“كيف نتحمل
كابوس
الذاكرة؟…”
درية شفيق
موجود، مفقود، أزلي
خلال ورشة الجنينة، تصوير عاليا بسيوني
يمكن للأشجار أن تدلنا على عمر المكان، تمامًا مثل البشر والمباني، لكن الأمر يحتاج لمتخصص في هذا المجال. ربما لهذا حاولت البحث عن تاريخ الحديقة المفقود، بالـتنقيب في عناصرها، خلال مشاركتي في ورشة “موجود، مفقود، أزلي” الجماعية، في حديقة الطفل (بيت الخزف المصري) بشارع أم كلثوم خلف مسجد الزمالك بالحي الشهير، سنة 2018.
سألت صديقة لي تعيش في الزمالك وهي إحدى تلميذات الكيميائية جيهان رجائي -ابنة درية شفيق الصغرى- فحكت لي أنها كانت تلعب هناك وهي طفلة، أما تاريخ إنشائها فتعتقد أنه قديم نسبيًا.
في الحديقة، عثرت تحت إحدى مقاعدها الرخامية على صورة لدرية شفيق. كانت في مقال بمجلة “آخر ساعة” عن تاريخ ترشح وانتخاب المرأة المصرية في البرلمان (للأسف لم أحتفظ بتاريخ صدور هذا العدد)، وبجوارها صورة فوتوغرافية غير ملونة يعود تاريخها للستينيات.
كانت الحديقة أشبه بزمن مضغوط، ومكان أعادتني زهوره إلى طفولتي، مثل وردة المارجريت، وزهرة شجر الليمون، أو زهرة الـ”كابوسين”، كما كانت تسميها أمي. لكن الجنايني قال لي إن اسمها “أبو خنجر”، وإن بذورها كثيرة، وعندما تكبر إحدى مجموعاتها يمكن أخذها، ووضعها في مكان آخر.
وخلال بحثي عنها قرأت أنها لا تخشى الجفاف، ولا التربة الفقيرة ولا تحتاج إلى عناية كبيرة. بعض أنواع الـ”كابوسين” يمكن زراعتها في المنزل، مثل الكريمية الصفراء والحمراء والبرتقالية، ذات البقع الداكنة. ذكرتني الوردة بنزهاتنا أنا ووالدتي في شوارع مصر الجديدة بالقرب من منزلنا في ميدان تريومف. كانت متواجدة بكثرة وكانت والدتي تحب أن تقطفها وتأكلها فورا، فطعمها مثل الجرجير ويستخدمها البعض في السلطة.
“السنين في اتجاه معاكس”
لا أعرف هل هو طعم الجرجير، أم أن بصري-أثناء انحنائي لقطفها- وقع على صبارة في جزء ناء وخال من الحديقة. إنها مثل شجر الصبار الصغير الذي أراه على يسار هذه الصورة.
يمكنني أن أسمي هذه الصورة: “الصورة الملتبسة” أو “الوحدة”. ضهرها بلا تاريخ. كان أهلي یدونون التاریخ بالشهر واليوم والسنة على ظهر الصور، لكن يبدو أن والدتي، خلال سنوات الغیاب الخمس، لم تسجل أي تاریخ على الصور القليلة التي التقطها إخوتها خلال هذه الفترة. “كلهم مشیوا واحد ورا التاني”. أعتقد أنها آخر الصور التي التقطها آخر خال لي قبل رحيله.
أتصور أنها خلال عام 1962(عامين قبل بدء العمل في السد العالى)؛ أو ربما يعود تاريخها لعام 1963؟ لم أعد أتساءل (أو هكذا أتذكر) عن غياب والدي، إذ أنه وفقا لوالدتي مريض وفي حالة خطرة، وغير مسموح لأحد بزيارته في المستشفى. لم أكن أسألها إلا بعد إلحاح صديقاتي وأصدقائي في المدرسة عن معرفة سبب غيابه. لم نكن نشتري الصحف أو المجلات، أو نشاهد التلفزيون، فلم يكن من أثاث المنزل ولا أعرف هل كان أغلبنا في المدرسة يهتم ببرامجه.
حرصت والدتي على خلع النظارة قبل التصوير وارتدت ملابس الخروج، واهتمت، رغم انزعاجي، بملابسي ومظهري “عشان ینبسطوا لما یشوفونا”. كان قد مر ثلاثة أعوام تقريبًا على اعتقال والدي، وعلى ميلاد أخي. كنت في الثامنة من عمري وأختي في الرابعة. لا أعرف هل لاحظت غياب أبي الدائم أم أنني تلقيت “إجابة” أقنعتني بأن غيابه “طبيعي”.
الآن – في هذه اللحظة، ومثل كل مرة أنظر فیها إلى الصورة- أحاول أن أتلمس المشاعر التي ينقلها وجه أمي، الأقرب إلى الحیاد. أتخيل أنها أرادت أن تقول لإخواتها وأهلها “أنا بخیر”؟ القلق وغیاب بهجة اللحظة أراه في تعبیر وجهي أنا. أتساءل، أهو قلقي لوحدة هذه اللحظة، أم قلق تسبغه لحظة زمن المشاهدة على الصورة؟
بعد ثلاثة أعوام من الاحتجاز
أخذت المجلة والصورة-التي لم أنتبه لتفاصيلها في البدء- ثم قصصت صورة درية وراوية عطية من المقال، لاستخدامهما في مداخلتي الفنية. كنت أعمل في نفس الفترة على ترجمة مختارات من قصائد درية شفيق، المكتوبة بالفرنسية، وأحاول معايشة عزلة درية باستعادة عزلتنا-أنا ووالدتي وأختي وأخي خلال فترة اعتقاله بالواحات، بين عامي 1959- 1964 ضمن موجة ضخمة لاعتقال الشيوعيين.
بالطبع لم أعلم وقتئذ عن القانون “الذي بمقتضاه انتقلت ملكية الصحف إلى الاتحاد الاشتراكي، في عام 1960، أو عن مصادرة مجلة بنت النيل والكتكوت لدرية شفيق. وتذكرت ما قالته جيهان رجائي-ابنتها الصغرى- في حديثها مع سينثيا نلسون (مؤلفة كتاب “امرأة مختلفة” المرجعي عن درية شفيق):”ولكن أمي ظلت لا تستطيع الخروج إطلاقًا لمدة ثلاث سنوات، بسبب تحديد إقامتها، ثم بعد ذلك قررت ألا تخرج أبدًا. ولا أعرف ما إذا كانت تلك هي رغبتها فعلًا أم أنها أصبحت تخاف الخروج أو أنها اعتادت التزام البيت”.
“عندما كانت الحياة تختلط بالحلم”
حديقة الحيوان
سور الحديقة وأشجارها الضخمة ونخلها العالي ذكرني بحديقة الحيوان. أتصور أن حديقة الحيوان- التي افتُتحت في عام 1891- وأعرفها الآن من زيارات متقطعة لأسباب مختلفة، أو من بعض الأفلام القديمة؛ من أماكن الطفولة الساحرة؛ لكن معرفتي بها خلال طفولتي مصدرها صورنا العائلية. هي جزء من ذكريات أمي السعيدة مع أبي ومعي خلال أعوامي الأولى؛ التي لاأتذكّر أغلبها، وأعرف بعضها من قصص والديّ أو اخوتي.
عام 1964 كان خامس أعوام غياب والدي، وكنت على وشك أن أنهي دراستي الابتدائية، وكانت نزهتنا محدودة. وذات صباح صيفي، أخذتنا والدتي في رحلة إلى حديقة الحيوان. ربما سعدت بركوب المترو، أو بالفرجة على الشوارع والبيوت وهي تكاد تكون خالية من المارة، أو الركض خلف أختي وأخي على الكوبري الخشبي.
ثم قالت لنا والدتي أنها تريد أن تأخذ صورة تذكارية لنا. لم تكن صورة جماعية، كانت ثلاث صور منفردة. لا أتذكر شكل مصور الحديقة، ربما لشعوري بالضجر، أو لأن أغلب مصوري هذه المناسبات يتعاملون مع وضعيات محفوظة، متكررة ومُزعجة.
الآن فقط أستعيد ملامح مبهمة لوضعيتي في الصورة، أتخيل أنها لم تكن مألوفة أو لم تكن مزعجة. لم أهتم كثيرًا بالصورة، التي طلبت والدتي تلوينها يدويًا، مع صورة لأختي وأٌخرى لأخي. لكن تلوين الصورة بفرشاة صغيرة هو الذي ظل -وقتئذ-في ذاكرتي. قالت والدتي إنها سترسلها لأفراد أسرتها في فرنسا ولم أهتم كثيرًا. لتذهب الصورة فيما وراء البحر، مادام الأمر يسعد أمي.
“هذا الماضي
الممحو من الذاكرة”
لأنه
شطبنا من الحياة”
درية شفيق
لكن صورة حديقة الحيوان بدأت تطاردني بعد تأملي لصورة العائلة التي وجدتها في حديقة الزمالك. كانت إحدى صور ألبوم ضخم لعائلة مصرية مسيحية- بدا هذا واضحا من صليب حائط غرفة المعيشة- وتكاد تتسلسل زمنًيا. يمتد زمن الصور- المذكور في ظهرها، بالإضافة إلى بعض أسماء أشخاصها- من بداية الستينيات حتى بعد عام 1975 بقليل، وهو زمن احتجاز وعزلة درية شفيق، الذي انتهى بانتحارها، وزمن الدراسة الإعدادية، الثانوية العامة والجامعة بالنسبة لي.
حكت إحدى ميسرات الورشة أن صديقة لها وجدت الألبوم ملقى في الشارع؛ وقالت لي يمكنني اقتناء أي عدد أريده من الصور(كنت أهتم وقتئذ بتقنيات التعامل مع الصورة الفوتوغرافية، ونقلها باستخدام وسائط فنية متنوعة).
تحكي الصور عن أهم محطات بطلتها، التي سأسميها فاتن، منها صورة الزوج خلال عمله في السد، وصورته معها في جزيرة النباتات، وصورتها وهي حامل، في شرفة منزل العائلة بالمحلة الكبرى مع والدتها وأختها. كما تستحضر إحدى هذه الصور -وهي بروفيل لها- وجه فاتن حمامة في مشهد حريق القاهرة (يناير 1952)، في فيلم “الباب المفتوح” (انتاج 1963)، الذي ذكَّرني بكلام درية شفيق عن الحريق، الذي رأته من شرفة مكتبها بالدور السادس في شارع قصر النيل.
خارج الكادر
ذكرتني صورة زوجها، خلال عمله في بدايات مشروع السد العالي- وبرحلتي هناك خلال أول عام دراسي لي بالجامعة، ثم مع إبنتيّ منذ بضع سنوات. أشياء كثيرة كانت خارج الكادر خلال زيارتي الأولى لأسوان، بينما كان ثمة حضور خفي لبيوت النوبة تحت البحيرة، خلال الزيارة الثانية.
النيل-أسوان-السد العالي
أنا لا أحب النيل، ولم أعد أعرف هل مصر هي هبته أم هو هبتها، مع كل هذه المتغيرات الآنية، لكنني أراه اليوم كرمز لتطور وتغيّر وتراكب الزمن والأشياء، وحضور يؤكد غياب صورتي المفقودة، وانطفاء/غياب أصحاب “الألبوم المنسي”.
يكاد الكل يكون خارج الكادر اليوم: طفولتي، والدي، شقيقتي منى وزوجها، درية شفيق ومن كن معها؛ وربما النيل أيضًا. هذه محاولة لتقديم سردية متعددة الأصوات لأحداث متشابكة، عاشها أشخاص مختلفون خلال فترة زمنية فارقة، وتأمل كيفيات تفاعلهم داخل فضاءات مختلفة.
- العناوين بين علامات التنصيص من أشعار درية شفيق
