اكتشفت جدي بعد رحيله، وبدأت حياتي منذ ذلك.
هذا ليس بيتًا إنه خزانة ذكريات؛ منزل عائلة أبي في المحلّة الكبرى. أعود إليه كمن يسير على أجزاء من قلبه، أجمعها وأحاول إعادة تركيبها قطعة قطعة لترجع، قدر الإمكان، كما كانت. أنا عالقةٌ في الماضي، وكل ما أراه في حاضري محضُ صورٍ لقصصٍ نقلها أجدادي إليّ عن مدينةٍ لم تعد موجودة. لقد ضعت في أفكاري المتضاربة عن حاضري الذي أحاول التكيّف معه، لكنني هناك في حقبة زمنية مختلفة نُسيت منذ أمد.
لم تنتظر جدتي طويلاً، فتبعت جدي في 2011، بعد عام من رحيله. بعد ثماني سنوات فقط من وفاتهما، اكتشفت حياة جدي من خلال الأشياء المتروكة في مكتبه الذي كان دائمًا أرض العجائب بالنسبة لي عندما كنت طفلة. أدركتُ أنني فقدت الكثير فقط عندما وجدت هذا المكان الكنز؛ مجموعة من الأشياء والصور والأغراض والوثائق هي اليوم ذاكرتي الجمعية التي أبني منها حاضري.
عشت في المحلّة الكبرى أول خمس سنوات من حياتي. لقد أدركت أن المحلّة، التابعة لمحافظة الغربية والبعيدة عن القاهرة بـ110 كم، بالنسبة لي كانت بيتي إلى أن توفي جدي وجدتي وبدأت علاقتي معها تأخذ مسارًا مختلفًا وتتشكل بعد فترة وجيزة من رحيلهما. منذ ذلك الحين، توقفت المحلّة عن أن تصبح مدينتي وأصبحت مسقط رأسي فقط.
عمتي: المحلّة ماتت دلوقتي
تذكّرني عمتي كثيرًا وتحاول إعادة بناء لغز حياتنا معي: “أنتِ من واصلت البحث يا أمينة، حتى وجدتها. لم أر قط متعلقات جدو من قبل. أنت من وجدتها. لم يكن جدك يتكلم كثيرًا ولم نكن نعرف أشياء كثيرة حتى فقدناه. ولكن من واجبي أن أخبركِ بقصتنا”.
إعادة تجسيد الماضي. أنا الخيط الممتد، وأنا نقطة الاتصال. رأيتُ نفسي انعكس في رحلة القطن. ومع الوقت أصبحتُ تجسيدًا لتلك الرحلة. تتحمل زهرة القطن البيضاء التغيير داخليًا وخارجيًا حتى تلوح في الأفق كأقمشة منسوجة ومرسومة. وبالمثل، أحاول التكيف مع العالم الخارجي، معلقةً في الهواء، أحاول نسج وجودي في الوقت الحاضر.
مدفوعةً بلحظة لم تنتهِ في ذكرياتي. لا يبدو ثقل تاريخي متوازناً مع واقعي الحالي. أحاول جمع ما يمكن أن يكون آخر آثار طفولتي في مكان قد يختفي: منزلي. من خلال قصص عمتي:
“الموجود دلوقت البيت والجامع والمدرستين. والباقي إتأمّم. كان في أمر إستيلاء بس كسبنا القضية من كام سنة. الكل بقى يبيع دلوقتي عشان الحكومة قرفت من التمليك. زمان كانوا يحمّسوا الناس تشتري. دلوقتي الناس مش عايزة يبقى عندها حاجة، عشان المشاكل والقوانين والضرايب. بس فكان جدو عنده العزبة وعنده العمارات دي. وجدو عمل مصنع على طريق كفر الشيخ الكبير. إحنا بقى للأسف مضطرين نبيع البيت الكبير. بس هو خلاص مش هيتباع عشان القوانين. المحلّة ماتت دلوقتي. شفنا العزّ على إيد جدو، وعشنا عيشة جميلة وكنا متهنيين”.
كانت عائلتي جزءًا من تاريخ صناعة القطن في المدينة. اكتشفت أن الجد الأكبر -أبو جدي- كان من أوائل تجار المحلّة الذين قادوا المرحلة الأولى من تجارة المنسوجات الشعبية في ذلك الوقت، ثم أسس جدي المباشر مصنع النسيج الخاص به، عام 1969، وانضم إليه والدي في الثمانينيات. قبل ذلك، كان معظم التجار متخصّصين في الصباغة.
“شركة المحلّة هي أصلاً أساس البلد، كل حاجة في الغزل وفي النسيج وفي الأقمشة كل حاجة كانت من عندهم. كان بيشتري منهم كل حاجة وكان عنده حصة من أكبر حصص الغزل في الشركة. لو سألتي الشركة يجبولك التواريخ دي. كانت بالحصص، مش هو لوحده، كل التجار. يا بنتي ده كان الناس كانت بتيجي المحلة، والملك فاروق كان بييجي كتير المحلة كان عنده كافيه في المستعمرة. دي كانت بيوت العمال والموظفين، كانت شياكة، فلل وبيوت صغيرين ببوب مدورة، دلوقتي مهملة. مش عارفة ليه كانوا مسمينها المستعمرة، أكيد جاية من كلمة استعمار”، عمتي.
أسافر إلى أرض جدي التي تتقلص، إنها تتشظى لأن الخريطة لم تعد كما كانت عليه من قبل. في السابق، تحوّلت الأراضي الخضراء التي كان يُزرع فيها القطن الأبيض الغني طويل التيلة إلى تجريداتٍ حضريةٍ وأراضٍ مفرغةٍ، تغيّرت المناظر الطبيعية التي تحيط بالمدينة وعبر حدود الدلتا. بعد أن فقدت التربة التي حصدت بذورنا لونها وملمسها.
الحاج علي: الفلاح بقى عدو
الأراضي التي كانت يومًا خضراء تختفي بالتدريج، وتغيرت المساحات الزراعية التي تحيط بالمدينة وعبر حدود الدلتا. فقدت التربة، التي حملت بذورنا، لونها وملمسها. هل تعرفني هذه الأرض؟ هل تتذكرني هذه التربة؟ ذاكرتي تخدعني. نسيت بعض الأشياء وأذكر أنني من هنا. هذا هو المكان الذي نشأت فيه. الأرض هي الشيء الوحيد المتبقي وسط كل ما يتغير حولي.
التقيت الحاج علي، ناظر عزبة جدي، كان يزرع القطن في أفضل أيامه. يعيش في العزبة منذ ما يقرب من خمسين عامًا. يخبرني “زرعت 30 فدانًا العام الماضي، وسأزرع 50 فدانًا هذا العام، لأنني لم أجد محصولًا أفضل، لذلك أنا أزرع القطن، القطن هو الأفضل في أسوأ المحاصيل”.
في الوضع المثالي يفترض أن يكون سعر قنطار القطن 4000 جنيه (200 دولار تقريبًا)، لكن التاجر يشتريه من المزارعين مقابل 2000 جنيه. نصف هذه القيمة يذهب أجورًا للعمّال، والنصف الآخر يغطي تكاليف الزراعة وإيجار الأرض. حيث يدفع الحاج للنفر 55 جنيهًا ويحتاج إلى عشرين نفرًا ما يعني دفع 1200 جنيه للأنفار، وما تبقى يوزّع على الجرار وإيجار الإرض والكيماوي.
خسر الحاج علي هذا العام 4000 جنيه، يستكمل حديثه قائلًا: “سمعتُ أن الحكومة تريد التركيز على زراعة المزيد من القطن. ولكن كيف؟ كيف سيفعلون ذلك؟ هل سيزرعونها مجانًا؟ أو سيحمّلون التكلفة للمزارع؟ عندما يتعلق الأمر بالتحدث عن المال، فإنهم يتركونك للتاجر الذي سيأكل حقك. كل شيء أصبح باهظ الثمن إلا القطن”.
يكمل “كنت بزرع القطن أيام ما كان في عزّه. كنا نقول اللي عايز يتجوز يتجوز في القطن. اللي عايز يجيب عربية، يجيب من القطن. إنما دلوقتي ممكن يبيع العربية عشان يكمّل مصاريف الأرض. هو في حاجة غلط. الحكومة فيها حاجة غلط. الحكومة ناسية الفلاح خالص، الفلاح بقى عدو”.
بدأت أتساءل عما تعنيه المدينة الآن بالنسبة لي، وماذا يعني القطن كرمز لطفولتي عندما نشأت وأنا أعلم أن هذه هي الصناعة الرئيسية التي نسجت عائلتي منها خيوطنا. المحلة أصلًا عُرفت بأنها مدينة القطن، وتواصلي معها كان يعتمد على أهلي. قررت أنني سأجمع خيوط حاضري عبر أرشيف أجدادي، سأحاول أن أفهم لماذا لم أعرف كل هذه التفاصيل قبل الآن؟ وماذا يعني لي ولعائلتي اكتشاف تاريخٍ مهجورٍ أو مجهولٍ لهم؟ ما حجم ما يمكن أن نخسره بإغفال هذا التاريخ؟ وكم يمكن أن نكسب حين نعرفه؟ وما الذي يجعلنا ما نحن عليه؟ أنا من عليها أن تقوم بتوثيق سيرة القطن الآن.
عم جمال: سُرق كل شيء
وبينما أغوص في أرشيف جدي، عثرتُ على صورة لجدي في القناطر الخيرية. بدا لي أن كلّ شيءٍ مرتبطٌ بكل شيء آخر، فالقناطر لها مكان في ذاكرة غالبية المصريين، يربطونها بأحلامهم الرومانسية. أنا كذلك أصبحت أربط بينها وبين حلمي الرومانسي الشخصي بالماضي الزائل. عرفتُ أيضًا أن موقع القناطر كان لواحد من أقدم المحالج في العالم والتي تأسست عام 1847 في عهد محمد علي باشا، والذي بُني على امتداد سدود دلتا النيل كجزءٍ من خطة محمد علي لمشاريع النهضة في مصر، والتي كانت تقوم على اهتمامه بالزارعة وخاصة زراعة القطن.
استُخدم مصنع الحلج لإنتاج الزيوت والصابون، وكذلك العلف من بذرة القطن بعد حلجها. قابلت عم جمال، حارس مصنع الحلج الذي يستعيد أيامًا كان فيها هذا المحلج يهدر من كثرة العمل. لا يمكن بعد الآن أن نعرّف المكان هذا على أنه مصنع الحلج، فأكداس التراب والجدران التي تقف وحدها لا تستخدم الآن إلا كخلفية لمواقع تصوير الأفلام. اختفت الآلات، يخبرني عم جمال، كيف سُرق كل شيء منذ أن توقف المصنع عن الخدمة عام 1997.
في عام 1994، قام حسني مبارك بتحرير تجارة القطن ليقود الصناعة بأكملها إلى حتفها، وبالتالي يقتل مع موت هذه الصناعة المحاصيل، حيث صدر القانون 210 بشأن تنظيم تجارة القطن- خصخصتها في واقع الأمر- ليتيح للقطاع الخاص زراعة القطن والتجارة به.
بعد صدور هذا القانون، تأسس أكثر من 256 شركةٍ تتاجر في القطن. في هذا التاريخ، رفعت الدولة يدها عن تسويق وإنتاج القطن المصري، وتُرك الفلاحون أصحاب الأراضي الصغيرة والمجزأة لقمة سائغة لجشع التجّار.
من قبله أشرع أنور السادات (1970- 1981)، خلال فترة حكمه في السبعينيات، الباب أمام سياسات الانفتاح، مشجعًا القطاع الخاص في الوقت الذي هدم فيه القطاع العام؛ وبشكل أساسي الزراعة وذلك بالتركيز على تطبيق استراتيجيات جديدة للزراعة الصناعية ما تسبب في صرف الانتباه عن صناعة القطن.
ومع إنتاج القطن قصير التيلة خلال حكم مبارك، شهد والدي بداية السقوط في الثمانينيات، رغم أنه حاول التمسّك بخيوطه، سألته لماذا لم يعمل في شيء آخر. أجابني دومًا أنه لا يعرف أي شيء آخر غير القطن. كان يعرفه عن ظهر قلب، حتى أن بمقدوره أن يميز بين قطعة 100% قطن مصري وأخرى ليست كذلك. وبينما كنت أكبر، لاحظت ألم والدي وإصراره على التمسك بالخيوط المفقودة لنسيج مهنته. لا أستطيع أن أتذكر حتى إن كان قد أتيح لي سابقًا زيارة مصنع النسيج القديم لوالدي قبل أن يتحول إلى مكانٍ مقفرٍ تحيط به جدرانٌ تردّ أصوات الريح كما لو كانت مسكونةً بالأشباح.
أسطى سلامة.. صوت جدّي يتحدث إليّ
“كان المصنع بالإيجار وبعدين لما اشترى أرض طريق كفر الشيخ وبنى المصنع نقل هناك. كنت أنا جيت في بدايته سنة 1983. كان المحل ده أصلاً شغال مانيفاتورة (بيع تجزئة) وقماش. جدو كان مانيفاتورة برده قبل ما يعمل المصنع. لما باباكي إتخرّج بدأ يشتغل في الفوط. وجدو كان بيشتغل في الكوفرتات والمفروشات. إيه هي المفروشات؟ عارفة قماش تنجيد المراتب؟ هو ده! مش اللي بيتعبى قطن. لأ، التلبيسة التانية، اللي بتبقى مشجّرة. وده القماش اللي كان بيبيعه في المحل. كنا بننزل فين بقى؟ كنت أنا بنزله في الموسكي والأزهر والغورية واسكندرية، وعمر أفندي في المخازن بتاعته في السبتية في القاهرة”. أسطى سلامة، سواق جدي ومن أقرب الناس ليه.
في حيّ البهلوان في المحلّة، يقف محلنا مهجورًا. أدخل إلى مكتب جدّي الكبير. تتملكني لحظات من الصمت والجمود، تظهر أيقونات ماضيَّ عالقةً في عصرها بينما الحياة تكمل مسارها. أحاول تخيل المكان حين كان شغّالًا ومأهولًا بالأقمشة المكدّسة على الأرفف. جماعات من الناس تدخل وتخرج من المتجر.
المحل مغلق منذ عشرين سنة، حتى قبل أن يموت جدي. كثيرًا ما يذكرني الأسطة سلامة بجدي، هو الذي يخبرني بالحكايات التي كنت أتوق لسماعها من جدي نفسه، إنه صوت جدي يتحدث إليّ من الماضي.
القطن في زمن ناصر
مع نهاية عصر الملكية عام 1952، صاغ ناصر قوانين تحدّ من ملكية الأراضي في البلاد . كان عمر جدي آنذاك 14 عامًا ولم يكن متاحًا لكل فرد أن يتجاوز عددًا معينًا من الفدادين (صدرت أولى قوانين الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952 وحددت الحد الأقصى للملكية الزراعية بـ 200 فدان ثم تم تخفيضها إلى 50 فدان). تتذكر عمتي كيف امتلك جدي الأكبر الكثير من الفدادين فقرر أن يقسمها بين أبنائه. فعل هذا محاولاً الفرار من قوانين الإصلاح الزراعي لعبد الناصر. ومع ذلك، صادر ناصر بعض أراضيه وممتلكاته.
ساند ناصر الفلاح المصري ودعمه، وبالمقابل ساهم القطن المصري في تسليح الجيش المصري في الخمسينيات والستينيات من خلال تصديره إلى الاتحاد السوفيتي مقابل استيراد أسلحة. ركز ناصر على القطن المصري في الإنتاج الزراعي وحاول استخدامه كسلاح استراتيجي. وقد أتى دعمه هذا بثماره إذ أصبح القطن صناعة مصرية مربحة بالفعل.
وبين عامي 1967 و1969 زادت قيمة الإنتاج الزراعي مما أدى إلى ارتفاع بنسبة 15٪، وارتفعت الصادرات بنسبة 40٪، جلبت ثلاثة ملايين فدان من القطن 10.8 مليون قنطارًا من القطن وإنتاجه في عام 1969. ويعد هذا أعلى مستوى للإنتاج في تاريخ صناعة القطن.
أخبرني والدي أننا نملك أرضًا أخرى في كفر الشيخ، وأن عليّ زيارة مدينة سخا، حيث عُرف عنها أنها محطة البحوث الزراعية ،ومركٌز مهمٌ لمن يريد البحث في بذور القطن. اعتاد جدي الحصول على بذور القطن من هناك. أخبرني الحاج علي أنه يحصل على بذوره من هناك أيضًا من خلال جمعية الزراعة.
لا يزال محلج دومينز في سخا بكفر الشيخ قيد الاستخدام، حيث يقوم بتوزيع بذور القطن في جميع أنحاء منطقة الدلتا. تم استخدام قاعة الحلج الرئيسية منذ 170 عامًا، ومنذ إنشائها، تعمل جميع الآلات بكامل طاقتها.
أثناء زيارتي محلج دومينز القديم، الذي تم بناؤه عام 1913، علمت أنه الأقدم في العالم، أسسه محمد سعيد باشا عام 1851، واستُخدِم منذ بدء زراعة القطن طويل التيلة في مصر. بينما كنت أتحدث إلى حارس البوابة، أخبرني أن هناك أربعين آلةٍ يدويةٍ في هذه القاعة، أقدمها صُنع في 1851 وآخرها في 1913، وجميعها مستوردة من بريطانيا.
من محلج سخا القديم إلى محلج الفيوم الجديد
أخذني بحثي في رحلة، حملني على رؤية القديم والجديد. تمكّنت من الوصول إلى أحدث مصنعٍ للحلج في الفيوم، والذي بدأ العمل في موسم 2020. إنه جزء من خطةٍ أكبر لإحياء صناعة القطن في مصر وإعادتها إلى مجدها السابق، ومحاولة تقليل المخاطر على العمال وتحسين جودة ألياف القطن.
في محلج الفيوم راقبتُ عن كثب. رأيتُ عملية الحلج كاملةً، شاهدتُ فصل الألياف عن بذرة القطن. لم أكن أعرف شيئًا عن كل ذلك.كلّ عنصرٍ كل جزءٍ من نبتة القطن له فائدة، وأنا اعتدتُ على رؤية المنتج بصورته النهائية فقط.
فهمت أيضًا كيف ترك الاستعمار بصمةً عميقة على صناعة القطن. ترتبط صناعة القطن في مصر بالاستعمار البريطاني إلى حد كبير، وقد توصلت من خلال البحث إلى أنها صناعة ما تزال تحمل الكثير من ملامح الاستعمار، تمامًا مثلما ننظر إلى عمارةٍ من تلك الحقبة. إنها ثروة استعمارية مثل أشياء كثيرة من حولنا في مصر تم بناؤها خلال الاحتلال البريطاني. أسأل نفسي، كم من هذا محصول القمح مصري وكم يصل أثر الكولونيالية على حالته التأسيسية وحالته الحالية؟
القطن ذو الخيوط اللانهائية
ما أن وصلت إلى المحلّة لزيارة مصنع مصر للحليج، قدمت نفسي باسمي واسم عائلتي فتعرّف أشخاصٌ فيّ على جدي. بعضهم أهل المحلّة يسألونني من أي جزء من المدينة أنا، ومنه يعرفون على الفور أنني الحفيدة. أشعر كما لو أنني مربوطة بخيط طويل ممتد إلى جدي الأكبر. ومع كل زيارة لمصنع حلج مختلف، أخال نفسي قد استوعبت كل شيء، وسرعان ما أدرك أن هناك المزيد.
تطول قصة القطن لأن خيوطه لا نهائية، لقد ضللت في عالمها مثل بذرة صغيرة في كومة ضخمة في الأرض. أحاول أن أجد طريقه في متاهة الحلج. لا يزال الجميع يعيشون على تراث “الذهب الأبيض”، وجميعهم يحلمون أنه لا يزال الأفضل في العالم.
لماذا يرفض الفلاحون زراعة القطن؟ ولماذا لا يستطيع والدي استخدام القطن المصري لمنتجاته بينما الشركات الأجنبية هي التي تستفيد منه؟ سأل باستمرار أين يذهب القطن؟ الجواب دائمًا غامض، دائمًا ما يكون “إنه للتصدير”. ماذا يتبقى منه لمصر؟ إنهم لا يعرفون. مع تشتت صناعة القطن على مر السنين وتغير دورة زراعته، بدأ والدي في اختيار القطن المستورد من دول مثل باكستان واليونان. حيث يُصدّر معظم القطن المصري إلى الخارج.
أيام الأوبيسون المصري و”بيج بن” المحلة
في زيارة أخرى، قمت بجولة في مصنع السجاد الذي يقع إلى جانب برج الساعة. صُدمت من البؤس الذي يقبع فيه المكان، مشيت عبر ممرٍ طويلٍ منعزلٍ في مبنى مهجورٍ قديمٍ للدولة إلى أن وصلت إلى مكتب المدير، حيث وجدته جالسًا. هذا المصنع لا يتبع للمجمع الأكبر لشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلّة، لأنه تأسّس بحصة من عمال الجمعية التعاونية للصناعات المنزلية.
تتذكر عمتي أن هذا المكان كان يصنع أجمل الأقمشة والمنسوجات “الهاند ميد” والتي كانت تصدّر للخارج وكان الأوبيسون المصري يتنافس بسهولة مع الفرنسي. أخبرتني بصوت فخور كيف كنا نصنع منسوجات تفوق تلك الموجودة في المدن الأوروبية الكبرى. يواجه المصنع الآن انقراض هذه الحرفة، فلم يعد حرفيوها موجودين أصلًا، ولم يعد أحدٌ يهتم بمواصلة هذا الإرث. فعلاوةً على أن تدريب العمال على الحرفة يستغرق وقتًا طويلاً، إلا أنها تتطلب أيضًا موهبة، خاصةً صناعة سجادة الأوبيسون المصرية الشهيرة التي يستغرق إنجازها ستة أشهر لتُباع كمنتجٍ فاخرٍ باهظ الثمن.
تُستبدل هذه الحرفة الآن بتقنية سريعة باستخدام آلات متطورة، يقول المدير إن السجاد الذي يمتلكونه أصبح قديمًا الآن، وأن إحدى المشكلات الرئيسية تأتي من نقص التسويق لهذه المنتجات كقطع فاخرة باهظة الثمن وذات نوعية عالية جدًا.
مازلت أستعيد لحظة ضبابية من طفولتي، كنت فيها أتجول حول برج الساعة التابع لشركة “مصر للغزل والنسيج”، وكانوا يسمونها ساعة بيج بن. تقول عمتي إن جرسها كان يُسمع في جميع أرجاء المدينة. كانت تلك الساعة واحدة من الرموز الرئيسية للمحلة. وهي إلى جانب المصنع كانا يمثلان رمزًا قويًا لهوية المحلّة وهويتي معها.
القطن هو رمز طفولتي. الفجوة التي كنت أحاول سدّها وفهمها. إنه حكاية مجازية، قصة الصيرورة ودائرة الضياع والاحتمالات. حاولت عبر الصور التي عثرتُ عليها لجدي أن أضع كل ما اكتشفته في سياقه، أن أفهم الماضي الذي لم أكن قد سمعت به من قبل، والحاضر الذي أشعر بالاستلاب فيه.
تعلمتُ أن هذه الوثائق والصور ليس لقيمتها وجود إلا إذا وضعتها في سياقها. أعدتُ تخيل سردية الإرث المفقود وتاريخي الشخصي الذي كان مفقودًا معه دون علمي.