المشهد الثاني
في ظهيرة يوم خريفي مشمس، تجلس وحيداً في صالون المنزل ولا تعرف ماذا تفعل، تريد أن تقول للآخرين أنك موجود، تمسك الكاميرا بالرغم من عدم رؤيتك لشيء محدد، يقع نظرك على مزهرية زرقاء فارغة من الورد، تأخذها من مكانها وتضعها في زاوية محددة تحت إضاءة خاصة وتأخذ من الثلاجة تفاحة حمراء وتضعها بجانب المزهرية، تضع عاكساً للضوء من جهة أخرى وتبدأ بالتقاط عشرات الصور لهذا المشهد، وتقضي بعدها عدة ساعات تائهاً بين الاختيار و المعالجة واضافة المؤثرات.
لم تكن متردداً أبداً، فالمشهد مجرّب ومضمون النتائج، حتى أنك في آخر مرة نشرتَ فيها صورة مماثلة حصلتَ على جرعة عالية من الدوبامين، وإن حدث ولم تحصل على نفس الجرعة فلن يكون هناك ضرر، فالصورة لم ولن تكون جزءً منك، إنها مجرد تمرين ضوئي.
هنالك تمارين للتدريب على الرؤية الفوتوغرافية تعطى لتلاميذ الفوتوغرافيا تحولت مع الوقت من مجرد تمرين للرؤية لتصبح الرؤية بحد ذاتها، من مثل تمرين البحث عن الأنماط المتماثلة ومراقبة حدوث الاختلاف، كمشهد مجموعة من الجنود يؤدون حركة موحدة ما عدا واحد منهم يبتسم للكاميرا أو يمد لسانه أو ..إلخ.
سيتكرر هذا النوع من الصور آلاف المرّات، ومع ذلك سيكون الخروج منه ممكناً لسهولة التعرف عليه، على عكس تمارين أخرى تقمصت أشكالاً كثيرة واختبأت خلف طبقات سميكة من وعينا، مثل تمرين الطبيعة الصامتة ذاك في المشهد الثاني، يضمن هذا التمرين الذي يعتمد على إخراج العناصر من بيئتها سهولة التحكم بها وإخضاعها لقول أشياء محددة.
في نفس اللحظة التي استطاع فيها رجل أن يركن سيارته فوق غصن شجرة استطاعت فتاة صغيرة الهروب من منزل والديها بغواصة وردية، دون أن يشعر بغيابها أحد. ® مظفر سلمان، فرنسا، روان، 2021
المشهد الثالث
يُطلب منك الذهاب إلى سوريا لتوثيق الحرب، ترسل 30 صورة لمختلف الوكالات الاعلامية، لا أحد ينشر من صورك شيء وأنت كما في المشهد الثاني تريد أن تثبت نفسك، تجرب في اليوم الثاني وترسل 30 صورة أيضاً وكذلك الأمر لم تنشر الصور ما عدا صورة واحدة كانت لعامل نظافة لم يكن ينظر نحوك فطلبت منه أن يتوقف لحظة لالتقاط صورته، فما كان منه إلا أن ابتعد قليلاً عن المكان الذي ينظفه، عدل ياقته منتصباً ورسم ابتسامة عريضة على وجهه، ولكن لماذا هذه الصورة فقط؟ بدأتَ تفكر..
في اليوم الثالث ترى طفلاً بعمر ست سنوات مع مجموعة مقاتلين وتريد التقاط صورة له، يعطيه والده الكلاشنكوف حتى تكون الصورة أجمل وأنت توافق، يضحك الأب ويعطيه السيجارة التي يدخنها وأنت توافق وتطلب منه الابتعاد قليلاً عن والده حتى يبدو مستقلاً، وقبل أن تلتقط الصورة تطلب منه أن يبتسم للكاميرا. في اليوم التالي تفاجأ بأن مجموعة صور لطفل سوري مقاتل مدخن وسعيد، قد غزت العالم..
آه الآن بدأت تفهم.. السر يكمن في تمرين الطبيعة الصامتة ذاته، السر هو إذاً هو قدرتك على إخفاء تقنيات التقاط الطبيعة الصامتة خلف الصورة الصحفية.
كان من المفترض أن يكون هذا التمرين مخصصاً فقط لتصوير الأشياء بدقة ضوئية لأرشفتها و دراستها أو للإعلان عنها، ولكن عندما تعلم أن ثمانين في المئة من التصوير الذي تمّ خلال الحرب العالمية الثانية كان لدراسة نتائج القصف والضربات العسكرية من أجل تطويرها أكثر، فلن يكون هناك غرابة في تطور هذا التمرين تلقائياً ليشمل الإنسان، وأنا هنا لا أتحدث عن تصوير عارضي و عارضات الأزياء فذاك شأن آخر، وإنما أتحدث عن تطور تمرين تصوير الطبيعة الصامتة ليكون الأساس الفني والتقني لتصوير الإنسان خلال الأزمات، وبسهولة شديدة يمكن إخفاء اللاإنسانية هذا خلف ستار الموضوعية والمهنية والإصرار على إبقاء الأسئلة الأخلاقية البديهية بلا جواب، من مبدأ أن الأسئلة الكبيرة تبقى دائماً بلا جواب مثل سؤال الحقيقة.
سؤال بلا جواب يعني ترك المجال مفتوحاً أمام أي ممارسة ممكنة حتى لو كانت لاإنسانية.
لو كان الظل رجلاً لاعتقد أن الضوء خرافة، افتح النافذة فقط. ® مظفر سلمان، فرنسا، روان، 2021
المشهد الرابع
تباً للأسئلة الأخلاقية.. أنت الآن بعيد، وتريد أن تحكي قصتكَ التعيسة هذه لأنك حزين وبحاجة لجرعة من الدوبامين، ولكنكَ لا تتذكر شيئاً لأنك لا تستطيع إبعاد عيونك عن الشاشة ولأجل ذلك تعود بواسطة الشاشة نفسها لاستعادة ذكرياتك من خلال الصور لمحاولة استجماع قصتك.. صورة طبيعة صامتة لمزهرية زرقاء بجانب تفاحة، صورة أخرى لطبيعة صامتة مكونة من طفل يحمل كلاشنكوف يتجول بشوارع حلب وهو يدخن، سيقول لكَ أحدهم أن هذه ليست طبيعة صامتة وإنما طبيعة حية.. “دعونا نتفق على أن هذا سؤال كبير لا يمكن الإجابة عليه!”، المهم أنك الآن أمام مجموعة من الصور، ماذا تتذكر؟ ماذا تريد أن تحكي لنا؟
– أريد أن أقول إنني أستطعت إخراج الأشياء من سياقها والتقطت لها أجمل الصور، وأستطيع أن أفعل ذلك مجدداً، أستطيع دائماً أن.. ولكن مهلاً.. لا، لا أريدُ قول هذا.
تصمت بعد أن اكتشفت أن كل الصور التي عُدت لها هي لحظات لواقع مزيف، تفضل أن لا تقول عنه شيئاً، فتأخذ كاميرتك وتخرج لالتقاط المزيد والمزيد من الصور محاولاً أن تملأ هذا الفراغ المخيف الذي يمتد في داخلك رويداً رويداً.
كان ضوء النهار ما يزال جميلاً عندما عدت من السوق في ظهيرة ذلك اليوم، مساءً أصبح الضباب كثيفاً، و ثلاثة طيور بيضاء كبيرة حلقت فوق الغابة. ® مظفر سلمان، فرنسا، روان، 2021
المشهد الخامس
في منزل أحد الأصدقاء بعد أن أنهيت جولتك، كان لقاءً عائلياً جميلاً، حدث صدفة دون أي ترتيب، ومع ذلك لم يخطر ببالك أنت المصور أن تلتقط بعض اللحظات الخاصة، حتى قام أحدهم بالطلب منك التقاط بعض الصور بكاميرتك الاحترافية. تقف مبتعداً قليلاً عن المجموعة الجالسة، تدير ظهرك لهم، تمسك بيديك الاثنتين الكاميرا وتمدها للأمام و الأعلى قليلاً، تصوب العدسة نحو وجهك الذي جعلته أسفل الكادر حتى يظهر البقية في خلف الكادر.. يعدل الجميع جلستهم، يضعون الكؤوس أو يرفعونها، تبتسم.. يبتسمون ثم تضغط الزر.
بنجاح كبير تم تسجيل اللحظة، أي لحظة؟ لا تعرف فقد كنتَ مديراً ظهرك لها. صحيح أنك فعلياً لم تسجل أي لحظة خاصة، وصحيح أنك انتقلتَ من خلف الكاميرا لأمامها، وصحيح أنكم تبدون في الصورة كمجموعة لصوص تحت عدسة كاميرا مراقبة، ولكن المهم أنكَ لم تستعمل الهاتف الذكي مثل كل الهواة، وزودتنا بصورة عالية الدقة لوجوهكم، بالتأكيد ستكون صورة مفيدة في المستقبل.
في سبعينيات القرن الماضي قال رولان بارت في كتابه الغرفة المضيئة.. “لا يبحث الإنسان التائه مطلقاً عن الحقيقة ولكن فقط عن لحنه”.
بالطبع لن ندعو للبحث عن الحقيقة، وإنما سنكون واقعيين ونكتفي بالدعوة للبحث عن لحننا الخاص، أي أن نكون تائهين على حد تعبير بارت، ولكن كي نتوه لا بد لنا من التحرك خارج المشهد الذي سيطر علينا، هل يمكننا ذلك بدون قتله؟
أما فيما يخص التاريخ الطبيعي للمنطقة فإن للطيور رأياً مختلفاً، كي تسمعه عليك أن تنظر جيداً. ® مظفر سلمان، فرنسا، روان، 2021
المشهد الأول
كرسي فارغ تحت نافذة صغيرة تمر من خلفها غيمة صغيرة في ظهيرة يوم خريفي مشمس، كان من المفروض أن لا تنتبه لهذا المشهد مثله مثل مئات المشاهد اليومية الروتينية، ولكنك تعيش تجربة خاصة والمشاعر تعصف بداخلك، وهذا المشهد كان بشكل غريب مرآة لتلك المشاعر، كل شيء مثالي وليس عليك سوى التقاط الصورة، ولكنك متردد.. فنحن لم ندربك على تصوير ما تشعر به لأنك لست مهماً، المهم أن تلتزم بدورك الذي دربناك عليه سنين طويلة، وهو أن ترافق الكاميرا إلى حيث نرسلها، وترسل لنا صور الأشياء بدقة عالية تماماً مثل صورة السيلفي تلك في المشهد الخامس.
على بعد خطوات قليلة من منزلي تغادر الطيور أعشاشها كل يوم وتجتمع فوق تلك الرافعة الضخمة في محاولة جماعية لفهم قوانين الفيزياء المسؤولة عن إنجاب طائر ملون يظن بأنه طائر حقيقي. ® مظفر سلمان، فرنسا، روان، 2021