بينما نحن في طريقنا إلى أريحا، خرجنا عن مسارنا. كانت تلك أول مرة ألتقي فيها بتلك الجبال المحيطة بمقام النبي موسى، حين غيّرنا الطريق تجاوبًا مع شغفي بالتضاريس الصحراوية. حِدنا عن وجهتنا لاكتشاف المكان الذي كان له وقعٌ عليّ لم أحسه في أي موضع آخر؛ وخزة في قلبي أعادتني إلى طفولتي.
نشأتُ في جبال الكرمل. كُنا نسرح، أصدقاء طفولتي وأنا، في الجبال المحيطة بالقرية. نتوه بين أشجار السنديان الكثيفة التي توارت تحتها الأرض. نعشق الأرض دون أن نرى وجهها. كان لقائي بجبال موسى وكأنني رأيت وجه الأرض الأم للمرة الأولى. هي الأرض ذاتها من جنوب فلسطين إلى شمالها لكن مناظرها وألوانها تتبدل بين سهلٍ ووعر، إنها هنا مكشوفة، شفافة، شاهقة الأمومة. ورثت هذه القدسية الخاصة التي أنظر بها إلى الأرض عن أبي، هو الذي جعل الأرض أيقونة ثابتة راسخة في وعينا، إحساسه بها كان يقارب إحساسه بنا، كذلك هو خوفه وقلقه عليها. ربما أنه شيءٌ متعلقٌ بالفلسطيني كفاقدٍ للأرض، وخائفٍ من أن يفقد ما بقي له منها.
التصوير لحظة نرجسية جدًا
بعد تلك الزيارة الأولى، عدتُ إلى المكان وحدي، بدأت أتردّد عليه، كما لو كنت قارئةً تركت كتابًا شرعت في قراءته وتنتظر لحظة عودتها لإتمامه. أفضّل في رحلات التصوير أن أكون بمفردي، نصير أنا والكاميرا والموضوع شيئًا واحدًا، فالوقوف أمام العدسة هو حالة من الانغماس الكامل. لحظة التصوير هي لحظة نرجسية جدًا. الكاميرا مرآة للمصوّر الذي لا يصوّر المشهد خارجه فقط، بل يرى ذاته داخل المشهد، أو يرى المشهد داخل ذاته. الفوتوغرافيا هي أيضًا لحظة حياة وموت، بالصورة توثق الحياة لكنك أيضًا تجمدها في لحظة من الزمن الماضي، كما يصفها رولاند بارت في “الغرفة المضيئة”.
تمتدّ التضاريس التي التقطت في هذه الصور على مساحة كبيرة من وادي الرمان في النقب جنوبًا إلى صحراء الرشايدة المحاذية لجبال البحر الميت وحتى الجبال المحيطة بمقام النبي موسى القريبة من أريحا، وكان للأخيرة البصمة الأقوى في صوري. أعادني ارتباطي بهذه الجبال إليها بدون التزامٍ مطلقٍ بقواعد التصوير وحسابات الضوء. تكوّن لدي إحساس بالثقة فيها وبالأمان في أن أهيم بها على قدميّ، ذلك الأمان الذي يحسّه الطفل مع أمه. بطبيعة الحال، كنت أحاول الوصول في ساعات الصبح أو بعد الظهيرة، حيث تكون الألوان واضحة ومتباينة أكثر.
عيني البديلة
للتصوير بالنسبة لي بعد أكثر خصوصية، بعد أن أصبحت العدسة مجهري الشخصي وعيني البديلة، حيث أنني أعاني من ضعف في البصر. ولهذ فأنا لا أرى الصورة بكامل وضوحها في لحظة التصوير، ولكن بعد عودتي إلى البيت، أجلس مطولًا أمام كل صورة على شاشة الكمبيوتر وأكرّر العودة اليها الى أن أصبح قادرة على رؤية انعكاسي فيها.
يطوّر المصور أدوات أخرى غير النظر، بعضها مرتبط بالإحساس بموضوع التصوير نفسه، وفي هذه الجبال كنت أفكر في زوايا مختلفة للنظر، معنى الأرض الجرداء، الخالية من البشر، معنى أن أكون وحدي في مكان بهذا الارتفاع والاتساع، هويّتي، اغترابي، فلسطينيتي، ذاكرتي الخاصة وأشياء أخرى أكثر عمقًا وذاتية.
يعتمد عملي الفوتوغرافي في جانب كبير منه على التجريب، أغامر كل مرة في استخدام الكاميرا والتحكم بالعدسة واللعب بالضوء، لكن أمام هذه التضاريس المهيبة كنت أكف عن ذلك، وألتزم بالأسلوب التقليدي. أفضّل استخدام عدسة الزوم التي تساعدني على الوصول إلى أقرب نقطة بصرية من المكان. قلما أستخدم الترايبود (الحامل)، إذ أشعر أنني قادرة على نقل إحساسي بالمكان وتداعياتي في حضوره عندما أحمل الكاميرا في يدي.
ألتقط الصور أفقيًا فقط، والشيء المغاير الوحيد الذي فعلته في صور هذه التضاريس أنني أعددتها وحولت عددًا منها إلى صور عمودية. وقسمتها إلى مجموعتين أطلقت عليهما “أرض” و”وجه الغياب”. لا أذكر بالضبط ما الذي دفع بي لفعل ذلك، ربما احساسي أن هنالك الكثير من الفقد داخل الصورة من الحنين اللامرئي ومن الأنين اللا محكي، ولهذا وجدت نفسي أحاول تدويرها والنظر إليها من زوايا مختلفة.
أشعر أنني أبصرت أبجدية الأرض في هذه الطريقة من الإعداد، سمعت صوتها، لمست لغزها، ولمحت وجه الغياب الساكن فيها، وجه الأم التي فقدت أبناءها. إلا أن ما هو واضح بالنسبة لي كمصورة ليس بالضرورة أن يكون واضحًا بالمثل للمشاهد. وأنا أعتقد أنه على المصور أن يضع المشاهد في حالة من التساؤل والبحث عن المعنى أمام الصورة، أن على الصورة أن تثير التساؤلات بقدر محاولتها طرح الأجوبة.
بالإضافة إلى المعنى الجمالي لتصوير الـ”لاندسكيب”، أشعر أن التضاريس في الحالة الفلسطينية تستدعي التوثيق. إنها معرضة للاستيلاء في أي وقت من قبل الاحتلال الإسرائيلي الذي ينشر عسكره في كل مكان. لهذا لا أستخدم أي تقنيات فوتوشوب لتغيير الصورة، عدا تحديد الألوان وتباينها، والإعداد العامودي أحيانًا كما ذكرت.
لطالما اعتبرت نفسي شاهدة في هذا العالم، حالة جعلتني مسكونة بعوالم داخلية، وكثيرًا ما بحثت عن وسائل للتعبير عنها بالكتابة أو بالتصوير. نحن، في الشرق الأوسط، نعيش في واقع مشحون بالذاكرة، باليأس والأمل، بالمحن والمعاناة، بالتهديد الدائم. العين البشرية عاجزة عن احتواء الطبيعة المعاكسة لواقعنا هذا. التصوير بالنسبة لي هو نهج حياة أكثر منه ممارسة فنية، وسيلتي للإحساس بامتدادي في المكان والزمان، محاولتي لفهم معنى وجودي الفردي، علاقتي المتبادلة مع الحياة في لحظات عابرة من الضوء.
مازلت أحاول تفكيك انجذابي لتصوير التضاريس الجرداء ورؤيتي لها، طلاسم الأرض ليست إلا انعكاسًا لطلاسم النفس.