يشهد المصريون هذه الأيام هدم وتبديل متواصل لعاصمتهم. تُزال مناطق قديمة… مقابر، حدائق، ميادين، أو أحياء سكنية، ليحل مكانها مطاعم أو مساجد أو جسور ومحاور. السُكان في المدينة الجديدة يعيشون في مجتمعات مسوَّرة، لا يدخلها إلا المقيمين والعاملين، كل الشوارع والمباني متطابقة، دون علامة تستطيع معها تمييز مقصدك.
وسط هذا المشهد زاد اهتمامي بتوثيق مناطق القاهرة وتحديداً القاهرة القديمة ومقابرها التاريخية، واكتشاف العلاقة بين مبانيها ومحيطها البشري، الذي عاش جوارها منذ قرون بعيدة. يمثّل شارع صلاح سالم نقطة هامة في المدينة. صلاح سالم هو واحد من أطول شوارع القاهرة، يبدأ من مدينة نصر شرق المدينة ويصل حتى الجيزة، وتم بناؤه تباعاً على عدة فترات، على أنقاض أحياء ومعالم أقدم. هناك تكون في المنتصف بين القاهرة القبطية ومناطق بناها البطالمة والرومان والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين وحتى عائلة محمد علي.
اخترت النزول لمنطقة مقابر الأباجية، دفعتني إزالة أجزاء من مقابر المماليك في الشهور الماضية لبناء كوبري “جيهان السادات” لتصوير شواهد المقابر في المنطقة، خصوصاً مع تنوع الطرازات المعمارية التاريخية والأثرية في المنطقة، التي قد نخسرها في أي لحظة.
اختار العرب منذ دخولهم مصر سفح جبل المقطم ليصبح مدفنًا للموتى، كلمة “القرافة” التي تستعمل في العامية المصرية كمرادف للمقابر جاءت من بطن من قبيلة المعافر اليمنيّة تُسمّى بنو قرافة سكنوا المنطقة بعد بناء مدينة الفسطاط أول عاصمة للعرب في مصر، ومع الوقت لم تصبح المنطقة مدفنًا فقط وإنما كانت وجهة للراغبين في الهدوء والمتصوفة وضمت العديد من المدارس والمساجد ومدافن السلاطين والأمراء.
وصفها المقريزي في الخطط بقوله: “والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحُجَرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران، مقدسة في جميع الكتب، وحين تُشرف عليها تراها مدينة بيضاء، والمقطّم عالٍ عليها كأنه حائط من ورائها”.
مقابر الأباجية تشبه إلى حد بعيد المقابر المحيطة بها في المماليك أو السيدة نفسية أو الإمام الشافعي وغيرهم، تضم المنطقة مدافن لشخصيات دينية تاريخية مثل الصحابي عمرو بن العاص والإمام الشافعي والسيدة نفيسة وفاطمة بنت الحسن، وشخصيات سياسية وفنية مثل أحمد لطفي السيد وإحسان عبد القدوس. أحواش مسوّرة لكل عائلة من الموتى، ويعيش في كل حوش عائلة أو أكثر من الأحياء. ليس صعباً على سكان المقابر اكتشاف الغرباء ووجهتهم، اعتاد الناس هناك أن الزائرين يأتوا إما في الجنازات، أو لزيارة مسجد شاهين الخلوتي، المنحوت على سفح المقطم ويطل على المنطقة من أعلى.
في زيارتي الأولى للمكان تعرفت علي ياسين. طفل صغير يعيش في الجوار ويهتم بمساعدة الزوار على زيارة المسجد، أو بالأحرى الصعود إليه. لأصل إلى المسجد، أو أطلاله بالتحديد، كان عليّ مرافقة ياسين كدليل للطريق، ثم الصعود على سلم خشبي هش، وصلنا إلى ممر يشبه سلسلة من المغارات الجبلية المتصلة أدت في النهاية إلى ساحة المسجد. على الطريق كان ياسين متحمساً ويحكي قصص الممثلين و”الموديلز” الذين يحضرون لتصوير مشاهد الأكشن للسينما، أو للتصوير مع المكان، ويتوقف عند نقاط محددة ويطلب مني أن أصوره وهو يقوم بحركات تشبه حركات “الموديلز”.
الساحة تبدو في حال بائسة، المسجد نفسه لم يتبق منه سوى المئذنة والقبة التي توالى نهبها على مدار عصور متتالية. ورغم أن المسجد، الذي بناه جمال الدين شاهين الخلوتي لأبيه قبل حوالي 500 سنة، وكان يضم ثلاثة أضرحة، مصنف ضمن الأثار المصرية تحت رقم 212، إضافة إلى طرازه المعماري النادر والفريد وإطلالته المميزة، لكنه عانى من الإهمال والتدهور الشديد في السنوات الأخيرة وبات مهدداً بالسقوط. مع ذلك، في الزيارة الأخيرة وجدت وزارة السياحة الأثار بدأت أعمال لترميم ما تبقى منه.
البؤس لا يأتي فقط من حالة المسجد، ولكن كذلك من المحيط البشري المكشوف من موقع الساحة. المكان رغم متعة زيارته وأهميته بالنسبة لي كمصور إلا أنه أيضاً يشبه رحلة لتوثيق أكوام لا نهائية من الفقر في القاهرة. لتصل عليك المرور من قلب سكان قبور الأباجية، وعندما تصل يكون أمامك الفرصة لمشاهدة سكان قبور باقي المناطق.