fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الاستشراق المحلي.. إلغاء السياسة

يعود الاستشراق المحلي اليوم ليفرض حضوره في معالجة المسألة الفلسطينية، إذ يتحول النقاش الاستراتيجي حول خيارات المقاومة المتاحة أمام الشعب الفلسطيني إلى هجوم أيديولوجي يشنه المستشرقون المحليون على فكرة المقاومة نفسها
25 سبتمبر 2024

كان كتاب «الاستشراق» الذي أصدره إدوارد سعيد (1935 – 2003) سنة 1978 حدثاً ثقافياً. فمنطلقاً من أفكار معاصره الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984) حول المعرفة بوصفها خطاباً يؤسس سلطة تفرض نفسها على موضوعه، لم يعالج سعيد الاستشراق كأعمال مبعثرة ومتناقضة أحياناً تحتاج إلى تأريخ وتصنيف يلم شعثها ويخضعها للذاكرة، وإنما كخطاب يؤسس جغرافيا تخيلية هي الشرق، ويحددها بسمات جوهرية تمهد لإخضاعها لعدسة المستشرق ومبضع الاستعماري.

ورغم الانتقادات العربية التي طالت المؤلف، خاصة من جهة سقوطه في الاستشراق المعكوس، أي من جهة تحويله نقد الاستشراق خطاباً يؤسس جغرافيا تخيلية أخرى هي الغرب، ويحددها بسمات مسبقة تمهد لإخضاعها لعدسة الناقد الجنوبي ومبضع المناضل العالمثالثي، إلا أن الفعل النقدي الذي مثله الكتاب لم يكن بأي حال موضوعاً لخلاف واسع.

المفارقة الأكبر مع ذلك تمثلت في التوازي التاريخي بين مشروع نقد الاستشراق السعيدي في الولايات المتحدة الأمريكية، والمشروع الذي أسميه هنا بمشروع الاستشراق المحلي الذي شهدته المنطقة في نفس الوقت. فعلى خلفية هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وتحت شعار «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، تبلور في الثقافة العربية مشروع نقد الذات عبر العودة إلى التراث العربي لإخضاعه للتشريح بحثاً فيه عن عقل عربي معطوب ما زال يفعل أفاعيله بواقعنا. ومرة أخرى، جرت الاستعانة بفوكو وغير فوكو للحديث طويلاً عن بُنى اللاوعي التي تتحكم بالعقل والمعرفة، والحاجة الماسة إلى جراحة مخية ثقافية لزرع الحداثة أو العقلانية أو العلمانية أو الديمقراطية، أو غيرها من المترادفات بحسب التفضيلات الشخصية للكاتب وقدرته على المناورة وميوله الأيديولوجية.

لا يمكننا اليوم أن نغفل المنجزات المعرفية لهذا المشروع، فقد أعاد محمد عابد الجابري (1935 – 2010) وحسن حنفي (1935- 2021) بالتأكيد وصل ثقافتنا المعاصرة بتراث فلسفي عربي ثري ومتنوع، كما كان لمحمد أركون (1928 – 2010) ونصر حامد أبو زيد (1943 – 2010) مع آخرين إسهاماً فعالاً في تثوير الدراسات الإسلامية. غير أن المشروع برمته انطلق صراحة أو ضمنياً من إغفال الشرط المادي للواقع العربي الذي جرى الاستعاضة عنه في خطاب العقل العربي بإبستيمولوجية تخيلية (على غرار الجغرافيا التخيلية عند سعيد). فلم يعد المثقف العربي يرى في الواقع العربي أنظمة سياسية وعلاقات دولية وأنماط إنتاج وأجهزة أيديولوجية وحركات اجتماعية، إذ حل محل هذا، عقل متخيل ومستعار من التراث العربي، هو مبدأ كلي أحادي قادر على تفسير كل شيء، بدءا من السلوك اليومي لفتاة في المغرب في الثمانينيات، إلى قرارات اقتصادية للنظام السوري في مطلع الألفية الجديدة.

أُعرّف الاستشراق المحلي إذن بأنه خطاب معرفي يؤسس موضوعه وهو العقل العربي (يحله محل الواقع المادي العربي بما في ذلك البعد الأيديولوجي أو الفكري في هذا الواقع)، ويحدده بأنه عقل غيبي لاعقلاني، ويمهد من ثم لإخضاعه لعدسة المستشرق المحلي ومبضع السلطة (الدولة) التحديثية. اتسم هذا الخطاب بتغييب المادي، فلا يمكن للخطابي الحضور إلا على أساس من غياب ذلك الشرط الذي من شأنه حال استحضاره أن يصيب الخطاب بشروخ تفككه وتفكك السلطة التي يؤسسها على موضوعه.

يعود الاستشراق المحلي اليوم ليفرض حضوره في معالجة المسألة الفلسطينية بعد هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته حركة حماس على المستوطنات الإسرائيلية الجنوبية والمواقع العسكرية القريبة من القطاع، إذ يتحول النقاش الاستراتيجي حول خيارات المقاومة المتاحة أمام الشعب الفلسطيني، والتقييم الاستراتيجي للسابع من أكتوبر، إلى هجوم أيديولوجي يشنه المستشرقون المحليون على فكرة المقاومة نفسها، ليس فقط بوصفها مسؤولة عما حاق بقطاع غزة من دمار، وإنما باعتبارها تكثيفاً للعقل العروبي/ الإسلاموي الذي يصب عليه المستشرق المحلي نقمته الأيديولوجية. إلا أنه في سَورة غضبه، يؤول المستشرق المحلي أخيراً إلى مرآة لكل نقيصة يحاول أن يلصقها بخصمه المتخيل كما سنحاول أن نحاجج هنا.

يتهم المستشرق المحلي خصمه الأيديولوجي، أي العروبي/ الإسلاموي، بالاستسلام لأوهامه الأيديولوجية التي تدفعه إلى مغامرات ذات عواقب وخيمة، وتعميه عن الحسابات الواقعية. يبدو المستشرق المحلي في نقده هذا وكأنه يشير ضمنياً إلى الشرط المادي، أي جملة العوامل التي سبق أن أشرنا إليها وتشكل في تشابكها الواقع المعقد وغير المتجانس، لكن المستشرق المحلي في الوقت نفسه يشجب المعجم الماركسي المتداعي الذي يستخدمه خصومه لرسم صورتهم الخاصة عن الواقع المادي، غير أن معجمه الجديد يبدو خالياً بالكلية من مفاهيم يمكنها التعامل مع الشروط المادية للواقع العربي.

يرفض المستشرق المحلي مثلاً مفهوم الإمبريالية بوصفه وصفاً عصابياً للدور الغربي في الجنوب العالمي، لكنه لا يقترح مفهوماً بديلاً يستوعب نظرياً ذلك الدور الغربي وعلاقتنا به. تبدو مشكلة الديمقراطية أو العلمانية أو العقلانية العربية في تلك الحالة مشكلة تجريدية ذهنية، معزولة عن الواقع العربي وتشابكاته الإقليمية والدولية، بينما تحظى إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا ببراءة أصلية من معضلات الحداثة العربية، ويصبح الاستبداد السياسي أيضاً مشكلة محلية ومجردة، فهو ابن العقل العربي والتراث والخطاب الإسلاموي/ العروبي الذي لا صلة له بالشرط المادي. حتى علاقات القهر الاجتماعي الجندري التي قد يتبناها المستشرق المحلي أحياناً، فإنه يجردها من الشروط المادية بحيث تتحول إلى كيليشيهات فتاة مدللة تحاول أن تحظى بالندية على طاولة المواعدة في مقهى من مقاهي الطبقات العليا.

في إطار تغييب المادي، يتحول خطاب الاستشراق المحلي بالضرورة إلى خطاب فوق سياسي، إذ يخلط بشكل متكرر بين الأحكام الأخلاقية المطلقة على الفاعلين السياسيين، والفعل السياسي نفسه المحكوم بطبيعته بأطر استراتيجية وتكتيكية تؤطر الصراع العيني، فالمستشرق المحلي يفضل دور القاضي في محكمة التاريخ التجريدية، بينما يزعجه الانغماس السياسي في أي صراع عيني، اللهم إلا إذا كان هذا الانغماس هو تبرير الاستبداد التنويري أو الاستعمار، لأن من المعروف أن الولايات المتحدة وإسرائيل مهما ارتكبا فهما كيانات ديمقراطية تأسست على الهستدروت (يردد كثير من المثقفين العرب تلك المقولة التي تغفل أن هذا الدور الاجتماعي التاريخي للهستدروت كان عرضياً بالنسبة لجوهر المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي الذي تجاوز تلك الجوانب الاشتراكية تماماً منذ منتصف السبعينيات على أقل تقدير).

لا مجال هنا للسياسة التي تتطلب حداً أدنى من التورط العضوي مع أطراف لا تتماهى معها بالضرورة، فمن شأن هذا التورط أن يلوث بالضرورة الموقع الوعظي التنويري التجريدي الذي يحتفظ به المستشرق المحلي لنفسه. ولذلك فإن المستشرق المحلي يجيد نقد وتفنيد و«سلخ» أي خيارات للمقاومة أو الفعل السياسي، لكنه غير مستعد إطلاقاً للتفكير في أي خيارات أخرى لأنه غير معني بهذا.

يرفض المستشرق المحلي أيضاً الاستبداد العروبي/ الإسلاموي متجسداً في النموذج الإيراني وحزب الله والنظام الأسدي والناصرية وحماس والإخوان المسلمين (هكذا يوضع هؤلاء جميعاً بما بينهم من تناقضات في السجل نفسه، فالخطاب التجريدي لا يعبأ بتعقيد الواقع، إذ يحل محله موضوعه المتخيل: العقل العربي الإسلامي)، لكنه لا يجد غضاضة في المقابل في تفهم الاستبداد طالما لم يكن عروبياً ولا إسلامياً، فهو استبداد تنويري مشروع يمثل حصناً أخيراً في مواجهة مد إسلاموي عروبي يشرّع لمواجهته أي شيء، حتى ولو كان هذا الشيء هو إسرائيل المتحضرة أو الجيش الأمريكي المتنور (يبدو ما نقول مبالغة حتى يتذكر القارئ أن كاتباً أشاد بتحسن الحالة الإنسانية لقطاع غزة بعد أن تم تعيين حاكم عسكري إسرائيلي محل سلطة حماس، ولا عزاء لأكثر من مئة ألف ضحية قتلهم حاكمه العسكري بدم بارد، وعلينا أن نذكر أيضاً عشرات الأقلام التي هللت للغزو الأمريكي الذي سيرفع العراق من تحت الصفر الصدّامي إلى الصفر الاستعماري، فإذا به يعيد العراق إلى ما دون الصفر القروسطي، حيث حرب الجميع ضد الجميع تقودها الميليشيات الطائفية).

لا يخبرنا المستشرق المحلي بالمبررات العقلانية لتفضيله ذلك الاستبداد التنويري الذي يمارس عنفاً دموياً لا يقل عن العنف الدموي الذي يرعاه مستبدوه ومستعمروه المفضلون، فأبو غريب وجلبوع والخيام والأنصار والطرفية وطرة كلها سجون لا تلفت أنظار المستشرق المحلي، إذ لا يديرها عروبيون إسلامويون، كما أن آلاف الضحايا في اليمن والسودان لا يؤشرون بالنسبة للمستشرق المحلي إلى فاعل إقليمي لاعروبي لاإسلاموي يموّل هذا الصراع، طالما أن هذا الفاعل الإقليمي مستعد وجاهز لتمويل الأعمال التنويرية للمستشرق المحلي.

علينا إذن أن نكون واضحين في نقاشاتنا مع مستشرقينا المحليين، فهو لا يمثل أكثر من مرآة تعكس كل ما ينتقده لتقدم منه صورة أكثر تحللاً وكلبية، فالأمر لا يتعلق بنقد حماس بقدر ما يتعلق بالدفاع عن إسرائيل، ولا يتعلق بنقد الأيديولوجية العروبية الإسلاموية (التي يرى الكاتب أنها تستحق النقد تماماً) بقدر ما يتعلق بالدفاع عن الإمبريالية الجديدة وأتباعها المحليين، ولا يتعلق بتشوه الشرط المادي عند المؤدلجين، بقدر ما يتعلق بالحاجة إلى تغييب المادي وإلغاء السياسي من النقاش العام، وهو ما يمهد لخضوع هذا النقاش لهيمنة الرؤى الإمبريالية والاستشراقية سواء في نسخها الغربية أو المحلية.