fbpx

قطار إفريقيا الوحيد

كل موسم اصطياف يعود قطارٌ قديم، في غرب الجزائر، إلى العمل، يحمل الناس من وإلى شاطئ معزول.. كان قديمًا مرسى لبواخر الحج
ــــــــ المـكـان
18 أغسطس 2023

يظن الكثيرون أن ولاية معسكر (379 كلم غرب الجزائر العاصمة) لا تُطل على البحر، صحيحٌ أنها ولايةٌ داخلية إلا أن نتوءًا منها ينحشر بين ولايتي مستغانم ووهران، ذلك الجزء الصغير من الأرض الذي يتلامس مع البحر هو بلدية مرسى الحجاج وشاطئها الذي يبعد عن مركز الولاية بـ 72 كلم.

عرفتُ هذا الشاطئ وأنا صغير، كنا نذهب مع العائلة بالسيارة، نقضي اليوم كله ثم نعود إلى بيتنا في مدينة معسكر. وظلّ الحال على ذلك إلى نهاية المراهقة وبداية اكتشاف التصوير بالنسبة لي. سنة 2015 عُدت مع العائلة للتصييف، وبدأت في التقاط أولى صوري على الشاطئ. كنت ألاحظ الأولاد من سنّي وأصغر. مجموعاتٌ تتشكّل وتتفرّق ثم تتشكل من جديد في البحر خلال السباحة أو على الرمل في استراحةٍ ما بين شوطي مباراة كرة قدم.

وفي سنة 2016 بدأت العمل على مشروعي “الهروب من موجة الحر“، حيث صوّرت أولادًا ومراهقين ، من مناطق غير ساحلية، يتحايلون على حرارة الصيف بالسباحة في ما تبقى من وديان وخزانات مياه شبه مهدمة ومسابح مهجورة.. وبعدها بسنة قادتني الكاميرا إلى مرسى الحجاج.

كنت قد سمعتُ عن القطار الذي يعملُ صيفًا، ينطلق من المحمدية (36 كلم شمال معسكر)، محطّته الكبرى والتي يركب منها كل أبناء البلدات والمداشر المحيطة، نحو مرسى الحجاج. كثيرون يرددون أسطورة محلية تقول أنه القطار الوحيد من نوعه في إفريقيا: يتحرّك في وجهةٍ واحدة وخلال موسم الاصطياف.

كنتُ أكتشف الصورة والنّاس والمنطقة التي كبرت فيها.. كنت طالبًا جامعيًا أعمل على أكثر من فكرةٍ في نفس الوقت.. كنت أكتشف حدود الصورة وحدود نفسي.

ذات مرّة، وخلال تصوير مشروع “الهروب..” في معسكر، التقيتُ بولدٍ، جاء من المحمدية لزيارة ابن عمه، وأخبرني عن رحلاته على متن قطار مرسى الحجّاج. ودون تخطيط، وقبل أن أعرف تجربة العمل تحت الطلب والتنقل، قررتُ الذهاب إلى المحمدية.

هناك، بتُّ ليلتي بمرقدٍ صغير، في انتظار قطار الصباح. تشاركتُ الغرفة مع شابٍ أصغر منّي بثلاث سنوات، جاء من قريةٍ بعيدة كي يذهب في الصباح إلى ثكنة الغمري ليتقدم للفحص الطبي والالتحاق بالخدمة العسكرية. تحدّثتُ معه وأنا أرتب أغراضي ليوم الغد. وفي لحظةٍ ما، شعرتُ بأننا متشابهان ومتعارضان في نفس الوقت. كان هو على وشك أخذ خطوةٍ حاسمةٍ في حياته، وكذلك كنت أنا، إلاّ أنّ الأمر لم يبدُ كذلك وقتها، لأنّه ذاهبٌ للالتحاق بمهنته المستقبلية وكنتُ أنا ذاهبًا إلى البحر.

جاء الغد. سار القطار ببطء. توقف أربع أو خمس مرّات، وطول الرحلة من المحمدية إلى مرسى الحجاج هو ساعة تقريبًا. وطيلة طريق الذهاب كانت هنالك طاقةٌ وحركة لا تهدآن. حماسٌ لا يتناسبُ مع درجات الحرارة العالية التي تلفح الحقول والقرى التي نعبر من أمامها.. يتحرك القطار متمايلًا بالنّاس الذين تدلّت أطرافهم من النوافذ والأبواب المفتوحة. ووسط كل هذا الهرج كان المفتش يمرّ بقبعته وزيّه الرسمي يتفقّد التذاكر.

وجهتنا، مرسى الحجاج هي بلديةٌ بحرية بنمطِ حياةٍ واقتصادٍ مختلف عن الأماكن التي جاء منها أغلب الركاب، أماكنُ تعيش من الفلاحة بشكلٍ أساسي. والمرسى اكتسب اسمه من كونه مكان انطلاق وعودة الحُجّاج قديمًا.. وقت ما بدأت رحلة الحج تتغيّر طريقها، من البر إلى البحر.

وما أن وصل القطار، قبل منتصف النهار، ونزل الناس، حتى اكتشفنا الشاطئ المكتظ بالعائلات وعشرات المراهقين والأطفال. يحملون أكياسهم المهترئة وحقائبهم الصغيرة التي تضمّ أشياءهم القليلة وأكلهم.

يقضي راكبو القطار يومهم على الشاطئ، ووجدتُ نفسي وسط هذا المهرجان المُرتجل أصوّر وأسمع حكاياتهم. يوم صيفٍ طويل، ينسى فيه الشباب حرّ النهّار الخانق، ويُنهكون أجسادهم من السباحة والشمس.

تبدأ العودة قبل المغرب والجوّ قد صار ألطف. يستسلم الركّاب للتعب والنسمة التي تتجوّل بين نوافذ القطار المُتربة. يختلط السابحون بالعائدين من أشغالهم نحو بيوتهم، وإن كان الأوائل أكثر وضوحًا بأجسادهم التي تحمل أثر الشمس والملح. يتحول القطار كلّه إلى شريانٍ امتد من البحر نحو بَوَادي معسكر، يحمل ملح ورمل البحر وتعب النهار.

ببطءٍ يتوّغل القطار نحو المحمدية، ونبدأ باكتشاف تضاريس أخرى، الحقول والمزارع.. الكلاب التي تركض في الخلاء والرجال الذين يجلسون على أطراف الطرقات طلبًا لنسمة العشية. هنالك أيضا مقامٌ صغير نلمحه من النافذة، قبةٌ بيضاء صغيرة لا يوجد تحتها قبر، لكنها على طريق الضريح الأكبر حيث دُفِن وليٌ صالح، مقامٌ روحي يمكننا تسميته، يتقرّب إليه أهل المنطقة ويرسم حدود الإقليم الذي ينتمي للولي.

مع كل محطة يتناقص عدد الركاب وتبدأ المقاعد والأماكن في الشغور.

ذات مرّة، التقيتُ شخصًا كبرتُ معه في جنوب البلاد، حيث عشتُ طفلًا مع عائلتي في مدينة حاسي الرمل (مدينةٌ صناعية تتوفر على أهم حقول الغاز في البلاد). كان ينحدر من نفس منطقتنا، لكننا لم نلتقِ منذ سنوات. وجدته جالسًا مع أصدقائه، عائدين من الشاطئ. سألني عمّاذا أفعله بالكاميرا ! لم أكن أعرف بالتحديد ماذا أفعله، سوى أنّي أصور النّاس وحكاياتهم.