fbpx

بعد ساعات من سقوط الديكتاتور

في دمشق يبدأ الناس في التكيف مع حياة جديدة لم يألفوها من قبل، فتختلط مشاعر الفرح بالنصر مع الحيرة والقلق مما يحمله الغد لهم ولبلدهم
10 ديسمبر 2024

بعد ثلاثة عشر عاماً على اندلاع الثورة في سوريا، أُسدلت الستارة على حقبة طويلة وثقيلة من تاريخ البلاد. تهاوت تماثيل حافظ الأسد التي زُرعت في كل زاوية، وتمزقت آلاف الصور الملصقة على الجدران لبشار الأسد وشقيقيه، باسل وماهر، واستعاد الناس أنفاسهم وكأنهم يستنشقون الهواء لأول مرة.

في اليوم التالي لسقوط الديكتاتور، تجولت في بعض أحياء دمشق، حيث نواجه واقعاً جديداً لم نعتد عليه، وتختلط مشاعر النشوة بالنصر مع الحيرة والارتباك من مستقبل لا يزال غامضاً.

عند مدخل طريق دمشق – بيروت، تقف الحافلة المحترقة كأثرٍ متفحّم من حقبة الاستبداد التي عاشتها المدينة. هذه المركبات التي كانت تحمل أرقاماً عراقية، شكّلت شرياناً خفيّاً لحركة الميليشيات الداعمة للنظام؛ تنقل الأفراد والسلاح عبر شوارع العاصمة السوريّة، وتزرع الخوف في نفوس السكان. اليوم، لم يتبقَّ منها سوى هياكل سوداء، تشهد على أفول مرحلةٍ لطالما استحكمت فيها القوة والعنف.

بجوار الحافلة، يافعون ينظرون بفضولٍ إلى بقايا المشهد. ربّما لا يدركون أن هذه المركبة كانت يوماً جزءاً من آلة القمع التي فرضت سطوتها على المدينة. وبعدما التهمتها النيران، أصبحت رماداً هشّاً يتطاير مع الرياح مصطحباً معه زمناً ليحلّ مكانه آخر مجهولٌ يحمل في طياته احتمالات الأمل والخوف.

كان حيّ الشاغور، جنوب دمشق، رمزاً للثورة، لكنّه قُمع بقبضةٍ من حديد. وفيه، يرتفع مجدّداً العلم الذي شكّل تهمة على مدار عقد من الزمن. شهد الحيّ معارك دامية عام 2012، عندما حاول الثوار اقتحام العاصمة وفشلوا، لكنّه يبدو سبّاقاً في إشهار الراية التي طالما كانت إعلاناً للعداء مع زمن النظام.

ومن حيث علّقت الأعلام الآن، يُعلن الدكّان انتصار سكان الحي الذين عاشوا تحت تهديد النظام، ويجاهر بأملهم في بداية جديدة تعيد تعريف الوطن بعيداً عن القمع والتهميش.

بالتسلّط والخوف، اعتاد حاجز الفحّامة أن يستقبل الوافدين إلى دمشق، كونه يقبع عند البوابة الأولى المؤدّية إليها من الجهة الجنوبية. هنا، تحت أعلام النظام، اعتاد الضابط من كرافانته أن يجمع هويات المارة، أن ينظر إلى أسمائهم، ويقرّر مصيرهم بثلاثة احتمالات لا رابع لها: العبور، الانتظار، أو الاختفاء. شكّل هذا المكان رمزًا صلباً لهيمنة النظام وسيطرته على نبض الداخل والخارج من العاصمة.

اليوم، تبدو الصورة مختلفة تماماً. كرافانة التفتيش، التي كانت مقرّاً لقرارات القمع، أصبحت رماداً محترقاً، بقاياها متناثرة كخردةٍ لا تحمل سوى ذكرى الماضي المظلم. يتداخل علم الثورة مع أعلام النظام المتبقّية حول الحاجز، كأنّهما يخوضان مواجهةٍ صامتة. كأن الحاجز نفسه بات شاهداً على تبدّل الزمن، حين أطفأت النيران أركان السلطة، وأبقت المكان مفتوحاً على آفاق جديدة.

على مدار خمسين عاماً، ترسّخت شعارات حزب البعث كخطوطٍ حمراء دمويّة، من شأنها أن تسلب حياة منتقدها. الشعارات، بعباراتها المكرّرة، تحوّلت سابقاً إلى رموزٍ تنفذ إلى حياة المواطنين اليومية، وترسّخ هيمنة الحزب الحاكم على تفاصيلها.

غير أنّ عجلة الحياة التي اعتادت أن تدور تحت وطأة الخوف من هذه الشعارات، تجاوزتها أخيراً، وعبرت فوقها. الكلمات التي كانت تثقل كاهل السوريين أصبحت مجرّد لغوٍ من حقبة مضت، بينما تنطلق المدينة نحو مستقبل مجهول، تتخلى فيه عن رموز الماضي تدريجياً كما لو أنّها تتخلّص من عقدةٍ في لسانها.

ظلّ الأسد الأبّ يُحدّق بالمارّة في شوارع المدن والمناطق السوريّة، حتى بعد رحيله. صوره ملأت شوارع دمشق لخمسة عقود، زُرعت في كل زاوية وزقاق كرمزٍ لسيطرة الحزب الحاكم. بات وجه الأب شبه غائب الآن، يصعب العثور عليه وسط التحوّلات السريعة التي تشهدها العاصمة. لقد تراجع عن المشهد ما إن طوَت المدينة صفحة كاملة من تاريخها.

يمحو الناس كلمةً ويضيفون أُخرى. يختارون عباراتهم ومصطلحاتهم. يشطبون الشعارات التي كانت أداة للقمع البصري والنفسي، ويمنحونها لغة الناس لا لغة السلطة. استبدال الكلمات ليس مجرّد تغيير في المعنى، بل محاولة لاستعادة الحياة.

لم تستعد دمشق عافيتها بعد. خلت الشوارع من سيطرة النظام لكنها لم تعد كما كانت. التجمعات العسكرية لفصائل المعارضة تبدو عائقاً أمام عودة الحياة الطبيعية. المدينة الصاخبة، هي الآن حبيسة مرحلة انتقالية، ونظام حكم جديد لا تزال ملامحه غامضة.