عندما كنت صغيرًا زرت العديد من شواطيء الأسكندرية، وأحببت كثيرًا لعبة بناء قلعة بالرمال، القلعة يجب أن تكون قريب من حد الأمواج هكذا يمكننا استخدام الرمل المبتل من أجل البناء، وهكذا أيضًا ستندفع موجة أكثر مما يلزم، وتهدم القلعة في لحظة ما.
كنا نفرح بما أنجزناه على هشاشته، ولا نبالي كثيرًا عندما تسقط القلعة، نتشارك البناء والفرح، وندافع عنها قدر استطاعتنا من أمواج البحر المتلاحقة التي تسعى لهدم قلعتنا. صراع دائم بين البحر وبين قلعة الرمل ينتهي لصالح الأمواج التي لا تستسلم. عالم الشاطئ المليء بقلاع الرمل التي ذهبت أمام إصرار البحر على هدمها كان درسًا مبكرًا -وعيته فيما بعد- لأهمية اللحظة، والحضور فيها، والاستمتاع بها على الرغم من حتمية الهزيمة، أو على الأقل -بشكل أكثر نضجًا- حتمية انقضاء اللحظة.
ربما هذا المجاز ما جعلني اتعلق بشاطئ الدخيلة غرب الإسكندرية على الطرف الآخر من المدينة، وأنا من سكان الشرق ويبعد عني عشرات الكيلومترات، على شاطئ الدخيلة توجد قلعة حقيقية وأمامها أيضًا مدافع قديمة صمدت أمام البحر مئات السنين انتصرت للعبة طفولتي وظلت شاهدة على حياة أجيال ممتدة من سكان المدينة.
شاطئ الدخيلة أكثر شواطئ الاسكندرية تفردًا و استقرارًا -أو كان كذلك- تفرش الرمال واحدة من أكبر المساحات الشاطئية داخل المدينة، يستقر بها بقايا طابية/ قلعة الدخيلة التي بنيت في العصر المملوكي حيث أسست لتكون حائط لصد هجمات الغزاة عن المنطقة الغربية، وتم بناء عدة صهاريج أسفلها لتمد الجنود بالمياه.
وقت حكم محمد علي (1805- 1848) قام جليس بك أحد المهندسين العسكريين الفرنسيين الذي استدعاهم الباشا لتطوير المنظومة العسكرية المصرية بتطويرها وتوسعتها وإقامة حوض لتقديم الخدمات وصيانة السفن القادمة لميناء الإسكندرية وعرفت من وقتها بـ “طابية الحوض الجاف”.
بعد ذلك زود الخديوي اسماعيل الطابية بمدافع -طراز أرمسترونج- في إطار تسليح كل القلاع البحرية ساعتها، يرقد اثنان منهم بجانب شجرة تطل على الشاطئ.
لعبت الطابية دورًا في محاولة صد الغزو الإنجليزي على مصر في 1882، ونالها نصيبها من التدمير، تم إعادة إصلاحها مرة أخرى في عهد عباس حلمي الثاني (1892- 1914) وظلت في الخدمة حتى بدايات القرن العشرين.
تلك القطعة التاريخية على الشاطئ الواسع، كانت تبدو وأنها تراقب حركة الزمن عليها، وعلى جيرانها لعشرات السنين، وأصبح تاريخها جزءًا من تاريخ هؤلاء الناس، تاريخ به دماء وحروب وقصف ودمار واحتلال. لكن أيضًا تواريخ شعبية وحكايات تروى في المجالس الحميمة وبين الأصدقاء عن لقاء على الشاطئ أو صورة بجانب المدفع أو قبلة خاطفة بين الأمواج، أو قصص ملعب كرة القدم الموجود بالشاطئ الذي تعاقبت عليه أجيال، صيحات الفرح بالبحر وصيحات استنجاد لإنقاذ غريق. تاريخ يحكينا وأي تغيير فيه يغير من حكاياتنا و ربما مصيرنا.
يوم الثلاثاء 20 أغسطس الماضي تم هدم الحوض الجاف، هذه المرة لم تسقط القلعة بسبب موج البحر، بل سقطت بقرار إداري لم يلق بالًا للأهمية التاريخية والمعنوية لهذا الأثر.. التاريخ لا يهم الآن.
قرار الهدم صدر بداية العام من أجل إنشاء الميناء الأوسط (ميناء المكس) ليربط جغرافيًا بين مينائي الإسكندرية والدخيلة بطول سبعة كيلو مترات، تدخل مساحة شاطئ الدخيلة وقلعته. في هذه اللحظة شعرت أن علي التوجه لوداع هذا الشاطئ ووداع آثاره، أحيانًا أشعر كواحد من المصورين إننا نجري من مكان لآخر كي نلتقط صورًا لاحتضار المدينة قبل زوالها، ثمة أشياء أخرى جديدة تأخذ مكانًا ونحن كسكان لا نعرف عنها شيئًا، فقط نفاجيء بوجودها، طرق سريعة عريضة، موانئ، مدن جديدة، والمدينة القديمة تختفي بالتدريج، ونحن نجري لنلتقط صورًا لما كان قبل أن يختفي.
في هذه القلعة أريقت دماء لمصريين كانوا يريدون وقف الزحف الانجليزي على بلادهم، ألم تكن تصلح المنطقة كمزار لحكاية مقاومة؟ لكن مرة أخرى التاريخ لا يهم الآن.
لم أكن وحيدًا على الشاطئ، كان هناك العديد من أهالى المنطقة يلتقطون صورًا تذكارية لهم في المكان، ساعدت بعضهم في التقاطها، حكى لي أحدهم عن حزنه بسبب مغادرة المكان، فالقلعة لن تُزال وحدها ولكن سيتم نقل جزء من سكان المنطقة إلى مساكن “بشاير الخير” التي تبعد كثيرًا عن الدخيلة.. قصة حزينة أصبحت مكررة، سبب حزنها الأساسي ليس الرغبة في بقاء الأشياء على حالها، لكن في أننا كسكان غير مدعوين بالمرة للمشاركة في شكل المدينة الجديدة، نحن فقط نتلقى القرارات، ولا نملك إلا التنفيذ، وأحيانًا يسعفنا الحظ ونلتقط بعض الصور لأماكن كانت هنا.
فارس، من سكان الدخيلة