نَصَبَتْ وزارة الخارجية اللبنانية داخل إحدى قاعاتها شاشة عملاقة مقسّمة إلى شاشات صغيرة تنقل كلٌّ منها مباشرةً عملية اقتراع المغتربين اللبنانيين في مختلف مدن العالم. جلس الوزير أمامها بملامح فخر ظاهرة، عُقدت المؤتمرات الصحافية عندها وعدسات المصوّرين متجّهة إليها فقط. إنجازٌ إلكتروني تباهت به الحكومة خدمةً “للشفافية” والديموقراطية، وتوقّف الإعلام اللبناني عند الأمر كتفصيلٍ “حضاري” يُحتفى به.
استطاعت الحكومة هذه المرّة إذاً تأمين تقنيات إلكترونية متطوّرة ومكلفة لنقل حدث الانتخابات العظيم، لكن لم يستطع أي مسؤول أو جهاز أو وزارة تأمين أعمدة إنارة لاستكمال البحث عن ناجين في الليالي الأولى من انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020 فتوقّفت عمليات الإنقاذ مع حلول الظلام. ولم يبذل أحد منهم أي جهد، في الأسابيع الماضية، من أجل تأمين ما يلزم لإنقاذ مهاجرين على أحد مراكب الموت شمالاً، فغرقوا وماتوا في العتمة في حادثة ليست الأولى من نوعها…
نعيش منذ زمن في لادولة اسمها على الورق “الجمهورية اللبنانية”. على الأرض، نحيا في مجتمعات متشرذمة مقسّمة طائفياً يجمعها غياب الدولة على كافة المستويات. دمّرت الحرب الأهلية (1975- 1990) هيكلية الدولة ومؤسساتها، وبعد انتهاء المعارك أمسَكَ الاحتلال السوري بالخدمات والأمن والسياسة، فلم تَقُم مؤسسات الدولة من تحت الركام. بالعكس، حرص النظام السوري على إبقائها مشلولةً تماماً. بعد الانسحاب السوري من لبنان عام 2005، جاء رأس المال والنموذج الاقتصادي السياسي الذي يعتاش على غياب الدولة ويسعى إلى استغلالها لتحقيق مصالحه بهدف مراكمة الأرباح الخاصة وزيادة النفوذ المناطقي – الطائفي.
انهارت العملة، أعلنت “الدولة” إفلاسها، نهبت المصارف أموال صغار مودعيها، الخدمات باتت شبه معدومة، أزمات في الخبز والدواء والطاقة والعمل والمعيشة.. فجأة بتنا مواطنين في دولة منهارة ..
هكذا، لم نعرف، نحن الأجيال التي ولدت قبيل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، معنى وجود “دولة” في لبنان. أُوكلت كافّة الخدمات العامّة إلى مجموعة مافيات من أفراد أو شركات خاصة كلّ منها مدعوم من جهة سياسية نافذة في الحكم، تبادلوا المصالح وتقاسموا القطاعات الحيوية وأرباحها. تحكّم هؤلاء بشكل تلك القطاعات وبنوعية الخدمات وبالتالي بتفاصيل حياة ملايين المواطنين، حاجات عيشنا كلّها بيد عصابة. مافيات الخبز، الدواء والطبابة والاستشفاء، الكهرباء والطاقة، التعليم، السكن… لا وجود للدولة في أيٍّ من تلك القطاعات، سُلّمت رقابنا لكارتيلات بنكهة مافيوية نهبت أموالنا والأموال التي كان يُفترض أن تذهب لبناء “دولة” ما بعد الحرب. راكم أصحاب تلك الكارتيلات وداعموهم من السياسيين من كلّ الأطراف الثروات وكرّسوا نفوذهم على امتداد الوطن، فخضعنا للأمر لأكثر من 30 سنة… وما زال الحال على ما هو عليه وأسوأ.
جاءت الأزمة الاقتصادية المعيشية الأخيرة (بدأت تتفاقم في الـ 2019) فوضعت التقارير المالية الدولية أرقاماً وخسائر نقدية على مكوّنٍ غير موجود فعلياً، على كيان مبهم هو الدولة اللبنانية. فجأة بات هناك دولة، ومفلسة. دولة لم تفعل شيئاً طوال 30 عاماً غير الاستدانة لتزيد من أرباح الكارتيلات والحكّام. فجأة أيضاً بتنا مواطنين في دولة، مواطنين في دولة منهارة لنا دور محدّد، وهو تحمّل النتائج، أي دفع ثمن الخسائر الضخمة. انهارت العملة، أعلنت “الدولة” إفلاسها، نهبت المصارف أموال صغار مودعيها، خدمات الكارتيلات باتت شبه معدومة، أزمات في الخبز والدواء والطاقة والعمل والمعيشة…
أحد الشعارات الإنتخابية الحالية. تصوير: رحيل دندش
التهذيب ينتصر للسلطة
لكن لا بأس، فإن رصد حركة المقترعين ستُنقل مباشرة على شاشة عملاقة ووزير الداخلية وعَدَ حرفياً بانتخابات “بتجنّن”، لمَ لا ننظر إلى النصف الممتلئ من الكارثة؟ إلى “الصورة الحضارية” التي يسعى الجميع إلى إظهارها من وسط الخراب والخراء؟ انتخابات منظّمة، مكلفة، نظيفة، ديموقراطية، مشمسة، تصون الحرّيات في بلد الجثث المتبخّرة بالأمونيوم والمخنوقة غرقاً من اليأس كل يوم.
هو داء “الصورة الحضارية” والتهذيب في المكان والزمان الخطأ. لا أدري ما سرّه، يلزمنا دراسة اجتماعية – سيكولوجية جدّية لمعرفة أسبابه وتحليله. “لا تقطعوا الطرقات احتجاجاً فهذا تصرّف غير حضاري! لا تكسروا واجهات المصارف، لا تعتدوا على مواكب المسؤولين، لا تزعجوهم في الأماكن العامة، لا تشتموا…” قال لنا أحزاب السلطة ومناصروها، كما كرّر القول عدد كبير من المتظاهرين المعارضين أيضاً(!). هذا “ليس من شِيمنا، هذه ليست أخلاقنا” تتردّد العبارة على لسان الموالين والمعارضين في بلدٍ لم يتوقّف فيه الاقتتال الأهلي العنيف منذ نشأته حتى اليوم!
قتَلَ التهذيب الاحتجاجات في تشرين الأول 2019، وحوّل الغضبَ إلى حلقات دبكةٍ وجلسات يوغا مفتوحة وورودٍ في فوهات بنادق القوى الأمنية، في وقت كان القتلى يسقطون في صفوف المحتجّين وآخرون تُقتلع عيونهم برصاص البنادق وآخرون يُسجنون. انتصر التهذيب للسلطة في عزّ هبّة شعبية طال انتظارها وها هو يأتي الآن مطويّاً في أغلفة مختومة داخل صناديق. نقترع وسط الخراب، نقفز فوق جثثٍ كثيرة حيّة وميتة وفوق جثث اخرى آتية في الطريق لكي نمارس حقّاً خادعاً بالديموقراطية ولنُشهر “صورة حضارية” خبيثة تافهة.
لا أدري فعلياً من أين يجب أن نبدأ في لبنان، تنقصنا أسسٌ كثيرةٌ لننتج حراكاً منظّماً يحقق أهدافاً منطقية. كيف نفعل ذلك وسط أزمة معيشية ضاغطة؟ وسط انقسامات طائفية ومذهبية دموية؟ وسط مجتمع كتلته الشابّة مهاجرة أو في سعي دائم إلى الهروب؟
إلى جانب الشاشة العملاقة، تحتفي السلطة في لبنان بخوضها دورة انتخابية جديدة من تنظيمها وبمباركتها وبرعاية قانون وضعته ليضمن استمراريتها في الحكم. هذه الدورة بالذات لها رمزية خاصة، إذ إنها أول انتخابات نيابية تجري بعد انتفاضة تشرين/أكتوبر 2019، وهي أيضاً تأتي في ظل أزمة اقتصادية معيشية كارثية. لكن هذين الأمرين انقلبا لصالح السلطة بشكل فجٍّ قد يجد له البعض تبريرات تاريخية – اجتماعية – واقعية. رغم ذلك، فإن فكرة أن تنجح المنظومة المسؤولة عن الأزمة الاقتصادية المعيشية الحادّة بإعادة إنتاج نفسها مستغلّة الانهيار لصالحها لا العكس، لهو أمر محبط، كئيب، ظالم، لا يطاق. نتائج التصويت ستؤمّن للأحزاب الحاكمة شرعية جديدة وحصانة ومزيداً من الجبروت، الكلّ يعرف ذلك حتى المجموعات المعارضة المشاركة في الانتخابات.
ما جدوى الانتخابات إذاً في بلد متهالك كلبنان؟ لماذا نتمسّك بعملية الاقتراع في نموذج اللادولة هذا؟ كيف نهادن السلطة المسؤولة عن قتلنا ونلعب لعبتها الديموقراطية الفظّة فنعطيها الحقّ والإمكانية في أن تحمي نفسها بهذه السهولة؟ لماذا لم نلجأ إلى الطرق الأكثر صدقاً مع غضبنا والأكثر تعبيراً عن الواقع؟ سلطةٌ عنّفتنا بكل الطرق ونهبتنا حتى آخر قرش وهجّرتنا وتساوم كل يوم على حياتنا من دون أن يرفّ لها جفن، لِمَ لا نحاول “قمعها”؟ لِمَ ما زالت هنا بكامل أذرعها ونفوذها تدير عملية الاقتراع وتترشّح وتفوز؟ ما الذي يجب فعله أو ما الذي كان يجب فعله؟ لا أملك جواباً واضحاً مسالماً وصالحاً للنشر.
لكن التغيير، خصوصاً في لبنان، لن يأتي بالانتخابات. التغيير لن يأتي طالما أنّ المعارضين للسلطة هم ضيوف عندها لا أصحاب الأرض والقرار. في البلدان المنهارة بسبب أزمات أو حروب، يلجأ عادةً تحالف الرأسمالية والحكم إلى الانتخابات ليقول مزهوّاً: ها هي الحرب انتهت بمظهرٍ ديموقراطي سلميّ ناصع، والأزمة أهلكت الشعب تماماً، فلم تخلق وحوشاً غير مُسيطرٍ عليها، بل حوّلته إلى مقترعين حضاريين يجددون الشرعية لنا بهدوء.
ما العمل إذاً؟ انتفاضات متجددة ربما؟ عصيان مدني شامل؟ تنظيم ذاتي وتثقيف سياسي وتوعية اجتماعية مكثّفة؟ لا أدري فعلياً من أين يجب أن نبدأ في لبنان، تنقصنا أسسٌ كثيرةٌ لننتج حراكاً منظّماً يحقق أهدافاً منطقية. كيف نفعل ذلك وسط أزمة معيشية ضاغطة؟ وسط انقسامات طائفية ومذهبية دموية؟ وسط مجتمع كتلته الشابّة مهاجرة أو في سعي دائم إلى الهروب.
المصدر: Mary Crandall . تحت رخصة المشاع الإبداعي
إنتخابات ولد ولد الولد
منذ خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 وتراجع نفوذ النظام السوري داخل البلد نسبياً، تقاسمت الأحزاب التقليدية الكبرى وهي أحزاب طائفية، المقاعد النيابية والوزارية المفصّلة على قياسها: مقاعد تتوزّع على المناطق حسب الطوائف ثم تتجزّأ حسب المذاهب داخل كلّ طائفة وفي كلّ دائرة انتخابية ولكلّ حقيبة وزارية. توزيعٌ أرضى القوى الطائفية وزعماء الحرب وأصحاب رؤوس الأموال، فلم يسعَ أحد جدّياً إلى تغيير التركيبة.
أمسكت عائلات إقطاعية/ طائفية كبيرة بمعظم المقاعد في المناطق وبدأت تشكّل اللوائح بنفسها، وتطرح مرشّحيها وتقرر من سيصل إلى الحكم من عدمه، لهدف واحد هو الحفاظ على وجودها في الحكم وزيادة المغانم والنفوذ. لذلك، تشهد الدورات الانتخابية ترشّح أبناء العائلات الحاكمة تلك وفوزهم كلّ مرّة. الدورة الحالية، الآتية على وقع انتفاضة 2019، تشهد للمفارقة عدداً كبيراً من أبناء وأحفاد زعماء سابقين وتكريس سوريالي غير مسبوق للتوريث السياسي في كافة الدوائر الانتخابية دون استثناء.
أحد أبرز وجوه التوريث، مرشّح اسمه طوني سليمان طوني سليمان فرنجية وعمره 35 عاماً. تعود بداية رحلتنا مع عائلة هذا المرشّح إلى عام 1932 حين انتُخب أحد أفراد عائلة فرنجية ويدعى حميد، نائباً في البرلمان، وأعيد انتخابه لـ 6 دورات فبقي نائباً عن المنطقة لحوالي 30 سنة متواصلة. خلال هذه الفترة شغل أيضاً مناصب وزارية لمدّة عشر سنوات. خَلَفَ حميد في البرلمان شقيقه، ويدعى سليمان فرنجية، فأصبح نائباً عام 1960 لدورتين متتاليتين قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية عام 1970 حتى عام 1976.
ورث ابنه طوني مقعده النيابي عام 1970 وبقي فيه سنتين، ثم عُيّن وزيراً في عدّة حكومات قبل أن يُغتال هو وزوجته وابنته خلال الحرب الأهلية عام 1978. بعد اغتياله، ورث ابنه سليمان مقعده البرلماني مع انتهاء الحرب الأهلية عام 1991 (وكان عمره آنذاك 21 سنة) ثم أعيد انتخابه في أربع دورات، وشغل خلال هذه الفترة مناصب وزارية مختلفة أيضاً. في الدورة الوحيدة التي لم يُنتخب فيها سليمان عام 2005، فاز في مقعده ابن شقيق جدّه حميد (راجع بداية السلسة أعلاه) ويدعى سمير فرنجية وذلك لدورة واحدة قبل أن يُعاد انتخاب سليمان عام 2009. ورّث سليمان مقعده البرلماني لابنه طوني في انتخابات عام 2018 وعاد طوني وترشّح في الانتخابات الحالية.
مكّن غيابُ الدولة أصحابَ النفوذ كلٌّ في منطقته، من أن يلعب لعبة الواجبات والأمن والخدمات مباشرةً مع ناخبيه، ومع الفرز الطائفي المناطقي للمجتمع أصبح هذا الشكل أشبه بعلاقة زعيم القبيلة بأتباعه ..
حاولتُ مرّة أن أناقش والد طوني، حول مساوئ توريث الحكم فأجابني: “لكن كيف يأتي الوريث إلى الحكم؟ بالانتخابات. الناس تختاره. الناس هنّي بدّهن ياه. ما فيه حدا يعمل شي!” فعلاً، بلعتُ صدمتي، وتراجعتُ عن إكمال فكرة كيف أن الناس ليسوا أحراراً في اختيارهم هذا، وأن هناك عوامل غير طبيعية تدفعهم إلى انتخاب الوريث، لأن العائلات السياسية جعلت حياة المواطنين مرتبطة ببقائها في الحكم، فهي الراعية وهي “الدولة”.
يمتدّ نموذج العائلات الحاكمة إلى كافة المناطق اللبنانية. ومن أبرز العائلات ذات التاريخ التوريثي الطويل آل جنبلاط، ارسلان، الجميّل، المرّ، كرامي وغيرها. وفي كلّ من تلك العائلات قصّة تشبه قصّة توريث آل فرنجية مع اغتيالات ومجيء الإبن وتوريث ابن الابن وهكذا… أما أحدث تجارب التوريث السياسي في لبنان فكانت مع رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري الذي بدأ في الحكم عام 1992، وبعد اغتياله عام 2005 ورث ابنه سعد الحريري رئاسة الوزراء بين عامي 2009 و2019.
مكّن غياب الدولة بنفوذها ومؤسساتها أصحاب النفوذ كلّاً في منطقته، من أن يلعب لعبة الواجبات والأمن والخدمات مباشرة مع ناخبيه، ومع الفرز الطائفي المناطقي للمجتمع أصبح هذا الشكل أشبه بعلاقة زعيم القبيلة بأتباعه. كيف تبدو “الصورة الحضارية” من هذه الزاوية؟
يعود حكم العائلات في لبنان إلى تاريخ نشأته، إذ بُني على تبادل المصالح والسلطة بين العائلات الإقطاعية الكبرى والاستعمار، لكن كيف يمكننا أن نتقبّل استمرار هذه العلاقة بعد 100 عام على نشوء دولة لبنان رسمياً؟
المصدر: Paul Keller . تحت رخصة المشاع الإبداعي
فزّاعة “الطائفة في خطر”
اللعب على الغرائز الطائفية هو اللعبة المفضّلة عند الأحزاب في كل موسم انتخابي. الفزّاعة الثابتة في الخطابات الانتخابية تقول إن كلّ طائفة مهدّدة وجودياً من قبل الطائفة الأخرى ويجب أن يدافع أهلها عن وجودهم (أي عن حصتهم في الحكم). وفي هذه الدورة كان على الأحزاب التقليدية الرئيسية التي تشكّل المنظومة الحاكمة منذ سنوات أي (التيار الوطني الحرّ، القوّات اللبنانية، الكتائب، تيار المستقبل، حزب الله، حركة أمل، الحزب الاشتراكي) أن تضيف بعض التغييرات على خطابها لمواكبة غضب الشارع بعد انتفاضة تشرين 2019 وكمحاولةٍ لامتصاص تداعيات الأزمة المعيشية.
فلجأ كلّ حزب منها خطابياً إلى الدفاع عن نفسه وعن أداء مرشّحيه (الكارثي) في الحكم، وتنصّل من مسؤولياته واتّهم الأحزاب الآخرى بالفساد والتسبب بالانهيار وعرقلة مشاريعه الإنقاذية، حتى وصل الأمر إلى اتهام أحد الأحزاب الحاكمة (التيار الوطني الحرّ) حزباً آخر (حركة أمل) بالفساد والوقوف في وجه الإصلاح وهو متحالف معه انتخابياً في نفس الوقت! قمّة الوقاحة ظهرت في اعتماد بعض تلك الأحزاب المشاركة في السلطة منذ أكثر من عشرين سنة شعارات تعِد بالتغيير.
ركّزت الحملات الدعائية وشعارات المجموعات المعارضة على المستقبل وعلى فكرة “العبور إلى الدولة” .. أي أنهم لا يعدوننا بأي شيء الآن، ففي النهاية سيكونون أقلّية وسط الأحزاب التقليدية الحاكمة، وفعالية دورهم في البرلمان غير مضمونة حتى في حال فوزهم ..
وحده “حزب الله”، المشارك في السلطة وفي البرلمان تحديداً منذ عام 1992، لم يطرح شعاراً تغييرياً، بل ركّز كما فعل في الدورة السابقة، على أن اللبنانيين عامة وأهل الجنوب خاصة مدينون له بتحرير الأرض من الاحتلال الاسرائيلي، وهذا الإنجاز يكفي لكي ينتخبه الناس من باب الواجب الأخلاقي والدفاع عن وجوده كحامي الأرض والعرض. هذا الحزب كان سبّاقاً بإلصاق تهم “العمالة” و”تنفيذ أجندات خارجية” على المتظاهرين عام 2019، وهو خطاب تبنّته كافة أحزاب السلطة من بعده لترهيب مناصريهم وتحشيدهم ضد المنتفضين.
شكّلت هذه الدورة أيضاً، في توقيتها وفي ظلّ أزمة معيشية كبرى، فرصة كبيرة للأحزاب والمتموّلين من كافة الأطراف لتقديم رشى انتخابية على شكل أموال ومواد غذائية تحت عنوان “معونات لأهلنا”، وخدمات اجتماعية بسيطة في القرى والبلدات كتأمين أدوية باتت مقطوعة، أو توفير مادتي البنزين والمازوت النادرتين بسعر مخفّض، أو تسديد أقساط مدرسية رمزية لم يعد الأهالي قادرون على دفعها، أو تسديد فواتير الكهرباء أو تزويد القرى بمولّدات للطاقة… كما تفرض تلك الأحزاب ضغوطاً كبيرة على المواطنين في مناطق نفوذهم لضمان التصويت لهم، غير آبهين بالضغوطات التي يرزح تحتها أصلاً هؤلاء.
إلى جانب الأحزاب الطائفية الكبرى، تترشّح بعض المجموعات المعارضة في عدّة مناطق، وهي مجموعات تختلف في الخط والأهداف والرؤية السياسية، تتميز فقط بكونها خارج الأحزاب التقليدية ومعظمها شارك في انتفاضة تشرين 2019. القليل منها يحمل مشاريع واضحة، والجميع يعد بالعمل للعبور إلى الدولة (وهذه عبارة نسمعها منذ أكثر من عشرين سنة بالمناسبة). لذا، ركّزت الحملات الدعائية وشعارات تلك المجموعات على المستقبل وعلى فكرة “العبور”، “نحو المواطنة” “نحو الدولة”… أي أنهم لا يعدوننا بأي شيء الآن، ففي النهاية سيكونون أقلّية وسط الأحزاب التقليدية الحاكمة، وفعالية دورهم في البرلمان غير مضمونة أبداً حتى في حال فوزهم. يعوّل هؤلاء على إحداث خرق ولو بسيط في المشهد العام المعتاد وعلى تسجيل خطوة أولى في مسار هذا “العبور” الطويل.
هل نملك ترف خوض محاولة فاشلة مسبقاً؟ الجواب الأكيد الوحيد: كلا.
المصدر: dockedship . تحت رخصة المشاع الإبداعي