أعيشُ في مدينة بيت لحم منذ حوالي سبعة أعوام. فيها تطورت تجربتي الفوتوغرافية، ربما بسبب محاولاتي المتواصلة استقصاء والتقاط إحساس الحياة داخل جدار، فالمدينة محاطة بجدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل لتفصلها عن المستوطنات المحيطة بها وتبترها عن مدينة القدس، جارتها وامتدادها الحيوي.
بيت لحم صغيرة رغم أبعادها التاريخية السحيقة، لا أذكر من أسماء شوارعها سوى الأسماء التي لا يمكن نسيانها، شارع “المهد” وشارع “القدس الخليل”، عند التقائهما يقع الجدار وبرج مراقبة كبير للاحتلال. وفي الوسط، بين امتداديهما، تقع البلدة القديمة حيث يحتل السوق جزءًا كبيرًا من أزقتها ويشكل مزارًا لآلاف الفلسطينيين الذين يأتونه يوميًا من القرى والمخيمات المجاورة، المحاطة بدورها بجدار وحواجز عسكرية، للعمل أو لشراء احتياجاتهم واحتياجات أطفالهم من أكل وملابس ومستلزمات منزلية.
الوصول إلى البلدة القديمة سهل ومتاح كوني أقيم في المدينة. فمنذ البدايات وإلى الآن كلما سنح لي الوقت أمضي لأجول في شوارعها. أراقب اكتظاظ الناس في المدينة الحبيسة، أقرأ في وجوههم معاناتهم في العبور من حاجز إلى حاجز، في العيش بين جدار وجدار وعلى بعد أمتار من فوهات الجيش الإسرائيلي. كأنني أمرّ من هنا لأشهد على هذه المعاناة وتطاوعني عدستي في تخزينها. أعتبر هذا دوري المتواضع في سرد الحكاية الفلسطينية.
شوارع البلدة القديمة حجرية وضيقة بلا أرصفة، تصطفّ دمى عرض الملابس على جوانبها بحيث لا يمكن تجاهلها أو غضّ الطرف عنها. الزحام في السوق فسيفساءٌ تختلط فيه وجوه الدمى بوجوه الناس.
مكان وزمان وذاكرة
مجموعة صور “عالم الدمى الخفي” هي جزء من سلسلة حياة الشارع التي راكمتُها خلال جولاتي هذه. في تصويري لها هنالك الكثير من الارتجال. ورغم طبيعتها الصامتة إلا أنني لا أستخدم أي إعدادات أو تقنيات خاصة بتصوير الحياة الصامتة. قد أنتقل بعدستي في لحظة من وجوه الناس إلى وجوه الدمى، هي حاضرة كثيرًا في خزينتي الفوتوغرافية كجزء من المكان. أحيانًا أصوّرها عن عمد وأحيانًا تفاجئني عندما تطلّ عليّ من خلفيات الصور وأنا أراجعها على شاشة الكمبيوتر في البيت. لا يختلف تصويري لها عن تصوير الحياة المحيطة بها إلا في كون هذه الوجوه ثابتة لا تتحرك مما يسهل عملية الضبط البؤري. كما أن وجودها على أعتاب المحلات التجارية المظلّلة يتيح الكفاية من الضوء الخارجي الطبيعي والظل المطلوب لعزل أشعة الشمس الحارقة.
في ممارستي الفوتوغرافية بشكل عام أنا مسكونة بالمكان والزمان وبالذاكرة الإنسانية الفردية والجمعية. وكوني فلسطينية فأنا معنية بشكل خاص بالذاكرة الفلسطينية وحضورها في وجدان البلاد وأهلها. ورغم اختلاف مواضيعي الفوتوغرافية، توثيقية أو مفاهيمية أو جمالية، فأنا أتناولها جميعها من خلال هذا السياق. أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا أسقطه عليها بشكل غير مباشر.
دائمًا أحاول أن أرسم في صوري بصمات لذاكرة المكان الحية والبعيدة. فالدمى هنا هي دمى بيت لحم، وحتى لو قدّمتها كـ بورتريه منفصل عن المدينة فهي بالنسبة لي جزء من معالمها وانعكاس لملامحها في هذه الحقبة الزمنية. وربما لم أكن لأهتم بتصويرها في أماكن أخرى أو ربما كنت سأصوّرها وأقدمها بمنظور مختلف.
دائمًا كان يدهشني تماهيها مع المدينة وكأنها أصبحت قادرة على تقمّص ملامحها وكدماتها، صدماتها وحالاتها من أمل وتحدٍ وترقب وخوف وانكسارات. وجودها في الشارع لساعات طويلة أحدث في رؤوسها وفي وجوهها شقوقًا وانشراخات حرّرتها من جمودها ومن تكرار سحنتها المصقولة الملساء، إلى الحد الذي باتت تبدو وكأنها قد خرجت من لاشيئيتها وتشيئت. كل منها أصبحت تتفرّد بملامح مختلفة أنسنتها وحولتها إلى كائن من كائنات المدينة، سجينة من سجينات الجدار، إلى “ذات” وسط ذوات. هي تلك الذات التي أحاول أن أظهرها في صوري. أحيانا كنت أعود إلى البيت مطاردة بنظراتها مما كان يجعلني أذهب بتكرار إلى السوق وأنا أحاول أن أتذكر أين رأيت ذاك الوجه وأين حدجتني تلك النظرات.
التصوير في السوق
أغلب المانيكانات نسائية وبعضها رجالية. قمت بتصوير المجموعتين، إلا أنني آثرت أن أفصل المانيكانات النسائية في تيمة مختلفة، لأنه لا يمكن إغفال رمزية المرأة بروحها وأعماقها الخفية خلف تلك السحنات الفصيحة بإبهام والمبهمة ببلاغة. ثم أن كون النساء أغلبية في السوق، منهن من أتين للتبضع برفقة أطفالهن وبعضهن فلاحات طاعنات في السن أتين بمشقة لبيع محاصيلهن الزراعية. قد أبرز التجربة النسائية كبعدٍ آخر للقهر في المشهد العام.
التصوير في الأسواق القديمة في بيت لحم أو في القدس صعب بسبب ضيقها وازدحامها. في كل لحظة قد يمر عابر طريق يفصل عدستك عن المشهد. العدسة محاصرة بكثافة بالمشاة وأنت لا تملك ترف انتظار اللحظة الحاسمة أو التأمل والتأني كما هو الحال في تصوير المشاهد الطبيعية. أحب تجاربي المختلفة في التصوير، أحيانا أجدني متجهةً إلى الجبال وخلائها، وأحيانا يجرفني ازدحام المدينة في شوارعها أو في معالمها التاريخية.
جرح اليقين
لا أستخدم ستوديو. وكمصورة لا تستهويني اللقطات المفتعلة أو المخرجة مسبقًا. عدستي هي فريسة المكان ولحظات المكان الهاربة هي طريدتها.
لدي الكثير من الصور التي أحتفظ بها لذاتي. عندي ارتباط خاص بكل واحدة منها. كل صورة هي بمثابة لحظة من رحلتي في الحياة ويصعب عليّ جدًا حذفها. لكن في هذا العالم الرقمي أحاول أن أقدم ما هو مختلف. ما قد يأتي بحقيقة أو بخيال يجرح به اليقين. في العبور السريع بين ملايين الصور على شاشات الكمبيوتر والموبايل أنا أطمح لأن أقدم صورًا تدعو المتفرج لأن يتوقف لديها ويشتبك مع المعنى.
في معالجتي للصور أقوم بمحاولات تجريبية كثيرة قبل الوصول إلى النسخة الأخيرة. أحاول التنقل بها ما بين درجات من الألوان وما بين الأبيض والأسود. بالنسبة لي جوهر الصورة يكمن في الأبيض والأسود ويجب أن يكون هنالك مبرر جمالي أو مفاهيمي من أجل تقديمها بالألوان. صور الدمى التي وكأنها تهيم ما بين موت وحياة أصبحت محكومةً عندي بالأبيض والأسود. عندما حاولت تقديمها بالألوان شعرت وكأنني محوت أبعادًا من ذواتها.