أجلس مع الأصدقاء في أمسية مرحة، وأثناء المزاح والضحك طلبت مرافقة أحدهم لي في صباح اليوم التالي، يوم الجمعة، لموقع كوبري الدائري لالتقاط صورة واحدة فقط لجزيرة الذهب من أعلى الكوبري.
لم تكن تلك المرة الأولى التي أتحدث فيها عن الجزيرة وأطلب ذلك، تحدث أحدهم بنبرة استغراب شديد “أنا مش فاهم إشمعنى يوم الجمعة يعني اللي حابب تنزل تصور فيه الصورة اليتيمة دي اللي بتقول عليها! ما إنت عندك كل الأيام كويسة إشمعنى يوم الجمعة وفي رمضان كمان! وأنا مش فاهم برضو إيه المميز في الجزيرة دي! ليك سنة رايح جاي على الجزيرة عايز إيه!”
أخبرته عن محاولتي عمل قصة مصورة عن الجزيرة، وأهمية التقاط صورة من أعلي الكوبري للمكان، يوم الجمعة أفضل حتى لا يكون هناك عمال ممن يقوموا ببناء توسعة للجسر الضخم ويحدث معي ما حدث في المرة السابقة، لا أريد أي مشاكل، أريد إلتقاط صورة واحدة والعودة للمنزل بسلام دون أي إسماعين في الموضوع. يبتسم صديقي الذي يحب سماع الحكايات، قائلا.. “إسماعين! وحصل إيه المرة اللي فاتت احكيلي؟”
أخبرته أنني قررت في أحد الأيام التقاط صور للجزيرة من أعلى الكوبري، بمجرد اقترابي من السور وإخراج الكاميرا، تجمع حولي عشرات العمال وبدأت الصيحات “بتعمل إيه يا أخويا؟ بتعمل إيه يا صاحبي؟ إيه ده! إلحق يا إسماعين ده معاه كاميرا وبيصور، نادي على المشرف أو الباشمهندس يا اسماعين”.
تسارعت دقات قلبي، وكادت شدة العرق تحجب الرؤية عن عدسات نظارتي الطبية، انسحبت سريعًا للخلف وقفزت داخل إحدى حافلات الميكروباص التي توقفت في المكان بالصدفة لنزول أحد الركاب دون أن أعلم وجهتها أو أي تفاصيل، شعرت بأنه ميكروباص النجاة، فلك نوح بالنسبة لي قبل أن يأتي طوفان المشرف أو الباشمهندس أو رجال الأمن.
قررت عدم تكرار تلك “المغامرة” إلا في وجود صديق عضو بنقابة الصحفيين، يمكن أن يبعث شيء من الطمأنينة في قلبي، وفي حال خرجت الأمور عن السيطرة وكانت ساحة مركز الشرطة في انتظارنا، ربما نجد من يتحدث عنا أو يحاول إخرجنا باعتبارنا صحفيين نقوم بعملنا ولسنا “جواسيس” أو “إرهابيين”، ولا نريد “المساس بأمن الوطن” كما يقال عادة. أما في حالة وجودي وحدي في مركز الشرطة ستكون قائمة التهم طويلة ومعروفة بدقة ولا يفلت منها أحد.
أمارس الصحافة منذ أكثر من ثماني سنوات ولا تعترف الدولة بي لأني غير نقابي، حتى الصحفيين النقابيين أنفسهم لا ينجون أحيانًا من اللائحة الجاهزة للتهم، ولكني احتجت أحدهم لعل وعسى أن يكون طوق نجاة مثل سيارة الميكروباص العزيزة، ولتبديد مشاعر الخوف التي أصبحت تسيطر على كياني حتى جعلتني أكره حمل الكاميرا والتصوير.
وافق أحدهم على مرافقتي في اليوم التالي لالتقاط الصورة والهروب بسرعة خوفًا من أي احتكاك.
طوال الطريق لموقع الجزيرة يسخر صديقي من فكرة مقابلتنا لإسماعين الآن مرة أخرى أثناء التقاط تلك الصورة، وظلت القصة أضحوكة رحلة الطريق للجزيرة حتى وصلنا والتقطنا الصورة بشكل سريع، وبالفعل ظهر لنا حارس مواد البناء وبدأ في الاقتراب منا عندما رآى الكاميرا، طلب مني صديقي وضع الكاميرا في الحقيبة وحاول طلب سيارة أوبر لتخرجنا من هذا المكان وذهبنا مسرعين بعيدًا من موقع البناء خوفا من الانخراط مع أي إسماعين أو أصدقائه مرة أخرى.
زيارة أولى غير متوقعة
دعاني صديقان للتنزه في شوارع مدينة القاهرة، في أحد أيام ربيع العام الماضي، وبعد التجول قليلًا في الشوارع والميادين بالسيارة، اقترح أحدهم الذهاب لـ “جزيرة الدهب” -تقع جنوب شرق القاهرة وتتبع محافظة الجيزة إداريًا- لالتقاط بعض الصور لحصاد القمح في الجزيرة. قابلت الفكرة بترحيب كبير لأكثر من سبب، كنت من سكان منطقة دار السلام على كورنيش النيل جنوب شرق القاهرة، وأرى أمامي تلك الجزيرة ذهابًا وإيابًا ولم أزرها يومًا رغم رغبتي الشديدة في ذلك، السبب الثاني أنني لا أعرف عنها شيء عدا أنها مكان يبدو ملونًا وهادئًا يبعث الطمأنينة في النفس من بعيد، والسبب الأخير كان اشتياقي للتصوير بعد فترة طويلة لا أمارس بها التصوير في الشارع نتيجة شعور داخلي بالخوف الشديد، ظهر لدي فجأة من محيطي والناس في الشارع ونظرتهم وانطباعهم عن الكاميرا وحاملها.
ثلاثتنا في العربة نعمل بمهنة التصوير الصحفي ولدينا شغف التصوير، فكانت فكرة جيدة جدًا زيارة الجزيرة والتصوير.
تركنا السيارة في ساحة الانتظار وذهبنا مشيًا لـشاطىء النيل حتى نستقل المركب/المعدية، وسيلة الدخول الوحيدة للجزيرة المحاطة بالمياه والأبراج الخرسانية والكباري، أثناء عبورنا من ضفة النهر لضفة الجزيرة أخرج صديقي هاتفه والتقط صورة للمحيط ونحن على متن “المعدية”، وعقب وصلنا للضفة الأخرى من النهر والنزول من المعدية اقترب منا مراهقان من سكان الجزيرة، اتجها لصديقي الذي أخرج هاتفه والتقط الصورة قائلين “ميصحش كده يا صاحبي، مينفعش تصور المعدية.. وفيه ستات وأطفال، عيب عليك يعني”. لم يهتم صديقي ولم نفعل نحن أيضًا، فقد تعرضنا لهذا الموقف عشرات المرات في الشارع بحكم عملنا. استكملنا طريقنا على اليابسة ودخلنا بين شوارع الجزيرة غير الممهدة والأراضي الزراعية الخصبة حتى وصلنا أرض يقوم فيها بعض الأفراد بحصاد القمح، تحدثنا معهم ووافقوا على التصوير، وراح كل منا يصور ما يشاء وانتهى اليوم بسلام وبعض الصور الرائعة لحصاد القمح في جزيرة الدهب.
المفتش بداخلي
أعجبت كثيرا بالجزيرة، مكان هاديء وسط العاصمة الصاخبة المزدحمة، وبدأ عقلي في طرح الأسئلة كالمعتاد، كيف تحتفظ تلك الجزيرة بالطابع الريفي البسيط وسط العاصمة والأبراج الشاهقة، وكم من الوقت سيبقى هذا المكان على حاله الهادئ؟ لماذا سميت جزيرة الدهب من الأساس؟ كيف يعيش سكانها حياتهم وهم لا يستطيعون التواصل مع العالم الخارجي إلا عن طريق المعدية؟ كيف تبدو حياتهم اليومية وماذا يفعلون ويعملون؟ هل هم سعداء بموقعهم وسط النهر؟ هل تتوفر لدى السكان داخل الجزيرة الخدمات الإنسانية الأساسية نظراً لصعوبة الخروج والدخول منها دون طريق بري يسمح بعبور السيارات ووسائل المواصلات؟ أرهقني عقلي بالأسئلة، ساعدني البحث على الأنترنت في جمع بعض المعلومات الأساسية عن الجزيرة.. مساحتها 342 فدان (1.384 كم مربع تقريبًا)، ويطلق عليها أحيانًا جزيرة بين البحرين، ذكرت في مخطوطات تاريخية من عصر دولة المماليك باسم جزيرة الطائر، يعيش سكان الجزيرة على الزراعة والصيد فأغلبهم من العمال والفلاحين والصيادين.
قررت ألا تكون تلك الزيارة هي الأخيرة للجزيرة وقررت البحث لجمع معلومات أكثر عن الجزيرة التي مازالت خضراء وسط العاصمة المصابة بحمى الخرسانة ومعاداة اللون الأخضر.
عدسة خائفة
بدأت أتردد على الجزيرة كلما سنحت الفرصة، رحلات صيد، رحلات استكشاف وتقصي حقائق ومحاولات لتصوير الحياة اليومية على الجزيرة كانت أغلبها فاشلة، بسبب مشاعر الخوف والقلق وعدم الراحة التي تنامت بداخلي منذ عام 2016 تقريبا وحتى تلك اللحظة، نتيجة الأخبار عن الملاحقات الأمنية والقبض على مصورين في الشارع، أو تدخل الأهالي والأفراد ومنع المصورين من التقاط صور الحياة اليومية، أو الاعتقالات بالجملة بحق صحفيين يؤدون عملهم.
مشاعر خوف داخلية جعلت عدستي خائفة وخطواتي غير ثابتة، نتج عنها صور غير واضحة بها عيوب فنية واضحة، كادرات بعيدة واسعة قدر الإمكان لتجنب الاحتكاك، صور للشجر والمباني والحوائط أكثر من البشر فهم لا يخافون ولا يطرحون الأسئلة، وأحيت رحلات استكشافي سؤال أخلاقي قديم بداخلي..هل أنا لص يختلس اللقطة والصورة لعمل وظيفته ولا يكترث بحرية وخصوصية الآخرين؟
هذا ما يحدث في كل زياراتي للجزيرة، يظل التعامل والحديث مع الأهالي لطيف يغلب عليه طابع الود والسلام حتى أصرح أنني صحفي، ينقلب الوضع رأسًا على عقب، إما بالإمتناع عن استكمال الحديث، أو طلب عدم التصوير، أو يوصي أحدهم الآخر بتجاهلي وعدم مجاراتي.
جلست في يوم مع الحاج إبراهيم، رجل مسن من سكان الجزيرة يعمل في صناعة السفن والقوارب الصغيرة، أصر على عدم تصويره إلا أنه تحدث معي بترحيب كبير عن ما يعانيه سكان الجزيرة والسبب الذي يراه وراء خوفهم من التصوير الصحفي والصحفيين بشكل عام.
تحدث الرجل بداية عن معاناة الأهالي مع المرافق نظرًا لعدم اعتراف الجهات الحكومية بهم كـمنطقة سكنية بل مساحة أرض زراعية أو محمية طبيعية، مما خلق مشكلة في توصيل الماء والكهرباء والصرف الصحي بشكل منظم وقانوني.
الجزيرة بأكملها لا يوجد فيها إلا مستشفى واحد صغير -يصل عدد سكان المنطقة في بعض التقديرات لـ 100 ألف نسمة تقريبًا- أيضا لا توجد في الجزيرة سوى مدرسة واحدة، وبالتالي عدد محدود من الطلاب يستطيع التعلم على أرض الجزيرة، ويضطر الباقي إلى قطع رحلة يومية في النهر ذهابًا وإيابًا للدراسة خارج الجزيرة، وهنا تظهر المشكلة الأخرى وهي وسائل النقل والحركة، إذ ليس للأهالي من وسيلة تحرك إلى خارج الجزيرة سوى المعدية التي تعد خطرة هي الأخرى.
حكى الحاج ابراهيم عن صعوبة نقل الأدوات والخامات والمنتجات من داخل الجزيرة إلى خارجها والعكس لعدم ربط الجزيرة بأي طريق بري مما يجعل دخولها بسيارة أمر شبه مستحيل، كما يصعب نقل الأشياء في الداخل أيضًا بسبب قلة وسائل النقل وطبيعة الشوارع فيها ولذلك يلجأ السكان إلى الدواب أو السير على الأقدام.
يشعر الجميع بالإهمال بدرجة كبيرة في كل جوانب الحياة، وتأتي عمليات تجريف الأراضي الزراعية والبناء الجائر على المساحات الخضراء والتي تهدد الجزيرة.
أخيراً أوضح لي الحاج إبراهيم أن عدم ترحيبهم بالتصوير الصحفي والصحفيين عمومًا سببه خوفهم الشديد من لفت الأنظار والأعين إليهم فيصبحوا جزيرة “الوراق” جديدة، فهم خائفون بأن تضع الدولة يدها علي الجزيرة بحجة التنمية والتطوير والاستثمار مما يترتب عليه تهجير قسري للسكان كما حدث مع أهالي جزيرة الوراق.
إلى جانب الصورة الذهنية السيئة التي وضعتها لهم الصحافة باعتبارهم مكان معزول ووكر لتجارة المخدرات لا يخضع للقوانين، تطول قائمة الاتهامات، فهم مسئولون عن تلوث نهر النيل لأنهم يقومون بغسل أطباقهم واشياءهم بمياه النيل، وهم يلقون بمخلفات شبكة الصرف الصحي في النهر. ويقع على عاتقهم تلوث النهر وموت وتسمم الحياة البحرية والثروة السمكية.. يضحك الحاج ابراهيم.. “نحن فعلنا كل هذا”!
كانت هناك جولات عديدة بين أهالي جزيرة الدهب والسلطة منذ عهد مبارك، تطورت إلى احتجاجات ومظاهرات وقطع الطريق الدائري في عهد رئيس الوزراء عاطف عبيد في عقد الألفية الأول، إلى أن تجددت المظاهرات السلمية مرة أخري عام 2017 للمحافظة على الجزيرة من براثن الدولة التنموية، ولذلك يتحاشى الأهالي الصحفيين قدر الإمكان.
أسئلة مؤرقة
نتيجة خوف أهالي الجزيرة من عدسة الصحفي، وبسبب خوفي من رد فعلهم وعدم قدرتي على التصوير بحرية، وأثناء كتابة هذا النص تحدثت لصديق من أحد المرافقين لي في زيارتي الأولى للجزيرة لدعوته لمرافقتي مرة أخيرة، ولكن صديقي اعتذر وتحدث عن عدم ممارسته التصوير الصحفي في الوقت الحالي وعدم رغبته في ذلك وشعوره بلاأخلاقية الأمر وصعوبته. حدثني عن تجاربه اللطيفة المتعددة في التصوير داخل الجزيرة وكيف أن سكانها أناس طيبون، وأن سبب تجاربي السيئة هناك ذكري لمعلومة أنني أعمل في الصحافة عكس زيارته المتكررة التي كانت في إطار نشاطات تقام على أرض الجزيرة وسط مجموعة أشخاص سواء للرسم أو التصوير.
تحدثنا كثيرًا عن كيف نرى أنفسنا ويرانا المجتمع مصورين صحافيين بدرجة لصوص متطفلين لا نحترم أحد وأن هذا الشعور يجعلنا نخاف ممارسة المهنة، كما يجعل الجمهور والسلطة يتعاملون معنا بشكل سيء وغير إنساني وقد تصل الأمور أحيانًا للتعدي بالضرب وكسر المعدات أو الإعتقال. انتهى الحديث بيننا، ورحت أتجول على صفحات الفيس بوك، فوجدت منشور لزميلة مصورة صحفية تحكي عن ذكرى تجربتها السيئة بشكل ساخر وكيف كان حادث تعرضها للضرب على يد “المواطنين الشرفاء” أصدقاء الأمن أثناء تغطيتها لحدث صحفي في السنوات الأخيرة.
كأن الجميع يحاول إخباري بأني لست الوحيد الذي يشعر بالخوف، لست الوحيد الذي أثقلت تلك المهنة خطواته ونكست عدسته، جميعًا نتشارك ذلك بشكل أو بآخر، الكثير من الزملاء تخلوا عن الكاميرا في الوقت الحاضر وحاولوا الانخراط في وظائف وأعمال أخرى بها شيء من الأمان والراحة والمقابل المادي الجيد لمواجهة الحياة وضغوطها ومسئوليتها.
فكرت.. يرى الجمهور القصص المصورة في شكلها النهائي، ولكنه لا يرى أو يعرف ما يحدث خلف الكواليس، وما يعانيه المصور الصحفي أثناء تأدية عمله خاصة لو كانت تدور أحداث القصة في الشارع، وما يعانيه المصور مع ذاته لإخراج تلك القصة التي تعرض للجمهور.
يبدو وكأن الجمهور يكرهنا من ناحية، والسلطة من ناحية أخرى، فماذا نفعل؟ لا أعرف! ولكني أعرف مشاعري وقوانين عملي جيدًا، وأعرف أنني لست لصًا أو معتدٍ وأنه من حقي تصوير أي شيء يحدث في الفضاء العام وأن الشارع ملكي وملك الجميع ومن حقنا أن نلتقط الصور ونعبر ونوضح الحقائق ونسرد القصص طالما لم ننتهك حرمة بيتك أو محل عملك، وأعرف جيدًا أيضًا أن السلطة هي من تحاول إبعادنا عن الطرقات حتى لا ننقل ما لا تحب أن يراه الجمهور أو ما يلقي الضوء على أوجه القصور لديها، وأنها هي وراء ترويج الصورة الذهنية السيئة عن المصور وكونه جاسوس أو عميل.
لكن حالياً لا أعرف كيف أتخلص من مشاعر الخوف والقلق التي تنتابني كلما رفعت عدسة الكاميرا في الشارع والتي منعتني من إنجاز عشرات القصص مرة تلو الأخرى.
في النهاية شعرت بأنني وأهالي جزيرة الدهب متشابهين تمامًا، نحمل الشعور ذاته، شعور الحيرة والخوف من الآخر ومن المستقبل.