نسمع صوتاً في الممر يعيدنا إلى إيقاع العيش في يوم عادي، هذا هو الصوت الذي كنا ننتظره؛ العربة المستطيلة تقترب، تهتز داخلها الصواني التي تحمل الطعام. يحضرون الفطور باكراً، لكنه يبدو متأخراً بالنسبة لمن أنهكه الليل. من لم يتمكن من النوم من شدة الألم أو السعال المتواصل أو ضيق التنفس، أو حتى من آلام الآخرين العالية التي كانت تصل من الغرف الأخرى.
أجسادنا في الليل ترهقنا، تتصرف وكأننا لسنا موجودين فيها، يتركنا الصراع معها خائرين يملؤنا الجوع القارس قبل الفجر. لا بأس، المهم أن الفطور وصل الآن. الدرس الأول الذي يتعلمه نزيل المستشفى هو جوع الليل الذي تؤذن بنهايته ضوضاء عربة توزيع الوجبات وهي تتحرك في الصباح.
في صينية بلاستيكية زرقاء شرائح من الطماطم والخيار، بيضة مسلوقة، قطعة جبن، وبضع حبات زيتون. هناك كوب بلاستيك نصفه حليب، ورغيف بحجم راحة اليد في كيس. حبوب الدواء في فنجان بلاستيك صغير تبدو كما لو كانت سكاكر بأشكالها المختلفة وألوانها الزهرية والخضراء والصفراء.
لا بدّ أن تكون لبقاً لتحصل على القهوة، أمر الشاي سهل، لكن القهوة صعبة، ليست ضمن قائمة مشروبات المشافي عادة، وإن كنت ممن لا يزورك أحد لسبب أو لآخر فأنت طبعاً لن تحصل على ثيرموس قهوة أُعدّ لك في البيت، إن طلبت فنجاناً من كافتيريا المشفى فسوف يصلك إما خفيفًا أو باردًا أو الاثنين على الأرجح. لذلك يخسر المريض المزعج فرصته في أن تسكب له الممرضة بعضاً من القهوة التي أعدتها لنفسها وزميلاتها، يخسر النزيل المتطلب تعاطف القهوة هنا.
أكثر شيء فعلته في حياتي أنني مرضت وسافرت، وكنت كلما انتقلت إلى مدينة جديدة بحثت عن شقة قريبة من مستشفى أستأجرها، مرة سكنت لصق مستشفى الروم في بيروت، آنذاك كان جسدي يهاجمني كعدوّ يحمل فأساً ويغدرني من ظهري، في صميم رئتي، وكثيراً ما مشيت إلى الطوارئ في الليل وفأس في ظهري.
هذه المريضة الزومبي أقامت في مستشفيات في عمّان وبيروت وباريس وبانكوك وأبو ظبي وأوروس وسوانزي ولندن واستانبول، ومرّت فترة كان هناك حقيبة صغيرة معدّة دائماً في بيتي لأي لحظة أضطر فيها إلى إدخال نفسي سريعاً للمستشفى، فكنت أرتدي ملابسي وآخذ الحقيبة وأذهب، مثلما أفعل حين أطلب تاكسي إلى المطار.
محاولة للتعريف
المريض/ة إنسان سُلبت منه عاداته، أو أنه يمتثل للتنازل عنها على باب المستشفى، يتركها كما يترك السجين مقتنياته في الأمانات، وفي حين لا يرى النزيل نفسه مريضاً وحسب، فإن هويته في هذا المكان تقتصر على وضعه كمريض وطبيعة مرضه، لا أحد يهتم بتاريخه الشخصي وعاداته التي جعلت منه فرداً، المستشفى هي أرض يملكها المرض، دكتاتورية لا مجال فيها للتعددية والأهواء، أنت تأكل ما يقدم إليك، بالكمية التي يختارونها، وبالطريقة التي يضعون الطعام فيها، وفي الوقت الذي يريدونه.
صحيح أنك تأكل وحدك، ولكن يدك أيضاً تأكل معك، الإبرة المثبتة بها تنقل سائلاً شفافاً من كيس صغير مرفوع على حامل، تسيل القطرات عبر الأنبوب وتمر عبر الإبرة وتشق طريقها مباشرة إلى مجرى الدم. هذا أول شيء تقوم به الممرضة بمجرد إدخالك؛ تحوّل يدك إلى فم مفتوح بالغصب.
***
يكترث معظم البشر بمتعة مشاركة الطعام، ويحرصون أن لا يأكل أحد أفراد العائلة وحده، (إلا في حالة العقاب أو الزعل)، حتى في العمل يميل الموظفون إلى تناول الغداء سوياً، وكذلك هو الأمر في المدرسة والجامعة، فهذا الالتئام حول وجبة متأصل في معنى العلاقات الاجتماعية وعنصر أساسي للتواصل فيها.
رغم ذلك قلما يحاول المرضى الذين يتشاركون غرفة واحدة الاجتماع وقت الطعام أو حتى تبادل الحديث، بل إن معظمهم يسدل الستارة بينه وبين جاره في موعد الوجبة، ليأكل مستلقياً في هذه السينوغرافيا العنيفة: إنسان بمفرده على سرير، تخترق يده إبرة متصلة بكيس، وأمامه طعام في صينية بلاستيك ولإسكات جوعه عليه أن يبتلع ما فيه.
أن تفعل ما لا تريد
الجوع أيضاً، وليس المرض وحده، جاء بتلك المرأة تصحب ابنتها العليلة إلى مستشفى البشير الحكومي في عمّان، أتذكر ابنتها التي كانت من عمري وكان سريرها يجاورني، وسمعت والدتها مرة وقت الغداء تطلبها من أن تترك شيئاً لأختها في البيت.
كانت هذه الأم الزائرة الدخيلة علينا، تلح في الكلام معنا، ترفع الستارة بيننا وتطل برأسها بينما نتناول وجباتنا وتبتسم، تنظر إلى أطباقنا كما لو أنها تطلب منا نحن أيضاً أن نترك لها شيئاً تأخذه، فإن فرغت إحدانا من طعامها وتبقّى منه شيء تستأذن ثم تفرغه في أكياس لتعود به إلى البيت، غير آبهة بما تحمل معها من لعاب المرضى وأنفاسهم المبثوثة في البقايا.
تذكرتها مؤخراً في الشارع بينما أتجاوز امرأة تبحث في حاوية زبالة عن طعام، وقد رفعت طفلاً برفقتها وأنزلته فيها وأمرته أن يقلب في الأكياس البعيدة عن متناولها، خطر لي أن المستشفى كانت حاوية كبيرة، وأن تلك المرأة كانت تفتش فيها مثل هذه تماماً.
كذلك نحن، كنا أكياساً على أسرّةٍ نبلع بلا متعة طعاماً لا نحبه، الكل كان يفعل ما لا يريد.
طب قديم.. مختلف
الجوع، سبب قديم دفع المرضى إلى المماطلة في مظاهر تعافيهم، والتذرع بأي شيء للبقاء في المشافي العامة. نقرأ أخبار بعض هؤلاء مثل نوادر في كتب الطب والرحلات، فإذا مرض أحد الحُجّاج أو الرحالة القادمون من فارس واسطنبول بينما تعبر قافلتهم من دمشق، دخل إلى البيمارستان النوري (بُني عام 1154) في منطقة الحريقة في قلب المدينة، ويذكر عبد اللطيف البغدادي خبر الحاج الفارسي الذي مرض فبات عدة ليالٍ في النوري، وبعد أن جرّب طعام البيمارستان من لحم الضأن والبقر والدواجن وما يقدم معه من خضروات وفاكهة، تظاهر الرجل بالإعياء وبأنه لم يشف بعد وتلكأ في إتمام طريقه إلى مكة، إلى أن اكتشفه الطبيب ليمنحه الحق في ضيافة ثلاثة أيام في المشفى على أن يغادر بعدها.
وفي رحلته إلى بغداد عام 1156، يذكر الراهب اليهودي إبراهيم التطيلي المستشفى العضدي، الذي أنشأ في القرن العاشر بين محلة باب البصرة و محلة الشارع. كان الأطباء يقدمون للمريض الذي يظنون أنه تعافى دجاجة مشوية في كل وجبة مع خبز يعادل الخبز الذي يأكله إنسان صحيح الجسم، فإن لم يعاني المريض من سوء الهضم دلّ ذلك على شفائه، ولم يكن يتعجل الطبيب في إخراجه، بل ينقله إلى جناح النقاهة ليتغذى جيداً إلى أن يستعيد قوته، وقبل مغادرة البيمارستان، يُعطى ملابس جديدة وبعض النقود لكي لا يجوع فتنتكس صحته من جديد، فقد خصّصت هذه المشافي للفقراء ومُنع الأغنياء من دخولها.
عرفت بغداد أيام رحلة التطيلي عدة مشافٍ؛ البيمارستان الصاعدي والمارستان المقتدري، وبيمارستان السيدة أم المقتدر ومارستان الوزير ابن الفرات، ومارستان عز الدولة.”كان يستفيد من هذه المستشفيات كل من لا يقدر على مساعدة نفسه وليس المرضى فقط، بل وحتى أولئك الذين يحتاجون إلى التغذية والنظافة والراحة لبضعة أيام.
لقد مُنح أولئك غير القادرين على تلبية احتياجاتهم وفرة من الطعام وحتى بعض الأطباق الشهية التي لا يشملها عادة نظامهم الغذائي”؛ تذكر الباحثة فيرونيك بيتشون في ورقة نشرتها عام 2016 بعنوان “الغذاء والدواء في مستشفيات القرون الوسطى الإسلامية”، ويبدو أن صفات مثل شهي ولذيذ ووفير كانت ترتبط بطعام المشافي في الكتب التراثية بالعموم، حيث الأصل في طعام المستشفى أن يكون إلى جانب كونه صحياً، لذيذاً ومتنوعاً وطازجاً، مبدئياً لا تبدو هذه المعادلة بالأمر المستحيل تحقيقه.
***
قبل أن يتحول “أكل مستشفيات” إلى مصطلح يشار به إلى الماسخ، كان تصور الأطباء أن كثيراً من المرض يأتي من خارج الجسد، من الطعام والهواء، وأن علاجه لا بد وأن يأتي أيضاً من خارج الجسد، من الطعام المناسب والهواء النظيف، معتمدين على شخصية المريض، أو بالأحرى شخصية المرض، فإن كان المريض يفقد فرادته وخصوصيته في المشفى، فإن المرض يمنحه هوية جديدة، فسرها الأطباء القدماء من خلال “الأخلاط الأربعة” التي قد يختل توازن أحدها بسبب فساد أو نقص أو زيادة في الغذاء.
كمريضة، أصبح لدي تصنيفاتي الخاصة لأنواع المرضى؛ التردد على المشافي في بلاد كثيرة يجعلنا كنزلاء نفهم أمزجة بعضنا، فهناك مريض مصاب دائماً بالغثيان، ومريض جائع طيلة الوقت، ومريض فاقد للشهية، ومريض انطوائي، ومريض مكتئب، وهناك المريض المتمرد، الذي يقتضي داؤه إطعامه السوائل فقط، فيعلو صوته عند العشاء ويصرخ في فراشه: “لدي أسنان، لست عجوزاً، أريد أن آكل”.
يتسبب الطعام أحياناً في شجارات بين المريض والممرضة، وعادة ما ينتهي باستسلام الأول، وقلما ينجح في إقناع الطبيب بإدخال بعض التعديلات على حميته، لكن ذلك ليس مستحيلاً أيضاً، بل إن تغيير طريقة تفكير المشافي نفسها بالطعام موضع نقاش منذ نهاية التسعينيات في أوروبا.
في فرنسا مثلاً، توجهت المشافي نحو إجراءات جديدة، بما في ذلك إنشاء لجنة الغذاء والتغذية. كان ذلك رد فعل على تقرير فريد من نوعه أعده الطبيب برنار جي جراند، المتخصص في التغذية، بعد دراسة مسحية ضخمة قدمها لوزارة الصحة عام 1997، فما بين عشرين إلى أربعين بالمائة من المرضى يصلون إلى المستشفى وهم يعانون بالفعل من نقص التغذية، وغالبًا ما تتدهور حالتهم الغذائية أثناء إقامتهم.
بالطبع يمكن لأي كان أن يعزو هذا التردي إلى فقدان الشهية الناجم عن المرض أو الأدوية، لكن السبب الذي لا تعترف به كثير من المشافي هو طعامها نفسه كسبب في سوء تغذية النزيل، فالقول بأن وجبة المستشفى صحية وكافية ليس إلا كليشيه يجري تداوله من دون أن يجري استقصاء حقيقته. ترك تقرير جراند لأول مرة مساحة كبيرة لوجهة نظر المريض في الطعام، واستخلص من خلالها أن سوء التغذية في المشافي كان من الأسباب التي زادت بعض حالات المرضى سوءاً.
خطط مشوشة
أطعمة المستشفيات ليست طازجة! بعض المشافي في بريطانيا مثلاً، ولتخفيف نفقات المطبخ، تتعاقد مع شركة تغذية، وهذه تورد وجبات جاهزة مجمدة، وتكتفي المستشفى بإعداد السلطة والحساء طازجين، قد تفيد هذه الطريقة في التقليل من هدر الطعام، حيث تصل نفايات الطعام إلى 10% من مجمل نفايات المستشفيات.
في المقابل، فإن بلداً مثل سنغافورة يعالج الهدر بطريقة مختلفة، حيث تعد الوجبات في معظم المستشفيات بناء على رغبة المريض بالتسيق مع الطبيب، أو توفر المستشفى قائمة بوجبات متعددة تشعر المريض بحرية اختيار ما يأكل، ثم يطبخ الطعام طازجاً، حيث تستخدم المشافي طهاة متخصصين داخلها يتعاونون مع أخصائيي تغذية.
يظهر الأمر كما لو أن ثمة سلوكاً عاماً للمستشفيات العمومية نحو تغذية المريض؛ فمعظمها لا تملك خطة واضحة للتغذية، أما الكميات التي يتم تقديمها فموحدة لجميع المرضى، وفي معظم الأحيان محسوبة وفقًا لاحتياجات أشخاص أصحاء أوزانهم طبيعية.
كما أن المشافي تقاوم بشدة إجراء تعديلات أو تكييف الوجبة بحسب المريض، وتقدم الطعام ثلاث مرات، آخرها ما بين السادسة والسابعة مساء، معظمها أغذية طرية وسائلة، دون تقديم وجبات خفيفة بينها. ينظر المستشفى إلى الأكل على أنه مجرد ابتلاع بسيط للعناصر الغذائية متجاهلاً القيمة النفسية والعاطفية والاجتماعية للطعام التي لا يستطيع المريض التخلص منها فور إدخاله. أما الاستخدام المنهجي للصواني البلاستيكية التي تشبه طريقة تقديم الطعام في الطائرات، فيمكن أن لا يلائم مرضى لا يستطيعون التحكم بحركة إيديهم، مثل المسنين وذوي الاحتايجات الخاصة أو الأطفال.
أمور “طبيعية”
حين دخلت أمي إلى المستشفى كنت في المدرسة، وحين عدت إلى البيت فتحت الثلاجة فوجدت كيس طماطم وجبنة مثلثات وعلبة بيرة لأخي، حملت كل هذا واشتريت كيس خبز، وذهبت لزيارتها. في الباص على الطريق جعت فأخرجت حبة طماطم وأكلتها، وصلت لأمي فوجدتها جائعة هي الأخرى. سألتني ماذا أحضرت لها، فتحتُ كيسي أمامها، فنظرت إليه ثم رفعت رأسها وتأملتني بيأس. لكن، ماذا نطعم إنساناً يائساً في مستشفى؟
حين يقترب مرض خطير من آخره، حينما يتأكد لإنسان أنه ينهي رحلته، يصبح عاجزاً عن تناول الأكل أو أنه لم يعد يرغب فيه، يقول الطبيب إن هذا أمر طبيعي، إن الجسم بدأ في الانغلاق، والأنظمة الحيوية تعد نفسها للموت، وسيعرض عليك التغذية بالأنبوب، سيقترح أن يعيش المرء ما تبقى له على سائل يتدفق من الأنبوب، الكمية المناسبة منه يومياً تعادل 200 ملعقة شاي.
***
في الليل، نهضت من سريري في مستشفى سينغلتون، في مدينة سوانزي الويلزية، سحبت أنبوبي معي بهدوء، نادتني جارتي في الغرفة “بيث”، وجلست إلى جانبها، على فراشها، وفعلت مثلما طلبت مني، فتحت خزانتها وأخرجت زجاجة “شيري” صغيرة تخفيها، وشربنا القليل جداً لكي لا يفتضح أمرنا، كانت بيث في عمر أمي، روت لي كيف كانت تغمس قطنة في كأس شيري وتنقط في فم والدتها المحتضرة والمصابة بالزهايمر، فتبتسم لها وتردد “نعم، نعم” وكأنها تذكرت شيئاً كان يسعدها، كانت تلك القطرات لها مناً وسلوى.
قبل سنوات، وبينما أنا نزيلة في مستشفى تابع لإحدى الكنائس في بيروت، جاء الأب يوم الأحد لمناولة بعض النزيلات ترافقه الممرضة وتدله على من يمكنه مناولتها، حاملاً معه النبيذ يتنقل بين الأسرة، نظر إليّ وحياني ثم تجاوزني، قبل أن يخرج طلبت منه وعيني على الزجاجة أن يضيء لي شمعة، فاقترب مني وتكلمنا ثم قدم لي بعض النبيذ، رشفة صغيرة كانت كفيلة بأن ترفع مزاجي ليومين، كانت مذاقاً من خارج الحياة السريريّة التي نعيش، نفحة من متعٍ يحتكرها الأصحاء.
حمولة الكلمات
الطعام والجوع والشهية، كلمات محملة عاطفياً، إذا أضفت إليها المرض، فإن ذلك لن يختزلها إلى استجابات فسيولوجية. لماذا ينبغي أن نأكل في صينية بلاستيكية كهذه مقسمة منها وفيها؟ سألت الممرضة التي
قالت على الفور “ما الفرق؟”.
ثمة فرق ولا بد أنها تعرفه.. “هل تأكلين هكذا في البيت؟”،
“لكنك لست في البيت”.
يحب المريض أن يتذكر متعة العالم في الخارج، تفاصيل صغيرة يمكنها أن ترعاه وتحسن في مزاجه، طبق زجاجي توضع فيه الوجبة بأناقة، أو فنجان قهوة ما زالت الرغوة تطفو على سطحه، أو معجزة على شكل رشفة نبيذ في يوم أحد.