اعتدت السير ساعة كل صباح في شوارع منتون، مدينة صغيرة بجنوب فرنسا أعيش فيها منذ وقت لم يصبح الآن قليلًا، المشي هي إحدى محاولاتي لكسر ملل الأيام. أبدأ رحلتي غالبًا من المنطقة القديمة، هي عبارة عن بيوت مبنية على جبل، حارات ضيقة وملتوية وبيوت تشبه علب الكبريت في صغرها.
كنت أصعد الجبل وسط البيوت والحارات إلى قمته حيث مدافن المدينة، لكنني كلما وصلت إلى هذه المدافن شعرت بالخوف والوحشة، فالمكان بهدوئه يستدعي كل ذكرياتي عن أفلام الرعب، الأمر الذي يضطرني إلى الهروب فورًا.
كل مرة تجتاحني مشاعر الخوف والكأبة من الغربة كنت أهرب إلى تجمعات الناس حتى لو لم أفهم لغتهم، ما زالت فرنسيتي ضعيفة، بين الناس هنا أشعر كأنني صماء، فالصم ليس فقط حديث لا نسمعه ولكنه أيضًا حديث لا نفهمه.
فجأة، وسط صمت الضجيج هذا، التقطت أذناي لغتي، التفت باحثة عن المصدر، كان من مجموعة رجال يجلسون في مكان يشبه التعريشة، ملامحهم وهيئتهم العربية البادية عليهم اسعدتني كثيرًا، أعمارهم التي ما بين الستين والسبعين طمأنتني لهم، أحسست أخيرًا بالونس.
في البداية كنت أسير بمحاذاتهم، أستريح دقائق على مقربة منهم، لكن أحاديثهم جعلتني أتوقف بجوارهم وأجلس، في البداية تعجبوا من اقترابي منهم لكنهم مع مرور الأيام اعتادوا وجودي حتى أصبحت لهم غير مرئية، يتحدثون ويضحكون وغالبًا ما ينتهي الضحك بغضب أحدهم ورحيله، رغم وجود أغلبهم منذ عقود من الزمن هنا في فرنسا، إلا أن الوطن لا يخلو من حديثهم اليومي كأن قلوبهم وعقولهم في بلادهم وأجسادهم في الغربة.
في أحد الأيام وجدت أحدهم يجلس وحيدًا، فانتهزت الفرصة لأبدأ معه الكلام. اسمه عم صالح، من تونس مقيم في فرنسا من خمسين عامًا جاء شابًا وأحضر زوجته معه، عمل كبنّاء وعامل في السكة الحديد، أنجب أولاده في الغربة، لكنه كان يزور وطنه كل عام أو اثنين ومنذ جائحة الكوفيد توقف عن الزيارة، بينما أولاده مازالوا يزورون تونس باستمرار.
صالح لا يرى أي سبب يدعوه للرجوع لـ “الوطن”، يقول”في فرنسا لدي عائلتي وأولادي وأحفادي فلما الرجوع. كما أن البلاد لم تعد كما كانت”، رغم أن حديثنا كان ممتعًا إلا أن عم صالح رفض أن ألتقط له صورًا.
مع عم محمد الجزائري، كان الأمر أصعب. فعندما تقدمت للحديث معه باللهجة المصرية لم يفهمني، وعندنا حاولت التحدث بالعربية الفصحى أيضا لم يفهمني، أنا لا أتحدث الفرنسية بطلاقة، فلم أفهم فرنسيته، بقينا دقائق طويلة من الحيرة وعدم التواصل، شعرت بالخجل والغضب من نفسي اعتذرت منه ورحلت.
من بين المترددين على المكان رجل سبعيني، له أداء معتاد، يأتي يوميًا في حدود العاشرة صباحًا، يجلس معظم الوقت صامتًا وسط أحاديث الآخرين، وعند دقات الثانية بعد الظهر يقوم إما لشراء طلباته المنزلية أو العودة إلى بيته مستندا على عكازه، وعادة ما يتوقف للراحة. بيته المجاور لكنيسة سان ميشيل موجود فوق قمة جبل للوصول إليه عليه أن يصعد درجات السلم التي تصل لمائة درجة.
كثيرًا ما أراه في أثناء رحلته، لكن صمته لم يكن يشجعني كثيرًا على التقرب منه، حتى تمكنت من تجاوز هذا والتعرف عليه.
عم محمد، تونسي، أتي شابًا إلى فرنسا عام ١٩٧١ للعمل في بناء المنازل بدون زوجته وأولاده، يقول: ” لدي ثلاث بنات وولد، ولخوفي عليهم فضلت أن أظل وحيدًا على أن أفسد عليهم عاداتهم وتقاليدهم، وقررت أن يظلوا في البلاد.” هو يزور عائلته كل عام ثم يعود إلى غربته من أجل معاشه وتأمينه الصحي، يقول “الشيخوخة لها أمراضها الكثيرة وهنا أُعالج مجانًا، وأتحصّل على معاشي، أرسل بعضه إلى الأهل وأعيش هنا على الباقي.”
يمشي عم محمد كل يوم رحلته الصباحية حتى لا يظل وحيدًا في شقته الصغيرة، وبسبب ألم ركبتيه يمشي بضع خطوات ثم يستريح، يصعد وينزل درجات السلم الطويل، يلتقي الأصدقاء، يتسوق ثم يعود إلى بيته، محاولات مستمرة له لصنع الونس والصحبة في غربته الطويلة .
صرت مشغولة بتتبع العجائز العرب من حولي وعند سفري لمدن فرنسية أخرى. ولاحظت أنهم يفضلون الجلوس على مقاعد المحطات دون انتظار الحافلة. يجلسون صامتين متأملين فيما حولهم بحثا عن الونس وحبًا في مشاهدة الحياة.. يجلسون والحافلات تمر.
في مدينة مارسيليا ثاني أكبر مدن فرنسا وذات الغالبية العربية، رأيتهم واقفين في مجموعات على نواصي الشوارع كوقوف الشباب على مفترق الطرق في بلداننا العربية، طقس عربي أصيل لمتابعة تحركات الناس في الشارع.
عند غروب الشمس في مدينتي الصغيرة، تقل الحركة ويخلو المكان الذي كان يعج بالضحك والكلام العربي فيعود كل واحد منهم إلى بيته بعد حصوله على جرعته اليومية من الونس والصحبة، يتواعدون على اللقاء غدًا في نفس المكان، كأن لقائهم يعطيهم شيئًا من القوة لمقاومة الغربة والوحدة والحنين للبلاد.