جميعنا تروس في ماكينة ما اسمها العمل، ندور وندور وندور في فلك الماكينة الأم. أهمية الترس تتوقف على كونه دائرًا، لو تعطل، يستبدل بغيره، الأمر بسيط أليس كذلك؟ منذ بدايات الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وحتى الآن، ندور في نفس الحلقة، لم يُحدث التطور والتكنولوجيا ونظريات الإنتاج «العادلة» المقاومة للعبودية والإقطاع والرأسمالية فارقًا كبيرًا في تخفيف وطأة العمل كما كان متوقعًا. الجميع تروس يدورون كي تبقى الماكينة متوهجة إلى الأبد، لا يهم موقع الترس ولا مجال تخصصه؛ عامل في مصنع، موظف في شركة برمجة ونظم معلومات، عالمة في وكالة «ناسا»، كاتب، فنانة.. الكل سواء.
حين بدأت العمل في الصحافة قبل سبعة عشر عامًا، كان لدي طموح كبير، لم يكن الأمر بالنسبة إليّ وظيفة عادية، دخلتها وكلي إيمان أني أؤدي مهمة للمجتمع وللحرية والعدالة. هكذا قلت لنفسي، طيلة سبعة عشر عامًا، حتى وجدت نفسي أتحول رويدًا رويدًا إلى مجرد ترس، بلا تغيير، بلا مساحة للابتكار، بلا هوية شخصية، وبلا مجال لأي مميزات أو مهارات شخصية، أقوم بنفس الحركة كل يوم، وإلا تم استبدالي بترس آخر. المهم أن تستمر ماكينة العمل. أن تدور عجلة الإنتاج، حتى لو احترقت كل التروس. في الرأسمالية الجديدة: «يعيش العمل، وإحنا مش مهم».
أحد أسباب تركي وظيفتي الصحفية الثابتة الأخيرة كان الاحتراق في العمل. لكنني لن أحكي قصتي مع الاحتراق في العمل، ربما ستخرج مني تفاصيل هنا وهناك. بالتأكيد لست الوحيدة ولكن الجميع معرضون لمثل هذا الاحتراق لذا بحثت عن قصص أخرى في مجالات مختلفة مثل الطب والصحافة والانتاج السينمائي والدعاية. تعددت المجالات والاحتراق واحد. لكن ما هو الاحتراق في العمل أو الـ «Burnout»؟
الجمعية الأمريكية لعلم النفس تعرفه بأنه إرهاق نفسي، عاطفي، وعقلي يصاحبه انخفاض في الأداء والدافع الشخصي، وتجتاح الفرد أفكار سلبية عن الذات وعن الآخرين. ينتج عن القيام بالأعمال بمستوى عال ومكثف، حتى تكون المحصلة الضغط والتوتر، بالذات مع القيام بمجهود نفسي وعقلي مطول ومع أعباء عمل مثقلة. نظريًا، يرتبط الاحتراق في العمل ببعض المهن أكثر من غيرها بالذات المرتبطة بتقديم الخدمات، مثل الطب والتدريس.
استخدم المصطلح بهذا المعنى لأول مرة في عام 1975 عبر طبيب نفسي أمريكي اسمه هيربرت فرويدنبرجر، لوصف العاملين في العيادات المكدسة بالحالات. بحسب مجلة ««سيكولوجي توداي»، قد يحدث الاحتراق أيضا مع الأبوة والأمومة أو مع تقديم الرعاية بشكل عام، أو في العلاقات العاطفية.
أعتقد أن الاحتراق في العمل لا يرتبط بمهن بعينها، بل يرتبط بالرأسمالية الحديثة وما يرتبط بها من استغلال أصحاب الأعمال لمرؤسيهم وبيئات وديناميكات عمل شديدة الضغط والتنافسية. يرتبط الأمر أيضًا بقلة الموارد وقلة فرص العمل. وبالتالي الجميع يحترق، بدرجات متفاوتة، أينما كانت مواقعهم ..
لكن مع ذلك اعتبرت منظمة الصحة العالمية، والتي أضافت المصطلح، بشكل أكثر تفصيلًا، في تصنيفها الدولي للأمراض، منتصف 2019، أنه ليس مرضًا بل ظاهرة ترتبط بالعمل، وعرفته بأنه «متلازمة يمكن تعريفها كنتيجة لضغط مزمن في مكان العمل، لم يتم التعامل معه بنجاح، ويتميز بثلاث محاور: انخفاض في الطاقة والإرهاق، ازدياد المسافة الذهنية بين الشخص ووظيفته والشعور بالسلبية والتهكم تجاه العمل، وهبوط في الكفاءة المهنية».
المصطلح إذا، رغم ظهوره في السبعينات، انتشر في السنوات الأخيرة. بدأت أسمع عنه أكثر في الأوساط التي أتقاطع معها، منذ جائحة كورونا، بالذات مع استغلال أصحاب المؤسسات لعمل الناس من بيوتهم، وإضافة أعباء عمل أكثر. لكنه أيضا ظهر بشكل واسع على لسان سياسيين وفنانين مشاهير.
في يناير الماضي، استقالت رئيسة وزراء نيوزلاندا جاكيندا أردرن بسبب الاحتراق في العمل، بعد أقل من عام ونصف من إعادة انتخابها لفترة ثانية. قبلها بفترة في 2015، أعلن المغني الشهير ستروماي توقفه عن الغناء بسبب الـ «Burnout» وبسبب دواء أخذه وتسببت آثاره الجانبية في الكثير من المتاعب النفسية منها الاكتئاب. عاد ستروماي في 2022، بعد توقف سنوات، بأغنية عن «جحيم» المرض العقلي.
في الحقيقة أعتقد أن الاحتراق في العمل لا يرتبط بمهن بعينها، بل يرتبط بالرأسمالية الحديثة وما يرتبط بها من استغلال أصحاب الأعمال لمرؤسيهم وبيئات وديناميكات عمل شديدة الضغط والتنافسية. يرتبط الأمر أيضًا بقلة الموارد وقلة فرص العمل. وبالتالي الجميع يحترق، بدرجات متفاوتة، أينما كانت مواقعهم.
حتى في المؤسسات التي تطرح نفسها باعتبارها أكثر عدالة وتقدمية في طرق الإنتاج والإدارة، والتي ربما تقدم دعمًا نفسيًا وصحيًا للعاملين فيها، لمساعدتهم في تخفيف أعباء العمل، تستمر هذه المؤسسات في الوقت نفسه، في التسبب بالضغوط التي تحرق العاملين، وفي حين أنها قد تتغنى بالتقدمية إلا أنها لا تسعى بالضرورة لتحسين بيئات العمل أو السماح للعاملين بتمثيل حقيقي يحميهم من سطوة أصحاب العمل واستغلالهم.
الموت في مواجهة الموت
هناك مهن تزداد قيمتها بين الناس، منها مهنة الطب، فمعظم الأمهات والآباء – في بلادنا على الأقل- يريدون لأبنائهم أن يكونوا أطباء. «راح الدكتور فلان. جت الدكتورة فلانة». لكن رغم قيمتها تلك، تضحياتها قد تكون مكلفة جدًا.
هناك جدل دائر منذ شهور على الوفيات بين الأطباء، وبالذات الشباب، نتيجة ضغوط العمل، حيث تشير التقديرات للعام الماضي، إلى وفاة طبيبين شهريًا، بينهم 18 طبيب شاب، لأسباب تتعلق بالإرهاق الشديد في العمل وعدم وجود حد أقصى لساعات العمل مع انخفاض الدخول وبيئة العمل غير المناسبة.
الوفيات نتيحة الإجهاد في العمل تبدو مرعبة أكثر، حين تقارن بحجمها في السنوات السابقة، 10 حالات في عام 2021 ، 7 حالات في 2020، 11 حالة في 2019، 3 وفيات في 2018. هذا التدهور استدعى النقابة العامة لأطباء مصر لإصدار توصيات مثل تحديد ساعات العمل وتحسين أجور الأطباء وعمل نظام كشف للأمراض المزمنة والإجهاد المزمن، واعتبار وفاة الطبيب أثناء وبسبب الإجهاد في العمل وفاة إصابية.
في هذه الأجواء، يعمل حسن* (30 عامًا) كطبيب قلب مقيم في القاهرة، ويعمل في مستشفى حكومي تابع لهيئة التأمين الصحي وآخر خاص. بسبب تخصص حسن في القلب فهو يعمل كثيرًا مع حالات طارئة في وحدات العناية المركزة والطوارئ.
مناوبة حسن 24 ساعة، ويعمل 4 مناوبات أسبوعيًا في المستشفيين، بينهم يوم إجازة. حتى وقت قريب كان حسن يعمل خمسة مناوبات في الأسبوع. لا يستطيع حسن العمل في أي من القطاعين دون الآخر. يقول «الحكومي لوحده مش هاعرف ألبي متطلبات الحياة والخاص لوحده مش هاتعلم». يضيف «معنديش مشكلة أفضل شغال 7 أيام في الأسبوع. كل فترة ليها الحاجات اللي المفروض أعملها، دي فترة الجهد، لحد ما أوصل 35 أو 40 سنة، بعدها مش هاقدر على الجهد ده».
كانت أوقات الشدة مع جائحة كورونا، التي استمرت تقريبًا بين منتصف عام 2020 حتى بداية عام 2022، من أصعب الأوقات التي مرت على حسن وغيره من الأطباء، «كنا شغالين زي محصلين الأموات. أنا كنت شغال في الرعاية المركزة، وكان بيجيها الحالات الضايعة، ييجوا 3 ساعات ويموتوا. أوقات كان بيموت 8 أو 10 حالات في اليوم. وجالي كوفيد من المستشفى. فاكر في يونيو 2020 أخدت نبطشيات (مناوبات عمل) لمدة أسبوعين ورا بعض. كنت بنام في أوضة المكتب بتاعة الرعاية اللي بعيد عن سراير المرضى بـ 10 متر».
حين هدأت عاصفة كورونا بعض الشئ، دخل حسن في اكتئاب، عولج منه بدواء، كانت أصعب فترة مرت عليه، منذ بداية عمله في الطب قبل ستة سنوات، خرج مرهقًا جسديًا ونفسيًا ومعنويًا. في موجات «كوفيد 19» في الأعوام الماضية، وبحسب تقديرات نقابة الأطباء المصرية حتى مارس 2022 توفي ما يقرب من 700 طبيب نتيجة الوباء.
في الأيام العادية الهادئة حين يتابع حسن بين ثلاثة إلى ستة حالات، يتمكن من النوم ساعتين أو ثلاث في «النبطشية»، لكن الأمر يصبح جنونيًا بعض الشئ، حين يتابع في المناوبة، ما بين 10 إلى 15 حالة. في بعض المناوبات يكون حسن الطبيب الوحيد، ليس في تخصصه فحسب، بل ربما يضطر لمتابعة قسم الطوارئ مثلًا أو العناية المركزة لقلة الأطباء.
احنا بنشتغل عشان الفلوس بدرجة كبيرة، بس كمان عشان القيمة، لو اشتغلت شغلانة تانية كان ممكن أجيب أضعاف اللي بعمله دلوقتي، بس استحالة أعمل كارير شيفت. القيمة اللي بيقدمهالي الطب كبيرة ومش سهلة، وربنا حطني في المهنة دي، وده له قيمة أكبر من الفلوس، بس ده لا يمنع إني آخد فلوس عشان أقدر أعيش ..
«لو عندي 20 سرير بتابعهم، الواحد خلاص اتعود ايه اللي داخل يعمله، بقى روتين.. عادة. قعدة البيت هي اللي غريبة، الحياة بقت في المستشفى، الحياة اللي احنا فيها غالية، محتاجة مادة كتير، وهحتاج فلوس عشان أعرف أعيش» يحكي حسن، مضيفا: «أنا شفت الدكاترة اللي بيشتغلوا في مستشفى واحد ما يقدروش يكفوا بيتهم. متوسط المرتبات في الحكومي للدكاترة اللي في سني 3 -4 آلاف جنيه (ما بين 100 و130 دولار تقريبًا). أقل إيجار تلات أربع آلاف جنيه، يعني مرتب الحكومة هيخلص في الإيجار. عشان كدة الدكاترة بيشتغلوا في القطاع الخاص أو بيهجوا.»
في فبراير الماضي، نشرت «واشنطن بوست» تقريرًا عن هجرة الأطباء، بسبب سوء أوضاعهم المعيشية هنا. فالأطباء العاملين في القطاع الحكومي، في أعوامهم الأولى الإجبارية تتراوح رواتبهم بين ألفين وأربعة آلاف جنيه. وتشير تقديرات نقابة الأطباء إلى هجرة أكثر من 11 ألف طبيب في الأعوام بين 2019 و2022، فيما قدم 4300 طبيب يعملون بالحكومة استقالتهم في العام 2022.
«أنا مش عايز أسافر، فماشي في الماجستير والدكتوراه والزمالة. لو أنا مش قادر اقعد في مصر، هاضطر أسافر. فيه طرق للسفر لأمريكا وإنجلترا وألمانيا وأستراليا. أعرف ناس كتير سافروا. بيقدموا على تدريب في مستشفى وبعدين يتثبتوا. المشكلة إن مصر بلد ناشفة، بور، مهما زرعتي فيها مش هتطلع زرع»، هكذا يصف حسن حال الأطباء الذين يضطرون إلى الهجرة.
لماذا نعمل إذا؟ من أجل المال؟ من أجل الشهرة؟ من أجل تحقيق الذات؟ من أجل هذه الأسباب جميعًا؟ وهل من تحمل أعمالهم رسالة مثل الطبيب الذي ينقذ أرواح الناس، أو الصحفي الذي يبحث عن الحقيقة ويراقب السلطة، هل جزء من عملهم أن يضحون بأنفسهم؟ هل هذا منصوص عليه في الـ job description لهذه الوظائف؟ هل نحن، أبناء الطبقة المتوسطة، من أصحاب الياقات البيضاء، نشعر كذبًا وغرورًا بامتيازات تجعلنا لا نتوقع ضغوطًا في أعمالنا، طالما لا نرتدي الأفرول ونقف أمام ماكينات في مصنع؟ الضغط واحد، والياقات ألوان.
الأمر واضح تمامًا بالنسبة لحسن، لو كانت أجور الأطباء آدمية، لما عمل في القطاع الخاص، ولما اضطر للعمل بين أربعة وخمسة مناوبات أسبوعيًا، لكن فلسفة حسن عن العمل كطبيب بشكل عام هي: «احنا بنشتغل عشان الفلوس بدرجة كبيرة، بس كمان عشان القيمة، لو اشتغلت شغلانة تانية كان ممكن أجيب أضعاف اللي بعمله دلوقتي، بس استحالة أعمل كارير شيفت. القيمة اللي بيقدمهالي الطب كبيرة ومش سهلة، وربنا حطني في المهنة دي، وده له قيمة أكبر من الفلوس، بس ده لا يمنع إني آخد فلوس عشان أقدر أعيش». تلك القيمة التي يشعر بها حسن حين يستطيع إنقاذ مريض توقف قلبه، وكان شبه جثة هامدة، ثم «قلبه يرد» ويخرج ماشيًا على قدميه.
لكن في مقابل قيمة إنقاذ حياة الناس يتعامل حسن مع الموت وبشاعته يوميًا، أصبح جزءًا من حياته، وبالتبعية أصبحت إصابته بموجات من الاكتئاب والقلق العنيفة، بسبب «ضغط الشغل وقلة النوم وكتر الكافيين والتعامل كل يوم مع جلطات وذبحات صدرية أو توقف في عضلة القلب أو نزيف بسبب حوادث» جزءًا ثابتًا في حياته أيضًا، يحاول الترفيه عن نفسه بالطبع، لكن أثر الاحتراق لا يزول. كيف ومعظم عمل حسن هو في الدقائق المعدودة الحرجة التي تفصل بين توقف عضلة القلب والموت.
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
لو كانت النقابة.. نقابة
الوفيات ليست بين الأطباء فقط، تحدث أيضًا في مجالات قد يبدو أنها لا تحتاج إلى هذا القدر من التضحية، بل المفترض بها أن تكون مهن حساسة، لأنها ترتبط بالفن والإبداع، لكن هذا ليس واقع الأمور. في مايو 2018، توفي المخرج المنفذ الشاب روبير طلعت، فجأة إثر أزمة قلبية، أثناء عودته من جورجيا إلى مصر عبر مطار اسطنبول، بعد تصوير في الخارج، لواحد من مسلسلات دراما رمضان لهذا العام.
أثارت وفاة روبير الحديث عن ظروف العمل القاسية في مجال الإنتاج الدرامي والسينمائي، والتي قد تصل ساعات التصوير فيها ليومين أو ثلاثة متواصلين، ورغم تجدد هذا الحديث كل فترة، لم يتغير شئ.
ليلى* (36 عامًا) تعمل في مجال الإنتاج السينمائي والدعاية، وتمتهن هذه المهنة منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. حاليًا لدى ليلى فريق يعمل معها، ونجحت في حماية نفسها وفريقها، نسبيًا حتى الآن، من الاحتراق في العمل. لم تنجح في ذلك حين كانت أصغر سنًا، وهي حاليًا غير متأكدة من إمكانية استمرار مصدات الدفاع هذه أمام سوق متوحش بعض الشئ.
حادث وفاة روبير لم يكن الوحيد الذي شاهدته ليلى في مهنتها، فهي تعرف قصصًا عن أشخاص توفوا نتيجة ضغط العمل في مجالها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أو احترقوا بعنف فتركوا المهنة أو تدهورت صحتهم الجسدية أو العقلية. «لما بنصور 12 ساعة بس ده بيبقى فرح، وبنبقى مبسوطين جدًا ونسلم على بعض. المتوسط ١٥ ساعة، فيه ناس بنعرف نطلب منهم ما يقعدوناش أكتر من 15 ساعة، بس فيه مخرجين متوحشين، مابنعرفش ناخد منهم حق ولا باطل. بالذات إن مفيش عقود في التصوير ومفيش قانون بيحكم ساعات العمل في المجال ده».
عملت ليلى في الخارج عدة مرات، في كل البلاد التي عملت فيها، فيما عدا مصر، هناك قوانين وأعراف تحكم عدد ساعات العمل ونقابات واتحادات عمالية تمثل العاملين بالمهنة بحق، وقد تغلق مواقع التصوير لو تجاوزت عدد ساعات العمل المسموح بها. في المقابل تعتبر ليلى أن ثقافة العمل في مصر أيضا بها خلل، تقول «الناس محتاجة تخلي بالها من صحتها. الـ mental health والـ burnout دي مصطلحات مانعرفهاش في مصر».
قبل سنوات، حين كانت ليلى أصغر سنًا، كانت تتعرض لـ burnout أكثر، الآن يمكنها التحكم بعض الشئ، تحاول زيادة عدد الفريق الذي يعمل معها حتى لو قل المكسب، وتتفاوض في ساعات العمل في محاولة لعدم تعريض نفسها وفريقها لما تعرضت له من قبل. في أوقات كثيرة تصل ساعات التصوير إلى 24 ساعة متواصلة، ولكن أطول تصوير عملت به كان 37 ساعة. وهي أصغر، كانت ليلى تريد ترك المجال بسبب الضغط الشديد. بعد ساعات العمل الطويلة تلك، تقضي ليلى أربعة أيام على الأقل «جثة هامدة»، لترتاح.
تذكر ليلى موقفًا حدث قبل سنوات «كنا بنصور في مول، والجو كان برد جدًا، والتصوير في المولات لازم يبقى overnight. واليوم ده كنا بنصور من الصبح بدري أصلًا، لما ابتدينا تصوير في المول بالليل متأخر، في لحظة ماقدرتش أقف وعيني قفلت لوحدها، دخلت بروفة ونمت متكورة على البلاط في عز السقعة».
تضيف «أفتكر شغلانات دخلنا البلاتوه الأربعاء بالليل، طلعنا الجمعة بعد الصلاة». بحسب ليلى، ما يحدث هو أنه لكي يكسب فريق أو شركة «الشغلانة»، لذا فعليهم تصدير أن الميزة لديهم هي انخفاض التكاليف، وبالتالي لو «الشغلانة» تحتاج إلى ثلاثة أيام، سيقومون بها في يوم واحد. ضغط شديد على العاملين، من أجل التوفير. تزداد الضغوط بشدة بالطبع في مواسم مثل رمضان، تقول ليلى «كل سنة بيصحوا من النوم يلاقوا إن رمضان جاي ومعملناش حاجة. ضغط شديد جدًا، المسلسلات بتبقى كارثة، الناس بتخش تصور والمسلسل مش مكتوب. بيتكتب على الهوا ويتصور على الهوا ويتغير على الهوا».
ليلى وغيرها من العاملين في المجال يبقون فيه، ببساطة، من أجل المال. هذه المهنة تدفع جيدًا، العاملون والعاملات فيها يشبهون لاعبي كرة القدم بدرجة، فهي مهنة شبابية بدرجة كبيرة، تقول: «الشغلانة دي مش طول العمر. لازم مجهود كبير ونفحت نفسنا. مفيش أوبشن إن انتي تريحي. لو ريحت هاقعد في البيت، لازم أبقى بصور حاجة دايمًا».
لكن الحل ليس مستحيلًا، الحل دائمًا في نقابة قوية، تقول ليلى ««نقابة المهن السينمائية هي الجهة المسئولة، وما بتعملش حاجة. لو فيه قوانين وقواعد اتحطت واتنفذت الوضع هيتغير. لكن دلوقتي هي دي الشغلانة، لو عاوزة curfew تروحي تشتغلي في بنك».
ظروفك مش مشكلتنا
«هو ده السيستم.. هو ده اللي عندنا» هذا هو شعار معظم أصحاب الأعمال في كل المجالات تقريبًا. لكن ماذا لو قرر شخص الخروج من «السيستم» والتغريد وحيدًا، هل ينتهي الاحتراق؟ في الحقيقة هناك احتراق من نوع آخر، من قلة العمل أو التهديد بفقدانه، احتراق يتعلق بالفواتير الشهرية والالتزامات المالية الثابتة، من التقلب الشديد بين كومة ضخمة من المهام في أسبوع، ثم الفراغ التام في الأسبوع التالي. هل يمكن الخروج من «السيستم» أصلًا؟
أنا خرجت من «سيستم الصحافة اليومية» بارادتي الحرة، أو لاستعادة إرادتي الحرة، لكن مها تم استبعدها من «السيستم» مؤخرًا بفصلها تعسفيا من جريدة مصرية خاصة بعد سنوات من العمل بها. مها* صحفية، تبلغ من العمر 36 سنة، لديها طفلة عمرها عشرة سنوات، ورصيد 18 عامًا في العمل الصحفي. حتى قبل فصلها، كان السبيل لتحسين دخلها هو العمل بشكل حر إلى جانب وظيفتها الثابتة، الآن مع فقدان الوظيفة الثابتة، التي كانت تعطيها دخلًا غير كاف بالأساس، ولكنه مع ذلك يعطيها بعض الأمان الوظيفي، عليها الآن أن تعمل في أماكن كثيرة في نفس التوقيت.
لدى مها زميلات كثيرات انقطعوا، للضرورة، عن المهنة لفترة بسبب الحمل ثم رعاية الطفل، وحين عدن بعد انقطاع، كانت الصحافة قد لفظتهن ففقدوا فرصهن في الترقية وفي عضوية نقابة الصحفيين، لهذا استمرت مها في العمل، حتى حين كان عليها العمل بمرتب هزيل في مكان واحد للتوفيق بين البيت والعمل. لم تتخلى عن مسئوليات البيت والطفلة، لكن الأمر بات أصعب كثيرًا، لأن الأطفال لا يحتاجون الرعاية في أعوامهم الأولى فحسب، بل كلما كبروا ازدادت احتياجاتهم.
«طول رمضان بقول هعدي اليوم ازاي؟ عندي تصوير وبنتي عندها تمارين ودروس، ولازم أقعد على الجهاز، وعندي ساعة بيولوجية بايظة عشان الصيام، ولازم آلاقي أوقات مناسبة عشان أكلم المصادر». هذه هي حياة مها اليومية. تضيف «الشغل الثابت مهم عشان الدخل الثابت، والفريلانس مهم عشان تزودي دخلك وعشان تعملي الموضوعات اللي عايزة تعمليها».
تصف يومها كالتالي: «بصحى في العادي 6 الصبح، أحضر اللانش بوكس بتاع بنتي وبعدين أخش في خناقة الصحيان بتاعتها، وبعدين بحاول أقعد أشتغل شوية وأعمل شغل البيت شوية، لغاية ما بتيجي الساعة 1 أعمل الأكل، عشان البنت ترجع من المدرسة تاكل وتعمل الواجب وتلحق التمرين، وبعدين خناقة بالليل. وعلى جنب بعمل أكل تاني لجوزي. لو عندي شيفت أو شغل بره كنت بوديها المدرسة واروح المكتب وجوزي يستقبلها ويشتغل هو بالليل وأنا أحل معاها الواجب على التليفون». ما يصعب الأمر أكثر على مها أن ابنتها لديها تشتت في الانتباه وفرط في الحركة، فتحتاج إلى اهتمام وتركيز كبيرين.
هناك ضغوط أخرى بخلاف تنظيم الوقت، بالنسبة لمها، لأن العمل «الفريلانس» يحتاج إلى شبكة علاقات واسعة، وليس هذا فحسب، بل كي تحصل على دخل معقول، عليها أن تعمل لثلاثة أو أربعة أماكن، لكن الدخل غير مضمون، والمعاملة ليست مهنية بالضرورة.
تقول مها «عملت تقرير لمكان، واتأجل نشره ثلاثة شهور، وبعدين كان المفروض يتنشر في مارس عشان آخد فلوسه في أبريل، لما كلمت المحرر عشان أسأله اعتذر عن نشر التقرير وكان مبرره إني بسأل على الفلوس بدري».
تروي مها موقف آخر «في مكان تاني بعتلهم اسألهم لما الفلوس اتأخرت، قالولي معلش سقطنا اسمك من الكشف، ولما اتكلمت قالولي ظروفك مش مشكلتنا.. لما بتطلبي فلوسك بيعملولك بلوك».
لكي تنجح مها في العمل، عليها أن تتجنب تكرار الأفكار التي تبيعها لأماكن عمل مختلفة، وعليها أن تراعي «ستايل» كل مكان، وعليها بالطبع أن تعمل في ملفات مختلفة، ما يعني توسيع شبكة مصادرها، بعكس العمل في مكان عمل واحد، والذي يتيح التخصص في ملفات بعينها، والذي يتيح تراكم الخبرة أيضا. ومع ذلك لا يخلو «الفريلانس» من القصص الخبرية الحدثية التي تستدعي تغطية طارئة، وسهر طوال الليل لإنهاء القصة.
في محاولتي للخروج من «السيستم» شعرت بالحرية، فالحياة تبدأ بعد إغلاق باب العمل خلفك، ولو إلى حين. بالذات لو ابتلع هذا العمل ذاتك وحياتك، وارتهن به كل شئ. كان علي أن أحسم أمري بحزم وشدة، مثل المدمن الذي يجب عليه أن ينقطع تمامًا ونهائيًا عن «الشئ» الذي يدمنه ..
« to do list طويلة جدًا بخلاف مسئولية البيت والطفلة». هذه الضغوط لا تتناسب إطلاقًًا مع الدخول المنخفضة في مهنة الصحافة، بالذات مع السياسات الاقتصادية التي خفضت قيمة الجنيه، ليزيد سعره، رسميًا، أمام الدولار لأكثر من 30 جنيه، ولازلنا في انتظار تحرير كامل لسعر الجنيه، تطبيقا لشروط قرض صندوق النقد الدولي. الوضع المعيشي في مصر ساء بشدة مع الارتفاع الشديد في الأسعار، وعدم زيادة الأجور بشكل متناسب مع هذه الزيادة.
«بسبب الفريلانس مببقاش عارفة الفلوس هتيجي امتى وكام. أول الشهر بقعد أعمل ميزانية من مرتبي أنا وجوزي. لما كان عندي المرتب الثابت الهزيل، كان بيغطي الإيجار. بقعد أحسب الفلوس والأولوية طبعا للالتزامات وأيا كان اللي فاضل بنخصصه للبيت. وندبر بيه الدنيا، بنخفض أو نقلل حاجات حسب الميزانية، أو ندور على العروض أو نشتري الحاجة في المواسم»، هكذا تحاول مها مواجهة صعوبات الحياة.
في 29 أبريل من العام الماضي، أنهى الصحفي بالأهرام، عماد الفقي، حياته، في مكتبه بالمؤسسة. قررت النيابة فتح تحقيق، لم يُعلن عن نتائجه حتى هذه اللحظة، لكن وفاته القاسية والصادمة أثارت الحديث عن مشكلات كثيرة في الصحافة، بالذات في المؤسسات القومية، منها استغلال السلطة والأجور.
في بداية حديث مها ذكرت سببا آخر لعملها كفريلانس، هو أن تعمل بحرية، وليس في إطار صحافة الصوت الواحد، التي تخضع بشكل كبير لأوامر حكومية. تغطي مها أحيانا قصصا ثقيلة بالذات قصص تخص العنف على أساس النوع، وتتسبب مثل هذه المواضيع في اكتئاب وقلق، بالذات لأنها إمرأة وأم، فترى نفسها كثيرا مكان الضحية.
لكن العمل على موضوعات عن السجون على سبيل المثال، تضعها في ضغط من نوع آخر، تشعر بـ «رعب أزلى» أن يقبض عليها، أو أن يتم التضييق عليها في عملها هي أو زوجها. «لما زمايل لينا اتقبض عليهم أو جالهم ضبط وإحضار، اتصلت بناس زمايلي أوصيهم لو جرالي حاجة يعملوا إيه». هذه الضغوط التي تدخل مها في نوبات اكتئاب وقلق، يرتبط بها التدخين وتناول الطعام بشراهة، وقد تحترق لدرجة الشلل، فلا تستطيع حتى إنجاز المهمة.
تبلغ مصر المرتبة 166 من أصل 180 دولة على مستوى العالم، في مؤشر حرية الصحافة، الذي أصدرته «مراسلون بلا حدود»، بمناسبة اليوم العالمي للصحافة، الشهر الجاري، ووفقًا لتقرير لجنة حماية الصحفيين الدولية، الذي نشر في ديسمبر 2022، فإن مصر تأتي في المرتبة الخامسة في البلاد الأكثر حبسًا للصحفيين، حيث يوجد 21 صحفي رهن الاعتقال.
في محاولتي للخروج من «السيستم» شعرت بالحرية، فالحياة تبدأ بعد إغلاق باب العمل خلفك، ولو إلى حين. بالذات لو ابتلع هذا العمل ذاتك وحياتك، وارتهن به كل شئ. كان علي أن أحسم أمري بحزم وشدة، مثل المدمن الذي يجب عليه أن ينقطع تمامًا ونهائيًا عن «الشئ» الذي يدمنه. لم ولن أعتزل الصحافة، لكنني قررت ببساطة أن النجاح والفشل لا يتحددان في «صالة التحرير». ربما يتحددان في كثير من الأمور، التي أصبح لدي الوقت الآن أخيرًا لاختبارها. لن يتحقق النجاح بأي حال لو فقد الإنسان حريته أو صحته أو عقله في سبيل «الوظيفة». ما زلت أمارس الصحافة، المهنة التي أقدرها كثيرًا، لكنني أحاول ألا أفني نفسي بها، هل هذا ممكن؟ لا أعرف بعد.
لا يمكن الهروب من «السيستم». تندرنا أنا وأحد الأصدقاء، أنه حتى لو هربت وعملت في مزرعة أو في صيد السمك أو في رعي الأغنام، سأخضع لـ «سيستم» آخر، وديناميكيات عمل وروتين آخرى، ربما يكون الفارق الوحيد عن العالم الرأسمالي الكبير الذي نعيش فيه جميعًا، أن الديناميكيات على الهامش ستكون على مستويات أخف، وربما أيضًا لا تتركني الرأسمالية في حالي، فتصادر قطعة الأرض المتطرفة، التي أرعى فيها الأغنام، لبناء برج اتصالات. لو هربت من كل شئ مثل الأستاذ «عطية عبد الخالق» هل ستكون حياتي رائقة مثل حياة «الحاج كمال» في فيلم «خرج ولم يعد»؟.
* الأسماء الواردة مستعارة بناء على طلب المصادر