كنت قد بدأت العمل على ترجمة مختارات من أشعار درية شفيق* (1908-1975)، من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. دفعني إعجابي ببعض قصائدها، المنشورة في دواوينها الثلاثة (مع دانتي في الجحيم)، إلى البحث عنها كإنسانة وشاعرة وزعيمة نسائية، اختارت العزلة والانتحار وهي تقترب من السبعين.
الشيخوخة: اسم. الشيخوخة: مرحلة من مراحل العمر تبدأ في سن الخمسين فما فوق
عندما قررت أن أرفق ترجمتي لأشعارها بمقدمة، بدأ مشروع البحث عنها وعن زمنها، وعلاقته بزمن أهلي وبي يأخذ مساره الفني. العزلة، الاكتئاب، والمرض، والشيخوخة.
كنت أريد أن أحكي عن شيخوختي، عن تخيلي لشيخوخة دريّة، عن بحثي، وأنا أستدعي سنوات شيخوخة أهلي، عن سماتها الشعورية والانفعالية (لا أعرف لماذا لم أرغب وقتئذ-وحتى الآن ربما- في الحديث عن سماتها الجسدية). أعتقد أن الانفعالات والحالة النفسية هي التي تشدّني، وتدفعني للبحث عن دلالاتها في اللغة (هل لأن اللغة البصرية- بالنسبة لي- لا تخص الانفعالات؟).
في البدء كنت أظن أن الحنين للطفولة من سمات الشيخوخة- مثلما في مذكرات درية شفيق أو حكايات والدتي، أو في أحد أبيات سان جون بيرس، الذي لازلت أتذكره حتى الآن. ( قالته لي صديقة خلال جلستنا في حديقة المركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة. كان الوقت هو الوقت الذي أحبه –قبل الغروب بساعتين تقريبًا- والمكان يكاد يخلو من الناس ويسوده الهدوء والسكينة). لكن مشاركتي في ورشتين أغلبها من الشباب، ومن قراءات منشورات في الـ “فيس بوك”، بينت لي أن الحنين للطفولة لا يخصني وحدي.
أعرف أهم سمة جسدية، ربما ليست ظاهرية دائمًا، تلك التي تخص المرض والمشاكل الصحية. بعضها يمكنني اعتياده، مثل التعرض للإصابة بالبرد بشكل متكرر(كان هذا قبل الكورونا)، والبعض الآخر سوف يكون أصعب، مثل التي تحدث بعد سن السبعين ( كان هذا كلامي منذ خمس سنوات، وأنا لا أحب أن أسبق الأحداث، لذا لنتأمل ما هو آني).
Anxiety
عندما يتتحدث الأصدقاء والصديقات عن الـ Anxiety فهم لا يقصدون القلق المألوف. هم غالبا يقصدون الهَمّ وَالغَمّ؛ أما “مَخَاوِفبَنَاتُ الصّدْر(الهمُوم) بَنَاتُ اللّيْل (الأحلام)”، كما ورد في معجم المعاني، فهو غير شائع في اعتقادي.
تعني Anxiété بالفرنسية القلق والتوتر وليس الخوف، لكن إحدى مرادفاتها – angoisse – تعني الخوف، الشعور بعدم الراحة والجزع الشديد؛ وفي معجم المعاني: كَرْب، اِكْتِئاب، غَمّ، غُصَّة، قلق عصابي.
القلق. هناك – في فهمي للكلمة-ما يبتعد بها عن أضرارٍ أو مشكلة نفسية تحتاج معالجتها. حتى خمس سنوات مضت لم يكن القلق يزعجني، كنت أعتبره جزءًا مني، يعكس اهتمامي بعملي وإتقانه، مصحوبًا بخوفٍ طفيف. لكنني بدأت ألاحظ مظاهر قلق غير مريحة في سلوكي: أثناء تناولي لحبات مكمّل غذائي-كنت آخذ حبّاته الثلاث دفعة واحدة- تصوّرت أن الحبّات ستظل عالقة في بلعومي-أعاني من ارتجاع المريء؛ أو أن تلتصق بحلقي-كنت قد أزلت الفص الأيمن (أو الأيسر، لا أتذكر) من الغدة الدرقية فتضرر أحد حبالي الصوتية. شعرت بالخوف وتخيلت أنني سأختنق. كنت وحدي.
العزلة-الانعزال/ الابتعاد عن الآخرين
في كتابه “اختراع العزلة” يقول بول أوستر، وهو يتحدث عن حياة والده: “إن حياة الترحال تلك قد سورتها عزلةٌ خالصة”؛ (ترجمة أحمد العلي، دار”أثر”).
منذ خمس سنوات مضت، كنت أريد أن أكتب عني كست كبيرة على المعاش. هذه الرغبة مستمرة، إذ أن الحديث عن “العواجيز” يكاد يكون “مُحرمًا”، أو متغاضى عنه؛ لأنه غير محبوب ( فهو عن آخر مراحل العمر)، ومؤلم (أمراض وغيره)، وعبء لا يحتمل يُفضل ألا نراه ونحن شباب؛ وربما لهذا نعزل المسنين في دور تخصهم؟
رأيت خالتي -في إحدى زياراتي لباريس. كانت حزينة لأنها ستترك بيتها وتعيش في دار للمسنين-“شايفة يا راوية؟ عايزين يحطوني مع العواجيز”.
هذا منذ خمس سنوات، لكنني أرى الآن أن الأمر قد لا يكون بشعًا إذا كانت هذه هي رغبة المسن/المسنة. بالنسبة لي عزل المسنين فكرة مزعجة، ومتناقضة مع فكرة المجتمع الذي يتحدث عن الدمج. أعتقد أننا نعتبر كبار السن بَركة.
أحب أن أقول إن للشيخوخة جوانب طريفة، إذ أكاد لا أعاني من التحرش، ومسموح لي بهفواتٍ وتصرفاتٍ غريبةٍ أحيانًا باعتباري كبيرة في السن (الحقيقة أنني أحاول استغلال هذا الموضوع لصالحي).
يونيو 2022
أنا الآن أقترب من السبعين. أكاد أكون في سن والدي قبل وفاته ببضعة أشهر. لا أعرف لماذا تلازم قيامي بتصوير نفسي بالكبر، وعلى نحو متواتر. أصبحت أتأمل تعاملي مع وجهي–الذي لا أحب فيه علامات إجهاد العينين الواضح (هالات وانتفاخات أسفلهما)، أو الذقن المزدوجة التي رغم كراهيتي لها، لا أبذل مجهودًا كبيرا في معاجتها أو تقبلها كما هي.
الصورة الذاتية / (سيلفي)
كل الصور السيلفي هنا رقمية، عدا أقدمها التي أخذتها تقريبا عام 1976، خلال دراستي في معهد السينما بعد حصولي على الليسانس. ما زلت أحب هذه الصورة. كنت في منزل العائلة وقررت أن أجرّب التصوير بالكاميرا الـ “ريفلكس” وضوء الأباجورة. كنت سعيدة لأنني– لا أعرف لماذا– سأنجح في التقاط صورة جميلة.
لم ألتقط أي صورةٍ ذاتيةٍ لي لعقدين تاليين، رغم شرائي كاميرا رقمية والانتشار الواسع والسريع للصورة الذاتية. ثم بدأت اللعبة تستهويني لكنني كنت أحذف الصور كلها.
كانت بداية اكتشافي لحيلٍ تجعل تصويري لنفسي “جميلًا” في نظري: الشتاء، في ساعة معينة يكون فيها التضاد واضحًا بين الضوء والظل. أمام شباك المطبخ، لأنني لا أغلقه تمامًا والألوان التي طليتها به محببة لي، وهي متناسقة مع لون شالي الذي يخفي رقبتي ويمنح بعض الحيوية لوجهي
عملي كمترجمة وفنانة بصرية يجعلني ألزم البيت لأوقات طويلة (لم أعد أذهب لعملي الرسمي بعد خروجي على المعاش)، لكن استخدام الزووم أو الـ “فيس تايم” جعلني أرى وجهي مع وجوه الآخرين
بعد انحسار أيام الكورونا الأولى المرعبة، ظهرت صيحاتٌ متنوعةٌ من الكمامات، منها تلك المصنوعة من القماش بنقوشٍ مبهجةٍ كالتي أرتديها. لم أعد أكتفي بالاختباء خلف النظارة، لقد تعاونت الكمامة معي في هذا الأمر
يوليو 2022
لم ألتقط آخر صوري الذاتية لأنها صورةٌ لي، بل لسعادتي بالكتاب الذي صنعته بيدي. أنا لازلت أختبيء، لكنني أعلن عن سعادتي خلف صورة درية.
(*) درية شفيق (1908-1975) إحدى رائدات العمل النسوي والسياسي في مصر. وضعت تحت الإقامة الجبرية في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ثم عاشت في عزلة استمرت لسنوات طويلة قادتها إلى الاكتئاب ثم الانتحار. جمعت راوية صادق أرشيف شفيق وتفاعلت معه صانعة تقاطعًا زمنيًا معها يتألف من صور ونصوص تقف عند أهم المحطات في حياة شفيق، وتداخلاتها مع حياة صادق.