي المكثف لوزارة الخارجية دوليًا للتأكيد على السردية الرسمية في نسختها المعدلة.
في مقابل ذلك سلكت المنظمات والجمعيات والناشطون نفس المنهج دون تصعيد جديد لحدود اللحظة ولكن مع الدعوة لتكثيف المرافقة الحقوقية والقانونية على الميدان لأي متضررين محتملين.
هذا التكتل الجمعياتي الذي قلما نشهد التفافًا مثيلًا له في الحجم وبهذه السرعة، يذكرنا بأن الجمعيات التي ساهمت بالضغط عام 2018 لسن القانون عدد 50 لمناهضة التمييز العنصري، قادرة اليوم -رغم المستجدات التي تعيشها تونس- على الضغط من أجل ضمان احترامه وإنفاذه والضغط على السلطة لجعلها تتراجع عن كل خطاب كراهية مباشرة وخاصةً للتأكيد على الحقّ الإنساني الكوني في حريّة التنقّل، والقيم التي ناضلت من أجلها أجيال متعاقبة وعبّرت عنها شعارات ثورة 2011.