تبدأ هذه القصة من الأخير، من أرض سد المسيلحة، وتحديدًا من الشقوق والفجوات التي ابتلعت الماء والتي أصبح وجودها أكيدًا بالبراهين، ليست براهين تقارير الخبراء التي نادت سابقًا بتدارك مصيبة المسيلحة قبل وقوعها، بل بالبرهان الطبيعي والمرئي والذي التقطتُه بالصور.
شربت الأرض ماء السّد الواقع على نهر الجوز في البترون شمال لبنان، حيث بُني في منطقة أثرية تضمّ قلعة مشهورة تحمل اسم السّد نفسه، وتسبّبت إقامته في طمر دير أثري كان في المكان. إضافة إلى ذلك، فإنه بُني على سهل زراعي خصب، وفي انتخابات أيار (مايو) الماضي، جففوا 4 كيلومترات من نهر الجوز بعد أن أغلقوا ممراته المائية ليس لملء السد فقط، بل ولملء عيون الناخبين، ضاربين باتفاقية برشلونة البيئية التي وقّع لبنان عليها عرض الحائط، والتي تمنع إغلاق الممرات المائية وتجفيف الأنهر.
هكذا شوّه القائمون على المشروع أثريةَ المنطقة وقضوا على إمكانية زراعتها بضربة واحدة. ولا تتوقف حدود المهزلة عند ذلك، بل إن المسيلحة على ما يبدو سيفشل في أن ينجز المهمة التي أوكلتها إليه وزارة المياه والطاقة؛ وهي أن يسدّ حاجة اللبنانيين الإضافية إلى الماء في الأعوام ما بين 2035 و 2040.
ما العمل؟ يجيب رئيس جمعية “الأرض- لبنان” بول أبي راشد: “مش هيّن الجواب”، يتوقف لحظة قبل أن يوضح “هناك كسر أرضي في السّد، ومعالجته قد تكون مكلفة جدًا فوق قدرات البلد اليوم. نحن أمام ميزان: هل استبدال المشروع أقلّ كلفة، أم محاولة إصلاحه؟”
يتابع “هذا القرار يحتاج إلى دراسة جدوى اقتصادية، ودراسة أثر ذلك بيئيًا، لقد وقع خطأ جسيم من الأول، خالفوا منذ البداية توصياتٍ بيئيةٍ نبّهت من بناء السّد في هذه المنطقة، وهذا أدى إلى فشل المشروع”.
المسيلحة المعقدة جيولوجيًا
في عام 2011 حين تقرر بناء السّد بعشرات الملايين من الدولارات، أجرت SAFEGE إحدى الشركات الاستشارية في المشروع دراسة قدّمتها إلى وزارة الطاقة والمياه، مؤكدةً أن موقع سد المسيلحة “معقدٌ جيولوجيًا” وأن خزان السّد سوف يحتاج إلى معالجة أرضيته معالجةً خاصة بالنظر إلى طبيعة صخور المنطقة، وإلا فإن من المتوقع حدوث تسريب، وهذا سيزيد الكلفة المالية بشكل كبير.
فضلًا عن ذلك، فإن موقع السّد يعلو مسافةً تتراوح ما بين 40 إلى 50 مترًا عن سطح البحر، وهو ارتفاعٌ قليلٌ يعني أن هناك حاجةً اضطراريةً إلى استعمال المضخات.
رغم ذلك مضت الوزارة في المشروع في 2014، وبُني السّد فعلًا، وأعلن عن بدء تعبئته مرتين وفشل الأمر في كليهما. بل جرى نشر صور مزيفة للسد ممتلئًا، بعد أن أُعلن عن ملئه مطلع هذا العام (في 30 كانون الثاني/ يناير 2022)، مع عبارات من قبيل “شكرًا جبران باسيل”، ليظهر أن الصور المتداولة قديمة تعود إلى عام 2020.
أمّا الصور التي التقطتُها يوم 9 آب (أغسطس) 2022، فتظهر واقع السّد.
المحاسبة والكلفة في لبنان
أولًا وقبل كل شيء، يطالب الحقوقي أبي راشد “بمعاقبة من قام بهذا المشروع الفاشل”، مستدركًا “لكننا نعرف أن المحاسبة في لبنان مستحيلة، خاصة وأن أيّ مشروعٍ كان، لا بدّ أن للأطراف السياسية الحاكمة يدٌ وحصةٌ فيه”. تاليًا، يضيف الناشط البيئي “علينا التفكير في البدائل العلمية واختيار الاحتمال الأقل كلفة”.
وهي كلفة لعزل قعر السّد يقدّرها أبي راشد بما لا يقل عن مئة مليون دولار، مؤكدًا أن ليس هناك ضمانات لأن ينجح العزل. المشروع كانت قد بلغت كلفة هندسته أصلًا 55 مليون دولارًا، إلى جانب كُلف الاستملاكات ونفقات أوصلت الميزانية إلى 70 مليون دولارًا إن لم يكن أكثر.
يقول أبي راشد “لقد أعطوا مشروع المسيلحة لمتعهّد واستشاري كان قد نفذ قبله مشروعَ سدٍ فاشلٍ آخر، فلماذا لجؤوا إليه مرة أخرى؟ عوض أن يحاسبوه قدّموا له جائزة ترضية”.