أن يتوه المرء عن طريق عودته فذلك أمر عادي يحدث كثيرًا حين ينتقل إلى مدينة جديدة، أما أن يضيّع المرء نفسه في مدينة فهذا أمر يحتاج إلى خبرة وتدريب، أظن أن هذه فكرة مستعادة من كتابات فالتر بنيامين، بينما أخمّن إن كنت ضيعت الطريق إلى بيتي الجديد، حيث انتقلت إلى إيطاليا للدراسة، أم أنني كنت راغبة في أن أضيع في مدينة أجنبية؟
ربما كان عقلي الباطن يشتتني عمدًا بعيدًا عن المنزل، ويصح أن يكون الضياع مجرد خطأ في خرائط جوجل، بيانات لم يجرِ تحديثها. لم تعد فكرة التسكع البنيامية تصح أصلًا في وجود التطبيقات الذكية. فكان ضياعي المستمر عن طريق العودة سببًا في أن أصنع خريطتي البدائية إذا ما قارنتها بقدراتمحرك البحث.
إمتى أول مرة تُهت؟
لا أذكر. لكني أعرف أنني لا أحفظ الاتجاهات، أستدل عليها من الأشياء التي في الطريق. لدي ذاكرة ممتازة، رغم ذلك أجد صعوبة في تذكر الطرق والأماكن، كما لو أن عقلي لا يرغب في أن يعيدني إلى البيت. نعم! يبدو غريباً أعرف، فأنا أسلك طريقًا مكررًا مع ذلك ما زلت بحاجة إلى علامات، وقد اشتغلت في مشروعي الفوتوغرافي هذا، “الخريطة إلى المنزل”، على رصد هذه العلامات التي أقص بها أثر الرجوع.
أعرف مثلًا أنني اقتربت من البيت حين أرى كابينة التلفون التي تتوسط المسافة من محطة الأوتوبيس إلى المنزل. الأمر كما لو أنني أبني سلسلة من الإجراءات التي ترتبط بوجود معالم وأشياء وتفاصيل تقوم بدور الأدلة في الطريق.
أحاول السير في رحلة العودة في ذهني، أتحدث أحيانًا بصوتٍ عالٍ: “سأمشي باتجاه التمثال الفلاني، ثم انعطف يمينًا عند أول تقاطع حيث الكنيسة القريبة من البيت ومنها سأعدّ الخطوات التي قست بها المسافة إلى الهدف”. بمعنى ما إنني أتحول إلى جي بي إس نفسي، وصوتي يذكرني إذا وصلت إلى كذا انعطف يمينًا، الآن بعد خمسين خطوة انعطف يسارًا.. لقد وصلت إلى وجهتك.
ديسلكسيا الاتجاهات
غالبًا ما يكون الأشخاص الذي يجدون عسرًا في حفظ الاتجاهات بصريين بالدرجة الأولى، لذا فإن فهم الاتجاهات بصريًا هو المفتاح بالنسبة لهم. بعضهم من لديه حالة متطورة من صعوبة تذكر المسارات، بل إن هناك من البالغين من يظل يخلط بين اليمين واليسار ويميل إلى الارتباك في شارع قطعه مئة مرة، أو يمكنه الركوب في السيارة عدة مرات مع شخص ما إلى مكان مكرر، وعندما يتعين عليه القيادة بنفسه لا يعرف طريق الوصول إلى نفس المكان,
هذه الحالة تسمى ديسلكسيا الاتجاهات، أي عسر القراءة المكاني أو الجغرافي، والتي يفسرها العلم بصعوبة تذكر التسلسلات واستعادة المسار والذاكرة قصيرة المدى. ومن يعاني من هذه الحالة قد يصيبه الرعب إذا سألك عن مكان فقلت له “عد من نفس الطريق التي أتيت منها”. إياك أن تضحك، وإن بدا لك الضياع مضحكًا في حينها.
الأزرق لون الوحدة
بكاميرا الموبايل، بدأت ألتقط الصور لكل شيء في محيط المنزل، خاصة تلك الأشياء التي تذكرني بمكانه في طريق عودتي. كنت متأكدة أنني لو قارنت بيني وبين شخص يسكن هذا الشارع طيلة حياته، فإنه لا يرى الأشياء التي أراها أبدًا، وربما لم ينتبه لبعضها، أو أن ليس لها القيمة التي أحملها لها، صوّرت هذه الأشياء لأطمئن بوجودها نفسي في مكان غريب عليّ.
من خلال تقنية طباعة السينوتايب والطباعة البارزة معًا قمت بصناعة صورة ومساحة فارغة أملؤها بالخطوط. كنت أحاول أن أصنع شيئًا يشبه الذاكرة، فهذه فيها مساحات خالية وأخرى مملوءة عن آخرها. عند الطباعة عدت إلى تقنية السيانوتايب القديمة التي تحيل كل التفاصيل إلى اللون الأزرق. إنها طريقة “عزيزة على قلبي” فقد كنت أطبع صوري في بيتي في أوقات الكورونا، وكانت نتيجة الطباعة دائمًا لا تطابق ما توقعته وتفاجئني، وكنت أحب تلك المفاجآت الصغيرة.
لم أقصد استخدام الأزرق، لكنني اكتشفت أن الأزرق هو الذي يربطني أنا والأماكن والأشياء ببعضها، إنه لون يشبه الوحدة التي كنت أحسها تلك اللحظات.
يظهر لي أن ما أقوم به كان بسيطًا في أوله، ثم استحال إلى استكشاف للحدود والعلامات والخرائط والتوجيهات التي تتغذى على أشياء أصادفها يوميًا في دربي. لقد صنعت عبر خريطتي نوعًا يخصني من الحركة الذاتية الرمزية والجسدية المتزامنة مع وجود الأشياء من حولي وقربها وبعدها عني. ت