في توجهي من وإلى محطة رمسيس بالقاهرة، مركز مواصلات العاصمة، أمُرّ على منطقة بولاق أبو العلا. عادة ما ألمح، صفوفًا شبه منظمة من مُعلّقات تبدو من بعيد كأنها طيف ألوان، ومن قريب هي حوامل معدنية تحمل ملابس من كل شكل ولون.
هذه المرة قررت أن أكتشف المكان الذي لطالما مررت من أمامه، وأحيانًا من خلاله، دون أن أنتبه.
أنا الآن في وكالة البلح، عَلَم صار يعرف بالوكالة فقط. تعود نشأتها إلى القرن التاسع الميلادي، بدأ الأمر بأن المنطقة كانت مخصصة لتجار وباعة البلح، لذا صارت وكالة البلح. حتى نهاية التسعينات عند بناء كوبري 15 مايو، كانت إطلالة منطقة بولاق على النيل أوضح بلا عوائق، فكانت البضائع، البلح في هذه الحالة، تُحمّل من الجنوب عبر السفن والمراكب إلى منطقة الوكالة. بعد ذلك حُمّل قماش الكتّان من جنوب مصر أيضًا، ليجاور بائعي القماش تجار البلح.
لاحقًا، زاحمت منتجات القماش البلح، وصارت وكالة البلح مجمع تجاري كبير لبيع الأقمشة والملابس بأصنافها.
أحيانًا تسمى المنطقة في الإعلام بـ “مول الفقراء” وغيرها من التسميات التي جمعت بينها وبين أصحاب الدخل المنخفض. الأسعار بالتأكيد أقل من غيرها، لكنها ليست للفقراء فقط. ربما مرّت في وقتِ ما بمرحلة سوق ملابس أصحاب الدخول المنخفضة، لكنها لم تعد كذلك الآن بالضرورة، تخلت الطبقة المتوسطة عن خجلها من ارتداء ملابس مستعملة، فالجميع يتجاورون لقياس الملابس في الشارع، بين ستاندات الوكالة، ثم يحملونها معهم في أكياس سوداء، بما في ذلك مندوبي الممثلين الذين يعتمدون على الوكالة لشراء الملابس التي يظهرون بها في الأدوار التي سيمثلونها. بشكل ما يُشارك البائع في عملية تلبيس الممثل.
يقول عبدالله، صاحب محل في الوكالة.. يرسل بعض الممثلين مندوبين لهم، يشرح المندوب الدور للبائع كي يتمكن من إخراج الملاس المناسبة.
وهناك ممثلون، أصغر في السن عادةً، يتباهون أحيانًا بأن الملابس التي ظهروا بها على الريد كاربت من الوكالة.
مع تضخم إنتاج العلامات التجارية الكبرى للملابس، ومع سرعة دوران عجلة الموضة، ومع كل إنتاج لخط أزياء جديد، يفيض من الخط السابق أكثر مما تحتمله التخفيضات التي تقوم بها محال بيع الملابس الكبيرة في المولات، فتستوعب أماكن مثل الوكالة في بولاق أبو العلا وغيرها من الأسواق الشبيهة، هذا الفائض بأسعار مخفضة لدرجة قد تقترب من التكلفة، إضافةً إلى استيعابها للملابس المستعملة بالأساس، التي يتخلص منها أصحابها الأوائل سريعًا لمواكبة الموضة الجديدة.
هكذا صار العمر الافتراضي للملابس أقصر بكثير، ليس بسبب تلفها كمنتج بل بسبب انتهاء موضتها.
هنا يأتي دور الوكالة والأسواق الشبيهة لتنفخ الروح في قطعة ملابس غير بالية لكن أفناها قصر عمر الموضة، فتطيل من عمرها الافتراضي أكثر بكثير. وهكذا بلغ حجم استيراد مصر لهذا النوع الملابس المعروف بـ”البالة”، نحو 6 ملايين دولار سنويًا وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
مصدر الملابس عادة هي دول أوروبية، خصوصًا بلجيكا وألمانيا وإيطاليا، ويقول عبدالله إن الوارد من بلجيكا هو الأفضل. تصل الملابس إلى بورسعيد كستوكّات، أي في مجموعات كبيرة بالكيلوات، يشتريها تجار الوكالة وغيرها لبيعها بالتجزئة. كما انتشرت أيضًا محال الستوكات التي تبيع بالوزن. لم تعد العلامة التجارية هي التي تحدد السعر، فالسلطة الآن في يد الميزان.
في هذه الحالة، بدلًا من أن تخضع قطعة الملابس لضرائب الإيجارات الباهظة لمحال المولات، وحساب مهندسي الديكور، وفواتير التكييفات؛ تستعيد موقعها العملي كقطعة ملابس، مضافًا إليها -عند الزبون والتاجر في حالات التجزئة- ما يتعلق بالجمال والمناسبة، زائد قيمة أخرى أيضًا هي اسم “البراند”، فقميص زارا سيظل حاملًا لاسم زارا حتى لو بيع في الوكالة بربع الثمن وأقل، أو بيع في محل ستوكات بالوزن، حيث يبدأ سعر الكيلو من 250 جنيهًا (أقل من 30 دولار). لستَ مضطرًا لشراء كيلو إذ يمكنك شراء قطعة واحدة وعلى حسب الوزن.
انتَبَه الكثير من الشباب لهذا الأمر، صار في الأمر نوع من التمرد وقلب الوضع، صار محل الشراء/الوكالة علامة على حالة أضافت قيمةً للمنتج. هذه الحالة هي مزيجٌ من محاولات لخداع آلة السوق، وأيضًا إظهار للتفرد.
وعمومًا، لا يغيب التفرد عن ملابس الوكالة فغالبًا هي بالقطعة وأنت وحظّك، إن وجدت قطعة الملابس التي جذبتك إليها، وحدها من بين غيرها من الملابس المعلقة على الستاندات والجدران وأبواب المحال، فعلى الأرجح أنك وجدت نفسك فيما تعتقد أنه يُشبهك. لن يُشبهك تمامًا إلا إن كان على مقاسك.
تجولي وتصويري لم يُعجب بعضًا من باعة الوكالة. قال لي أحدهم بعد أن سألني “بتصوري إيه وليه؟”: “هتخليهم يقلبوا علينا”. يبدو أنه كان يقصد إدارة الحيّ.
تقوم إدارة الحي بعمليات مداهمة لمنطقة الوكالة لإزالة الإشغالات التي هي الستاندات، حيث تُحمّل على سيارات نصف نقل وتنقل إلى مخازن الحي. في العادة يتمكن تجار الوكالة من استرجاع أشيائهم بعد دفع ثمن المخالفة أو اللي فيه النصيب. لكن يبدو أنه في هذه الأيام لم يعد ذلك متاحًا. قال عبدالله: “اللي بيتاخد بيروح المخازن ومبيرجعش، ولا حتى بفلوس”.
كان عبدالله عادلًا في حُكمه على ما يحدث، فرغم أن بضاعة محله معلقة على ستاندات تفترش الشارع، إلا أنه يرى أن 26 يوليو شارع عمومي ولا يُمكن لرئيس الحي أن يتجاهل المخالفات والإشغالات التي تعطل الشارع ببساطة.
مع ذلك، لا يبدو أن عبدالله أو غيره من التجار سيمتنعون قريبًا عن بيع ملابس معلقة على ستاندات في الشارع. ولا يبدو أني، وغيري، سنكتفي قريبًا من زيارة الوكالة كلما احتجنا إلى شراء الملابس ومحاولة خداع السوق.