رفض والداي رغبتي في دراسة الفنون بدلاً من الهندسة وانتهى الأمر بأن وجدت نفسي خارج منزل العائلة للمرة الأولى. الوقت ليل ولا أعرف أي باب سأطرق، لكن سماء دمشق في تلك الليلة بدت لي شديدة الاتساع، قادرة على تحقيق كلّ أحلامي.
من قلة التجربة والخبرة في الحياة ارتسمت صورة عن المكان، أدت إلى تورطي في تمرّد لم أكن أعي نتائجه، ولم أدرِ ما العمل بعد أن قطعت شوطاً ليس بإمكاني العودة عنه.
أمنياتي الوردية لم تطل البقاء، ستة أشهر أمضيتها في التنقل بين بيوت الأصدقاء، وعدة محاولات للحصول على شغل ثابت يحقق لي دخلاً، من العمل كنادل في عدة مطاعم ومن ثم في ترجمة الكتب والمسلسلات وصولاً لكتابة CV شبه فارغ وإرساله إلى عدة شركات، كلها محاولات انتهت بالفشل، عدت بعدها أدراجي إلى منزل العائلة محمّلاً بجميع هزائم العالم.
كانت عائلتي تنتظرني وهي إلى حدّ ما مهزومة أيضاً، فتوصّلنا إلى صفقة سريعة تسمح لي بدراسة الفرع الذي اخترته مقابل شروط قيّدت راحتي واستقلالي آنذاك.
بينما كان ياسين يشعر وكأنه غير مرئي، نبراس يثقله حضوره وهو يقيم في بيت أحد الأصدقاء كضيف ريثما يجد بيتاً للإيجار. أمين أبو قاسم / دمشق-سوريا / 2019
في إحدى ليالي المغادرة الأولى وجدت نفسي بلا مأوى. ذهبت إلى حديقة القشلة وقررت المبيت هناك. كان في جيبي مبلغ زهيد يكفيني ثمن علبة سجائر وعلبة بيرة، عدت أدراجي إلى البقعة التي قررت البقاء فيها حتى الصباح، جلست أحدق في السّماء متسائلاً عما سيحدث لي في نهاية الأمر. في تلك الليلة كنت أظن أن العالم قد أصبح على مشارف النهاية، بالنسبة لي على الأقل، لكن وفي لمحة بصر اعتدت على قسوة المكان.
تفاديت عيون صديقين مرّا بالقرب مني خوفاً من سؤال الحال الذي لم أكن أمتلك جواباً له، شعرت بالخجل من الوضع الذي صنعته قراراتي، لم أكن أنوي الاستسلام في تلك الليلة، بقيت حتى شروق الشمس أحاور نفسي دون إجابة. لم أختبر في حياتي شعوراً كهذا، بردٌ قارسٌ يأكل أطرافي وصعوبة في التنفس لا تسمح للهواء بالوصول إلى رئتيّ وكأن جبلاً ثلجياً يتوضّع فوق صدري.
لو تسنح لي فرصة العودة بالزمن، كنت سأغير تفصيلاً واحداً فقط، كنت لناديتُ على الأصدقاء لا اختبأتُ منهم.
في كلا المشهدين استيقظنا، شربنا القهوة، تحدثنا حول مغادرة المكان، غسلنا آثار سهرة البارحة، وأصبحنا جاهزين لكتابة ذكرى جديدة هنا. أمين أبو قاسم / دمشق-سوريا / 2021
أمضيت عاماً كاملاً قبل أن أخرج من منزل العائلة مرة أخرى. هذه المرة كنت مستعداً للتأقلم أكثر مع الوحش المسمّى دمشق، متطلباتي أكثر تواضعاً وخطوط التواصل مع العائلة لم تنقطع. مع هذا لم تكن الرحلة سهلة، لطالما كنت أتساءل عن ثمن الاستسلام للمدينة التي أحببتها دون اختيار، وإن كانت سترأف بي أم لا.
كان ذلك مع دخول وباء كورونا وحالة الذعر التي أصابت الجميع، ارتفاع جنوني في الأسعار وإغلاق كامل لأبواب العمل. رأيت الأصدقاء واحداً تلو الآخر يغادرون منازلهم ويذهبون للبحث عن بيوت خارج حدود المدينة بإيجار أرخص.
تحولت من مشاهد إلى مشارك، وضّبت أغراضي الشخصية وغادرت من ملحقٍ في الطابق السادس في منطقة الشعلان في مركز المدينة، نحو الأدراج الطويلة في منطقة الـ 86 غير المنظمة لأشارك صديقان منزلهما الذي أفسح لي مساحة على حساب الأصدقاء.
شعرت بالخذلان والهجر وبدأت تنمو فجوة حقيقية بيني وبين دمشق. هي لم تعد المدينة التي تعطينا الحق في الحلم ولا في المرح. إلا في أحيان قليلة.
الإنسان كائن متأقلم ضمن مختلف الظروف الذي يوجد فيها. هنا توجد أشكال عديدة للتأقلم ومحاولات كثيرة لجعل عمرنا الذي نعيشه رحلة ممتعة قدر الإمكان.
الليل هو آخر ما تبقى في وجه رمادية المكان، نرقص، نلهو، نعانق بعضنا البعض ونحدّق طويلاً في سماء مدينتنا التي خسرناها. أمين أبو قاسم / دمشق-سوريا / 2021
بينما وجيه يملأ كأسه في إجازته، ملأ وسام قبواً كاملاً في باب شرقي بالموسيقى.أمين أبو قاسم/ دمشق-سوريا/ 2021
في دمشق ليس هنالك متسع من الوقت للتفكير.. بين الضغط النفسي والإرهاق الجسدي هنالك فقط متسع للراحة المؤقتة، قبل معاودة الحركة من جديد.
مع غياب الاستقرار على جميع الأصعدة، بدأ يتشكل أسلوب حياة جديد مكوّن من جميع التراكمات العالقة في ذهني. بدأت أيضاً ألاحظ تشكل نفس الأسلوب عند بقية الأصدقاء الذين يشاركونني ظروف الحياة. قد تعتبر حياتنا شاذة، لا تصلح مع عادات وتقاليد المكان، لكنها انتصارنا الوحيد على واقعنا الذي أمسى على أنقاض حربٍ لم ندرك ما قبلها ولا ما بعدها.
صنعت عائلة خارج منزل العائلة، أوجدت طريقة لأعوض بها كل الأمان والاستقرار الذي خسرته، تلقيت الحب والرعاية والمساعدة، تشاركت معهم الأفكار والأحلام، أمضيت وقتي إلى جانبهم في مدينة تشبه العشوائية لا يمكن فهمها.
ماذا كنت ستفعل بكل هذا الوقت من الانتظار؟
كنتُ وأصحابي نمتلئ بالتجارب والأحداث والقصص التي خلقت عند كل واحد منا خصوصية ما، ترسم له شخصيته الخاصة في فيلمه الخاص من بطولته.
أتأمل الأصحاب وأرى في كل مرة مشهداً جديداً يُصنع من الشخص والمكان، مشهد في فيلم سينمائي.
في الصباح عبد الله يحاول أن يستيقظ من دوار البارحة، وفي المساء آية تتطهر من حزنها.أمين أبو قاسم / دمشق-سوريا/2020
ضيق المساحة لا يشكل عائقاً في تمضية الوقت، الحميمية وسادة دافئة مريحة تتسع للجميع.أمين أبو قاسم/ دمشق -سوريا/2020
تجلس في منزلك في الصباح، يضيق صدرك من الحر، تهدّئ نفسك من السباب في وجه الكهرباء، ترفع هاتفك وتكلم الأصدقاء تدعوهم لتمضية الوقت. قد تبدأ رحلتك بالمنزل مروراً بالحديقة ثم إلى مقهى قريب فرحلة قصيرة على الأقدام في شوارع دمشق، وربما مقهى آخر يستوقفك لفنجان قهوة آخر، حديث يعيد تساؤلاتك حول الحياة، بعض السخرية، يقاطعك هاتف من أحد الأصدقاء للتوّ ضاق صدره هو الآخر من الحر، يدعوك للمنزل، تقودك أقدامك إلى سهرة قد تمتد إلى الصباح.
هناك شعور بالأمان حيث الجميع يترك متاريسه خارجاً، يدخلون بحساسية عالية وقدرة على المشاركة والإنصات إلى الآخرين.
أرى أننا من أفضل أنواع اللصوص في سرقة لحظات حقيقية ذات قيمة معنوية من الحياة اليومية الاعتيادية، نرفع لحظاتنا في وجه المدينة التي تتآكل من الفراغ.
كنت أتساءل كم من الصعب أن أصنع واحدة تتسع لي، عما كانوا يتساءلون؟أمين أبو قاسم/دمشق-سوريا/2021
يقولون إن الحياة تشبه دولاب هواء، كلما بلغ سرعته القصوى يعيد نفسه إلى نقطة التوازن، إلى السرعة صفر.
أشكك بصحة هذه النظرية، وأنا أقلب صور أصدقائي التي التقطتها عبر السنين المنصرمة. بالنظر إلى وجوهم وأشكال أجسادهم، أعود في رحلة تنفي نقطة التوازن من خلال مشاهداتهم، يطول الحديث حول عدد المرات التي اجتازوا فيها عتبة الشدة إلى عتبتين أو أكثر. أذكر كلماتهم التي كانت تخرج وكأنها تنتزع من صميم روحهم في لحظات البوح، تخنقني كل ليالي الحزن والوحدة التي أمضيناها سوياً، ثم ابتسامة تقودني إلى كل موجات الضحك الهستيرية التي حظينا بها ونحن نقلب صفحات الماضي ونشرب نخب واقعنا الهزيل.
في كل مرة تأكلني مخاوف المستقبل، يعود أصدقائي بأعينهم المخبئة ببذور الأحلام النادرة، تذكرني عيونهم لماذا اتخذنا في بداية الأمر قرار الحياة من أجل الحلم.
في صباحين مختلفين، تاج هي الوحيدة التي تنظر لي وتبتسم.أمين أبو قاسم/دمشق-سوريا/2020
في لحظات شخصية، ياسين يجلس في سيارته منتظراً منها أن تعمل بعدما تعطلت،أصالة تشاهد الصور التي التقطها عبد الله لها، وأنا أعيش أياماً سجلتها في ذاكرتي.أمين أبو قاسم/دمشق-سوريا/2021
أجلس اليوم وأنا أحصي الأصدقاء الذي يتوجب علي توديعهم قبيل العام الجديد، وأذكر كل الوعود التي قطعناها بأن نثمل في مدينتنا حتى نصبح آلهة. اليوم أدرك معنى الرحيل بشكل حقيقي، أودع من تبقى من مجتمع بكامله، أمضيت سنوات وأنا أشاركهم الرحلة.
أراقب نهاية هذه المرحلة وأدرك تماماً أنني في العام القادم سأكون وحيداً في غرفة مليئة بأشباح أصدقائي. سأتجاهل كل محاولات التواصل معهم، سأبتسم وأنا أراقب خلسة أخبارهم من حسابات التواصل الاجتماعي، سأشاركهم فرحهم وحدي وأندب أحزانهم أيضاً وحدي، سأحتفظ بحكاياتهم في رأسي وسأخزن أماكن جلوسهم في كل البيوت الذي احتوتنا في إحدى الليالي، عندها سأعترف بأن النجوم المرسومة داخل أعينهم، تلك من تملأ قلبي برغبة الحياة، هم من يمدوا روحي بطاقة لا تخمد، هم من يرسم لي أحلاماً أكبر من مخيلتي، هم من يقرر متى تنتهي هذه الحكاية، ومن أبطالها. تلك النجوم التي وجدت سماءً تحتويها، تقول لنجومي إنها ستجد مكاناً لها يوماً ما.
لم تنته الحكاية بعد، “في حصار الماضي/ في حصار الحاضر/ في حصار المستقبل/ لا منفذ للحياة/ سوى الحياة”.
سنبقى نسجل حكايات وننتظر موعدنا مع مياه دافئة صافية نهاجر إليها للراحة. أمين أبو قاسم/ دمشق-سوريا/2021