في عامي الخامس عشر سافرتُ لمدينة صغيرة من أجل مواصلة الدراسة، إذ لم تكن هناك ثانوية في بلدتنا. وسيتحتّم عليّ أن أقضي سنتين بالقسم الداخلي، والخضوع بالتالي لنظام جماعي. وينسحب هذا النظام على حصص المراجعة وساعات النوم وأوقات الطعام. وكانت ساعة الطعام تقتضي الالتزام بعدّة ضوابط، أولُّها الانتظام في الطابور، ثم الدخول بهدوء والجلوس على المقعد المُخصّص لكل فرد. كان يتحلّق على كل مائدة ثمانية طلبة، وأمام كلّ واحدٍ طبق وكأس وشوكة وسكين وملعقة.
كانت تلك الأيام هي أول عهدي بالشوكة، التي وجدتُ في استعمالها متعة غريبة. لقد كان إمساك الشوكة باليد يمنحني شعوراً بالرضا والامتلاء، على الأرجح يمنحني نوعاً من التبجّح ربما كنتُ في حاجة إليه أنا القادم من أسرة قروية بسيطة. فضلاً عن هذا المستجدّ، طرأ لي تحوّل آخر في أدبيات الطعام، فقد صرتُ أتناول الكسكس بالملعقة، فيما كنتُ أتناوله في البيت باليد، مثل باقي أفراد أسرتي.
“لا شيء أفضل من اليد”
امتداداً لنظام القسم الداخلي صرتُ أبحث عن ملعقة كلّما عدتُ إلى البيت في أيام العطل. لاحظتْ جدّتي هذا التحوّل فسألتني. أخبرتها أننا نتناول الكسكس في داخلية المدرسة بالملعقة. قالت لي: “لا شيء أفضل من اليد”. قلت لها: “هناك لا أحد منّا يضع يده مباشرة في الصحن دون هذا الوسيط المعدني”. ردّت: “وماذا إذا كان الطعام ساخناً أكثر من اللازم؟ هل ستخبرك الملعقة بذلك؟”.
لم أجد جواباً لسؤالها، ولم أرد أيضاً أن أخبرها بأننا نأكل بالشوكة أيضاً. أعرف أنها ستسخر من شكل الشوكة، إذ سيبدو لها أنها تصلح لكل شيء سوى للأكل. شكل الشوكة يوحي بأنها يمكن أن تكون مع مفكّات البراغي في حقيبة ميكانيكي، أو مع المَبارِد في عيادة طبيب الأسنان.
قالت جدّتي ونحن على مائدة الطعام: “هل تعرف الفرق بين اليد والملعقة؟”. قلت لها: “قياس الحرارة”. قالت وهي تضحك: “لا. الملعقة مثل زوجة الأب، بينما اليد مثل الأمّ”. استفسرتُها عن هذا التشبيه الغريب، فأجابت: “هل ستحنو عليك زوجة أبيك أكثر من أمّك؟” رددتُ: “طبعاً لا”. فقالت: “حين تدفع الملعقة إلى قصعة الكسكس لتعود بها ممتلئة إلى فمك قد تغدر بك في أية لحظة. فإذا كانت اللقمة حارّة ستحرق فمك، وهذا سيؤلمك. على كل حال لا يمكن لأمّك أن تؤلمك مهما حدث. أما حين تمدّ يدك فأنت ستعرف إن كانت اللقمة صالحة لأن تضعها في فمك أم أنها تحتاج بعض التبريد. اليد هي التي تعرف الجواب، وهي نفسها التي تقوم بمهمة التبريد”.
كنتُ أحدّق في جدّتي وهي تواصل عِلمها الفريد: “اليد تستطيع أن تكوّر لقمة الكسكس وتحرّكها على طرف القصعة وتديرها أيضا في الهواء إلى أن تبرد. اليد تحنو على اللقمة وتحنو عليك. لذلك فهي كالأم. أما الملعقة فلا يمكن الثقة فيها على الدوام. لن تكون في مرتبة الأم. إنها تماماً مثل زوجة الأب. ثم إنني ألعق أصابع يدي بعد الأكل، ماذا ستلعق أنت؟ قطعة الحديد؟”.
الملعقة والزهايمر
كانت جدّتي بشَعرها المخضّب بالحنّاء ووشمها الأخضر على الذقن وسحنتها الخمرية تشبه نساء الهنود الحمر. لذلك بدا لي في تلك اللحظة كما لو أنني أمام حكيمة هندية. عاشت جدتي تكره الملاعق. تأكل الكسكس بيدها وتستمتع وهي تحوّل اللقمة إلى كرةٍ صفراءَ كنا نحن الصغار نشبهها بكرة المضرب.
حتى حين يتعلّق الأمر بالحساء لم تكن تلجأ إلى الملعقة، بل إلى مِغْرَفة خشبية. فهي تعرف أن الخشب يمتص الحرارة بعكس الحديد. كانت مغرفةُ الخشب إذًا تقف في مرتبة وسطى بين الأم وزوجة الأب. وحين تطمئن إلى انخفاض حرارة الحساء تضع المغرفة جانبا وترفع الإناء مباشرة إلى فمها.
ترى الجدّة أنّ الكسكس حين يؤكل باليد يكون ألذّ. وهذه اللذة تنسحب أيضاً على شقائق الكسكس، أي ما نسميه نحن المغاربة “بدّاز” و”بَلْبولة”. ويصعب تفسير هذا، فالطّعام هو الطّعام لن تتغيّر لذّته بسبب ملعقة. لكنّها تدرك أن ثمة حميمية خاصة تمنحها اليد لطقس تناول الطعام، وأن ثمة تعاقداً سرياً بين الإنسان ويده. إنه تعاقد مبنيّ بالأساس على الثقة، وعلى إلغاء كلّ مفاجأة لا تسرّ.
الحياة الحديثة تقتضي ملعقة وشوكة وسكيناً على مائدة الطعام، لكن العلم الحديث أيضاً يرى أن هذه الأدوات قد تكون سببا في الإصابة بالزهايمر، ذلك أن ما يترسب من مادة الألمنيوم في الدماغ سيعجّل وصول هذا المرض. يقول العلم أيضاً أن في اليد بكتريات مفيدة للجسم، وهذه البكتريات لا يتم فرزها إلا عند ملامسة الطعام.
يبدو لجدّتي دائماً أن الملعقة دخيلة على حياتنا. فالأداة الوحيدة التي يمكن أن تصنع من الحديد هي السكّين. في المطبخ التقليدي لا وجود في الغالب للحديد. هناك الطاجين الذي يصنع من الطين، “الغراريف” التي تشبه الأكواب أيضاً من الطين. القصعة تصنع في الغالب من أشجار اللوز والعرعار، المغارف من الخشب، أطباق الخبز من نبتة “الدّيس“، و“المَخفية” التي تقوم مقام الصّحن تُصنع من الفخّار.
بعض سكان الساحل لدينا يستعملون أصداف المحار بدل الملاعق. لا أعرف كيف تأتّى لهم هذا الاكتشاف. لكنه ضارب في التاريخ، رغم ندرة التداول. ففي الثقافة الإغريقية كانت صدفة المحار هي الملعقة.
للملاعق تاريخ..
يسمي المغاربة الملعقة “العاشَق”، بفتح الشين، ولا علاقة للكلمة بفعل العِشق من الناحية اللغوية. إذ يبدو أنها مأخوذة من كلمة “كاشاك” التركية التي تعني أدوات المطبخ.
لاتعرف جدتي أن للملعقة تاريخاً. وهي على كل حال لن تؤمن بهذا التاريخ، حتى لو عرفته. سيصعب عليّ أن أقنعها بأن الإنسان اهتدى إلى الملاعق قبل الميلاد. فالمصريون القدامى كانوا يصنعون ملاعقهم من العاج والصّوان. أما اليونانيون والرومان فكانوا يصنعونها من النّحاس والفضّة قبل أن تصير ملعقةُ الذهب كنايةً على الحظّ. ربما كانت للإنسان البدائيّ ملعقتُه، وربما صنعها من الطين أو أوراق الشجر أو عظام الحيوانات التي كان يصطادها، قبل أن يكتشف المعادن.
لكنْ كان على البشرية أن تنتظر حلول القرن الخامس عشر لتظهر الملاعق بالشكل الذي نراه اليوم، ولتنتشر أكثر خلال القرن الثامن عشر، لأنه ببساطة قرن اكتشاف الألمنيوم. ثم سيظهر النّيكل والكروم لاحقاً كطبقات معدنية تحمي الملاعق من الصدأ.
لم تنتشر الملاعق على الموائد المغربية إلا في الفترة الكولونيالية، خصوصاً مع الفرنسيين الذين جلبوا معهم شوكاتهم وملاعقهم مع عاداتهم في الطعام. فاليد عند المغاربة كانت هي وسيلة الأكل وأداته الوحيدة على مدار قرون. وحين ظهرت الملعقة بعد مِغرفة الخشب كان ذلك لأجل الوجبات السائلة بالأساس: “الحسوة/ حساء بالطحين”، “الحريرة/حساء بالقطاني”، “الصّوبّة/حساء الخضر”. ولم تمتد الملعقة إلى أطباق الكسكس إلا لاحقاً، لتنشأ بينهما علاقة جديدة على طرف المائدة المغربية يبدو أنها ستستمرّ إلى الأبد.
.. وللكسكس أيضاً
إذا كان للملاعق تاريخ، فإن للكسكس في بلاد المغرب تاريخاً موازياً سيُفرح الجدة دون شك. إنه تاريخ يعود إلى ما قبل الميلاد بمائتي سنة على الأقل. فقد ظلت بلدان شمال إفريقيا تتجاذب أطراف المنافسة حول البلد الأصلي للكسكس: المغرب أم الجزائر أم تونس أم ليبيا؟ لكنّ الجواب هو المملكة الأمازيغية نوميديا. إذاً فالكسكس سيد من بلاد الأمازيغ.
لقد أثبتت المؤرخة لوسي بولينز المتخصصة في تاريخ الطبخ أن الكسكس يعود إلى عهد الملك الأمازيغي ماسينيسا أحد أشهر من حكموا مملكة نوميديا قبل الميلاد. وحجة المؤرخة في ذلك هي أن الأواني التي كان يعدّ بها هذا الطعام عُثر عليها في مقابر مملكة ماسينيسا.
ولم يصل الكسكس إلى المطابخ الأوربية إلا مع نهايات القرون الوسطى. وقد يكون أول عربي ذكر الكسكس في مؤلفاته هو أبو بكر بن دريد الذي ولد بالبصرة في النصف الأول من القرن التاسع. فقد وردت الإشارة إلى هذا الطعام المغاربي في كتابه “جمهرة اللغة”، وذلك قبل ان يتحدث عنه الرحالة المعروف الحسن الوزّان الشهير بلقب “ليون الإفريقي” في القرن السادس عشر، والمؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان قبل أكثر من قرن في كتابه “تاريخ إفريقيا الشمالية”.
إكراماً لجدتي
لا يُطلق في المغرب اسم الكسكس إلا على الوجبة المصنوعة من طحين القمح، إذ نسمّي تلك المصنوعة من طحين الذرة “بَدّاز”، ومن طحين الشعير “بَلْبُولة” أو “تْشيشة“. توضع الخضراوات بمرقها في القدر، ويوضع “الكسكاس” فوق القدر ويُحكِم إغلاقَ ما بينهما شريطٌ من الثوب يسمى “القَفّال”. للكسكس شاعرية، وشاعريته تأتي من كونه ينضج على البُخار.
ومثلما انتقل معظم المغاربة من أكل الكسكس باليد إلى تناوله بالملعقة، انتقلوا أيضا بالقِدر من “كانون” الحطب ذي الأحجار الثلاثة إلى الأفران الغازية. في المطاعم، وحتى لدى بعض الأسر الحديثة لم يعد الناس يتحلّقون حول قصعة واحدة، بل صار لكل فرد صحنه الصغير الخاص به، وبالتالي فقد الكسكس روحه الاشتراكية.
يحظى الكسكس بقداسة خاصة في المغرب، فهو أولاً يرتبط بيوم الجمعة، إذ يُقدَّم في وجبة الغذاء داخل معظم البيوت، مباشرة بعد العودة من صلاة الجمعة. ثم إنه الوجبة المرتبطة بالعزاء، خصوصاً في القرى والبوادي. أما في ليلة السابع والعشرين من رمضان، الليلة التي يرى المغاربة جميعا أنها ليلة القدر، فإنهم يحملون أطباق الكسكس إلى المساجد كوجبة عشاء للمصلين.
ربما حفاظاً على قدسية الكسكس كانت جدّتي تفضّل أن تمدّ يدها العزلاء إلى القصعة دون حاجة إلى أي وسيط معدني. أما أنا فإكراماً لجدّتي، ومنذ رحيلها، تركتُ الملاعق على المائدة، وذهبتُ إلى الكسكس مثلما كانت تذهب إليه.