اشترت سفانة مقصها الخاص، أول مقتنياتها لتنفيذ مشروعها، وأصبح مثل يد ثالثة لها، إذا تاه تاهت معه، وإذا اختفى لا تجد نفسها إلا إذا وجدته، لا يجرؤ أحد منا على الاقتراب منه، لمسًا أو كلامًا، تكلمه سفانة وتترجاه وتُقبله وتنتظر منه المساعدة والإلهام.
لكن الحكاية بدأت قبل شراء المقص..
قبل أن تكمل سفانة الخولي دراستها بكلية التربية الفنية، جربت العمل لفترات طويلة حينا، قصيرة أحيانًا أخرى على المعادن والجلود والتطريز والنحت على الخشب، لكنها وجدت صعوبات مختلفة في التعامل مع تلك الخامات. في منتصف سنتها الثالثة في الكلية بدأ شغفها بالقماش والأزياء، ومن ساعتها لم تترك هذا الشغف يفارقها.
بالمناسبة، سفانة شقيقتي الصغرى.
تفصيل الملابس لم يكن أمرّا غريبًا عن بيتنا، فقد تخرجت والدتي في كلية الاقتصاد المنزلي أواخر الثمانينيات، حيث كان تصميم الملابس وتفصيلها ضمن دراستها. ولعبت دورًا كبيرًا في تشجيع اختي على مشروعها معنويًا اولًا، ثم بالنصح والبحث عن حلول للمشاكل أو طرق مبتكرة للموديل المطلوب تنفيذه.
أحيانا كثيرة تكون أفكارها واقتراحاتها مرتبطة بموضات أزياء قديمة، لذا تأتي حلولها مبتكرة ومختلفة عن الموضة الحالية، فيصنع التمازج شيئًا جديدًا. وثالثا بالمساعدة المادية، لتشتري أقمشة تتدرب عليها، أو أدوات عمل تساعدها في مشروعها.
والدي انتظر قليلًا لتقديم المساعدة. عندما شاهد كيف علمت نفسها بنفسها، وكيف قدّمت سفانة أدلة على ثباتها واصرارها على مشروعها، وأنه لن يكون مجرد نزوة عابرة. اشترى لها ماكينة خياطة ستصبح حجر أساس مشروعها.
تبدأ رحلة صناعة سفانة للملابس من منطقة الغوري بالجمالية بقلب القاهرة المملوكية، التي تضم واحدًا من أكبر أسواق الأقمشة بالقاهرة وأكثرها قدمًا. يتجه لها كل من له علاقة بالقماش سواء لخياطة الملابس، أو الستائر، أو باقي الأغراض المنزلية من مفروشات. المنطقة قديمًا كانت تضم دكاكين لصناعة وخياطة الملابس السلطانية.
نتجه إلى شوارع متلاصقة، ضيقة جدًا، تمتليء بالأقمشة المناسبة للموضة السائدة. تبدأ الأسعار من 50 جنيه وحتى 400 جنيه للمتر الواحد -تقربا من ثلاث دولارات حتى خمسون دولارًا- أغلب الباعة لهم واجهة صغيرة في الشارع زائد محل آخر يُدعى له الزبائن إذا لم يجدوا ما يرضي أذواقهم في الواجهة الصغيرة.
لابد أن تكون محصنًا بمهاراتك في التفاوض على السعر، لأن البائع يخبرك السعر وهو نفسه مستعد لمعركة المساومة. أنا وسفانة لا نملك مهارة والدتنا في الفصال، فنخبر البائع أننا لا نريد تعب القلب، أخبرنا بالسعر النهائي وسندفع ما تقوله، فنشعر أننا نستريح من إرهاق التفاوض ويشعر البائع بصدقنا فيخفض السعر قليلًا. وضع مريح للجانبين أليس كذلك؟
تختار سفانة الأقمشة المناسبة للتصميم المرجو انتاجه، تذهب للشارع ومعها صور للتصاميم، تحاول دائما الحصول على أقرب نوع قماش للصور التي معها.
البحث عن تصميمات مناسبة لأفكارها كان صعبًا في البداية. حتى اكتشفت سفانة تطبيق Pinterest الذي فتح لها آفاقا واسعة على الموضة والتصميم والازياء، تمضي ساعات طويلة تتعلم من خلاله وتبحث عن أفكار مختلفة، ثم تبدأ مشروعًا جديدًا.
حكت لها والدتنا عن مجلة “بوردا/burda” للأزياء، وهي مجلة ألمانية بالأساس صدر عددها الأول سنة 1950، حيث تعلمت من خلالها التفصيل في السبعينيات. أيضًا مجلة “حواء” المصرية التي كانت تضم بابًا ثابتًا للتفصيل.
الآن طغت التكنولوجيا على كل شيء، تجد أختي في لحظات بحث على الإنترنت صورة ياقة ما، أو فكرة ما كانت عصية عليها، ومن هناك إلى اليوتيوب لترى كيف تخيطها.
تصنع سفانة “الباترون” الذي حضرت ورشة لتتعلم رسمه، ثم تطورت بالتعليم الذاتي. تبحث على الانترنت ثم تطبق على الورق ومنه للقماش، حتى أصبح رسم باترون بالنسبة لها خطوة روتينية.
“الباترون” هو مخطط تخيّلي للموديل المراد تنفيذه يُرسم على ورق شفاف. ويتم تثبيته على القماش كي يُسهِّلُ عملية قصّ القماش، فيكون خريطة دقيقة للمقص.
لم تكتسب المصممة الشابة الثقة في نفسها لتنفيذ أزياء لأشخاص سواها إلا بعد سنة كاملة، كانت تشتري القماش وتقصه وترتديه، وبعيونها ترى عيوبها، ولا تقتنع أنها جيدة بما يكفي لتبدأ في صناعة الملابس للآخرين. ثم اقتنعت وبدأت بقطع بسيطة أولًا، ومع تشجيعنا لها، بدأت رحلتها في البحث عن موديلات صعبة تجتهد في تنفيذها.
تستعين بكراسة كبيرة، تكتب فيها مقاسات الأشخاص في صفحة منفصلة تحت اسمهم، وترسم الموديل المطلوب في الصفحة المقابلة. هكذا تخلق سفانة لنفسها أرشيف بأعمالها تستطيع العودة له إن أرادت، أو واجهتها مشاكل في المستقبل.
بعد أن تقص القماش على الباترون الورق، وتبدأ في خياطته علي الماكينة المنزلية تبدأ رحلة القياس. ترتدي ما صنعته وتبدأ في نقده، ثم تجلس مرة ثانية لتعديل ما وجدته من عوار، حتى يصبح ما كان بالأمس قماش بلا ملامح زِيًا له روح وشكل وترتديه سفانة في الشارع.
ترتدي سفانة من تصميمها، فبجانب أنها تلبس ما تحب، ملابسها أيضا أقل سعرًا، فمثلا يكلّف البالطو الشتوي من عند سفانة 400 جنيه في حين يمكنكِ شراء نفس البالطو جاهزا بضعف الثمن.
تشعر شقيقتي بمزيج من المشاعر عندما نخرج سويًا وأرتدي من تصميمها وتنفيذها، من جانب تشعر بالفخر العميق لمجهودها، ومن جانب آخر تشعر بالذهول للمشاكل التي كانت تراها كبيرة جدًا قبل ذلك مثل سنتيمتر ناقص في جانب التصميم، وتنبهر لقدرتها على حل تلك المشكلة “الكبيرة”.
تصاب سفانة بالصداع في الشارع بسهولة، لأن عيونها تتعلق بكل ما من حولها، ملابس الناس أمامها وفي المواصلات وفي المحلات. كل نظرة هي فكرة جديدة أو عيب تلتقطه عيناها، أو ربما نوع قماش جميل، وكثيرًا ما تنتابها رغبة أن تذهب لصاحبة الزّي وتسألها عن مكان شرائه أو نوع القماش، ونادرًا ما تتغلب على خجلها لتقترب من الناس.
تقول سفانة بعد مضي عامين على احترافها التصميم والتفصيل.. “حلمي يكون ليا ورشة كبيرة باسمي، ومش ورشة بيع بس، لكن مكان لكل بنت تلاقي الموديل اللي في خيالها، يكون في المكان قماش مناسب للزبائن، وأكون مصممة أزياء تسمع للناس وتشوف ايه اللي هيكون مناسب لشكلهم وجسمهم، وأنفذ فكرتهم مضاف ليها خبرتي، جانب الأزياء اللي أنا عاملاها من أفكاري، وموجودة في المكان للبيع”.