fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

عن أمي .. وبلاد الجدّ- المعبود آمون 

شوارع المدينة تتغيّر وتغيِّر الناس؟ تتغيرُ عاداتهم ومعتقداتهم وطقوسهم الشعبية؟ في مدن الصعيد وبعض قُراه هناك أعياد ميلاد للأطفال والأزواج. حفلات زفاف فيها بيانو ومقطوعات غربية
ــــــــ المـكـانــــــــ ماضي مستمر
11 يوليو 2024

هذه كتابة سِكْسيّة تُغازل الذكريات وتتحين بصّة قبول. هذه كتابة غرامية تأخذُ الأمكنة بالباط. كتابة حقيقية وفانتازية وهشّة وجارحة وناعمة ومؤلمة وهجّامة وذاتية وفولكلورية. هذه كتابة منفلتة عاطفيًا لأنها عن أمي وبلاد الجدّ – المعبود آمون. الدليل؟ صوت الكيبورد خفيض كطفل جنوبي يضحك لأمواج النيل. 

هذه كتابة على مرأى من أمي والنخلات اللاتي تطرح البلح الأحمر المجيد. هذه اعترافات على مرأى من الجد – الإله المعبود آمون الذي لا يفعل شيئًا سوى عتابي لأنني هاجرتُ صبياً إلى القاهرة فارتكبت بذلك خطيئة وحلّ علىّ التعب والمرمطة في القاهرة- المهجر. مهجر يا جدّ؟  إنها خطوتان. وخُذ بالك: عاصمة مصر. كلامي هواء. لا بأس. أنا رضوان آدم. أنا ريان آدم. أنا آدم الذي غيرته القاهرة فلم يجرؤ أن لا يكون صعيدياً ولم يجرؤ أن يكون قاهرياً مئة بالمئة.  

بالنسبة لأمي، كان قرار الاستقرار المبكر جداً في القاهرة جريمة، فالقاهرة تخطف الأبناء الأحباء وتغرّبهم وتزّعلهم وتخفيهم في قُلل فخارية مسحورة. لا أدري لماذا كانت تكره أمي القاهرة والآن أدري. أسطورة آدم والخروج من الجنة جارحة لكل المُهاجرين يا أمي. 

شعرتُ أنني أكلمها حقاً وأنا أقطعُ تذكرة قطار النوم من محطة سكك حديد محافظة الجيزة ( القاهرة الكُبرى). قادم إليكِ فحضري كثيراً من طول البال. ويا ستّي اطمئني. لم أعد عاطفياً يحبُ سماع قصص الركاب والأصدقاء العابرين. صرتُ مدمنا على العزلة حتى في طريق السفر. لعنة الجدّ آمون شرسة وشغّالة. 

دائمًا ما أُحمّل كتباً أقرأها على الموبايل في طريق السفر إلى الصعيد. وأكون سخيفًا في دقّة الاختيار حتّى أنني أنزف عرقاً وأنا أتأكد من وجودها في ذاكرة الموبايل. ومع كل هذا الهبل الفارغ، وكعشرات المرات التي سبقتها لا اقرأ حاجة لأن الأحاديث مع شريك غرفة قطار النوم تدمّر النوم والتركيز وتُفقد التذكرة أهم ميزاتها: قدرتك على التمدد والنوم لعشر ساعات في جو التكييف المُريح. عشر ساعات؟ المسافة بين القاهرة ومسقط رأسي في صعيد مصر تعادل المسافة بين القاهرة وكندا بالطائرة البطيئة. يا لطيف الألطاف أرسل لي شريكًا أخرس! 

لم أتوقع في حياتي أن أُصادف هارباً سودانياً من الحرب في عربة قطارات النوم المتوجهة إلى الصعيد. جمال الحمد عائد من القاهرة التي تغيرت إلى أسوان مع عياله وأمهم الذين يسمعوننا تقريباً من الغرفة المجاورة. الصعايدة طيّبين على الآخر يا زول والله. ما يقوله “جمال” مُشجّع على بدء حوار جنوبي – جنوبي مُفعم بالتفاصيل المُدهشة عن الحرب وفروقات الناس في السودان والقاهرة والصعيد. لكن يجب أن لا أقع في هذا الفخ النيلي. عايز أنام يا زول.

أخبرته أنني لم أنم منذ ثلاثة أعوام. ضحك ودّ النيل وتركني في حالي. سوف أنام نوماً عميقاً حتّى يوقظني مُشرف العربة الذي لهف خمسين جنيهاً. فقدتُ الثقة  كثيراً في العشرين جنيهاً. فاتتني محطة قنا مرتين رغم أن مُشرفي العربة كانا يحلفان بالأموات والأحياء أن يوقظاني قبل المحطة بنصف ساعة، وقد حنثا!. سامحني يا زول لأننا لم نُدردش لكن بدا لي أنك أحسست أن كلينا رحلته طويلة وصعبة في القطار.

صعبة نفسياً يا جماعة. فأنت عندما تعيش طويلاً في القاهرة وتتآلف مع لهجتها وزحامها وناسها، وخيباتها الكبيرة، وانتصاراتها الصغيرة، وتوهان الموقع الطبقي، وسكاكين الرأسمالية، والوحدة المُزمنة، لا تصبح في النهاية قاهرياً مئة بالمئة. وبالمناسبة لا تُصبح صعيدياً مئة بالمئة.

هجرتي، جريمتي

لهجتي الصعيدية تلخبطت باللهجة القاهرية واعتيادي حياة العاصمة ينفّرني من البقاء في قريتي أكثر من يومين. يُسائلك الناس عن كل صغيرة وكبيرة تحدث في الكوكب ويجب أن تكون لديك إجابات جاهزة ومليحة لكل شيء. أنت صحفي وكاتب وتعرف دبّة النملة وتفكّ السحر ووراء نظارتك الطبية حلول لكل مشاكل الدنيا. طبعاً أنا أسكت ولا أدافع عن نفسي. أنا غريب وليس من حق الغريب الذي هجر الصعيد أن يسأل. أنت متهم طليق دائماً. هجرتي جريمة في حق مكان الميلاد؟ خيانة عُظمى يا حبيبي.  

كانت فضيحة مدوّية عندما أُخطيء في نُطق كلمة كنت أعرفها زمان. أقصد عناصر فولكلورية مرتبط بالبيئة ومفرداتها. كانت أمي تطلب مني أن أستقيم في لساني. وهل أُديرُ وكر إجرام؟ لم ترد علىّ وما زاد الطين بلّة أنها سمعتني وأنا أكلّم صديقتي القاهرية بلهجتها وبصوت عالٍ. عاتبتني وتركت البيت كي تحكي لجدتي عن الواد المفضوح الذي عوج لسانه في التليفون مع البتّ المصرية التي لا تخجل من إشغال شاب يزور أمه مرّة في السنة. مكالمة قاهرية في نُص الليل؟ 

سمعتني أمي أقول لصديقتي: “يا روحي” و”يا قلبي” والكلام الفارغ الذي تعرفونه! رأيتُها تَفْنِسُ من كسر في باب غرفتي. ضحكتُ أنا. أمي ضحكت؟ ضحكت الغندورة عليها السلام وقالت: كنّها ( كأنها) عروسة مِش عَمْرانة (غير مناسبة للزواج). 

تحدثنا وتصافينا. نسيتُ كيف أقول “أنا مَعْطوب” بلهجتنا وقلت بدلا منها “أنا مريض جدًا” كما يقولُ أفندية القاهرة. نسيتُ معنى “زَنْقور” بلهجتنا وتعني “الركن” الجانبي. لم أقل لصديقتي القاهرية “عاملة كيَّ؟” أي “كيف حالك؟ بلهجتنا، وقلتُ بقلة أدب: “وحشتيني يا بتّ موت”. نسيت اسم “الزَقْلَة” التي هي الخيزرانة الصعيدية أو الشومة. ناولتني أمي الكوفيه التي اسمها “اللاسة” أو “الشَمْلَة”. اسمها اللاسة يا مَتْوور (تائه).

 نسيتُ “البُكْلة” وهي قوارير فخارية صغيرة لحفظ الماء. نسيتُ الــ “مِخْوَل” وهو مائدة بهائم البيت. نسيتُ مفردات لهجتي ( لغتي الشعبية) حتّى اغتاظت أمي. على العشاء استمر الــ (dialectical tension). قالت أمي: لماذا تقول يا ولدي: الأكل دوّت (هذا)؟ اسمه الوَكْل دِيتي (هذا). راقبتني في أكثر من كلمة أخرى ثم كانت الفضيحة العُظمى عندما طلبتُ منها المَعْلَئة ( الملعقة لكن بلهجة قاهرية تحول القاف همزة)، ولم أطلب المِعْلَقة ( القاف الصعيدية تشبه “ج” جوجل). ما لها حكاية الملعقة؟ زعلتْ أمي والحمد لله أنها لم تبك لأنها كانت صبية وعاطفية ومتهوّرة. سبّتْ البيت والوَكْلَ وبنات الغوازي القاهريات وطلبت مني أن أعْدِلَ رأسي وأختار الآن بين غفاليق (مصائب) القاهرة أو الأم.

صراع اللهجتين اغتال سلاسة لساني. لَعْثمَني كطفل أحمق يحاول تعلم النطق. موقف مأساوي جعلني غير قادر على القراءة السليمة لمخارج الحروف في إحدى القصص. ماذا أفعل؟. أتباع اللهجتين هنا؟. باظت القراءة، وشعرتُ بحرج بالغ لأن نصّي الأدائي في حفل التوقيع كان مهزوماً وساذجاً وتافهاً

ثنائية اللهجة أرهقتني وإن حللتُ الأمر بوحدانية الجنوب وأنا أكتب. الجنوب الذي تغير علىّ ولم نعد متفاهمَين مؤخراً. جفاء طويل دبرته القاهرة. لا يزال الونس يسكن لهجتي الجنوبية أما لهجتي القاهرية فستبقى إلى الأبد خالية من تهوّر أبناء وادي النيل.

الدكتور على عبد الواحد وافي يقول في كتابه “علم اللغة” الصادر عن مكتبة نهضة مصر ( 2004) في الصفحة 179: “تعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعاً في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألو جهداً في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات”. 

هجمات؟. يستكمل “وافي”:”أما محاربة عوامل الابتداع في داخل منطقتها فتتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم. وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوى الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية ويعظم نفوذها ويشتد بطشها بالمعتدين”.

ويشتد بطشها بالمعتدين؟ الجواب في نظرات أمي. خُضنا نقاشاً حامياً حول الصراع بين اللهجتين ولم نصل إلى نتيجة. كل ما يمكن أن أقوله بعد تأمل غير متماسك أن هناك ثمّة اتفاق سلام بارد بين اللهجة القاهرية ولهجات الصعيد الجوّاني ( قنا والأقصر وأسوان) فرغم أن اللهجة القاهرية هي اللهجة القومية (اللهجة المصرية الأولى) الأكثر جاذبية في المحيط العربي والإقليمي مقارنة باللهجة الصعيدية، كما هو الحال في لهجة أهل باريس في فرنسا واللهجة السكسونية في ألمانيا إلا أنّ اللهجة الصعيدية بتنويعاتها الصوتية لا تزال مُستبسلة في الدفاع عن نفسها في مواجهة المعتدين الغزاة أمثالي. 

حدّوتة اللهجة الصعيدية مُربكة دائماً بالنسبة لي. أتذكر بمرارة مُتعاظمة مُتبجحة ذاك الارتباك الشرير الذي انتابني في حفل توقيع مجموعتي القصصية الأولى “جبل الحلب” في القاهرة (2013). صراع اللهجتين اغتال سلاسة لساني. لَعْثمَني كطفل أحمق يحاول تعلم النطق. موقف مأساوي جعلني غير قادر على القراءة السليمة لمخارج الحروف في إحدى القصص. كان هناك حضور لا بأس به من الرفاق والرفيقات، وكان هناك حضور من بعض أبناء العائلة الذين جاءوا خصيصاً من القاهرة لحضور حفل التوقيع. ماذا أفعل؟. أتباع اللهجتين هنا؟. باظت القراءة، وشعرتُ بحرج بالغ لأن نصّي الأدائي في حفل التوقيع كان مهزوماً وساذجاً وتافهاً. هذه الواقعة أزعجتني سنوات وسنوات، وعطلتني عن الكتابة. كرهتُ الكتابة؟ كرهتُ الطعنة العاطفية التي لم أتوقعها من لساني. لساني الذي كان طفلاً رَهَواناً “حصان جامح” يقرأ القرآن وما وُجِدَ من أشباه كتب قبل كل العيال. هذه دردشة مُنفلتة لكنها بريئة. هل أعتذر الآن لحضور 2013؟ طبعًا أنا آسف يا جماعة. هل أعتذر لنفسي؟ طبعاً ولزاماً وعلاجاً لحالة زعل مستبدة كان لها أن تنتهي.  انتهت؟. آن لها أن تنتهي. 

وصلت محطة سكك حديد قنا. أخرجُ من القطار في السادسة صباحاً تقريباً لأن مواعيد تحرك قطارات النوم من القاهرة تكون في حدود الثامنة مساء. نجحت الخمسون جنيهاً. يا سلام على الدنيا. كانت الخمسون جنيهاً في الثمانينيات تزوِّج شاباً وتصرفُ عليه عامين متواليين. ليس مهمًا كل هذا، حلال عليه الفلوس لأنه صدق الوعد. 

في شارع السكة الحديد أتنسم هواءً نقياً وأشم الذكريات. أسمع أصوات الشعراء الشعبيين في مولد السيد القناوي الذي يبتعد عني مئة متر فقط. أضرب ببندقية البمب وأركب الأحصنة الخشبية وآكل ساندوتشات الكبدة المُسممة الجميلة وفي نهاية الليل أدخل السينما أو المسرح. كان زمان يا حلو!

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الديوان فيه إيلون ماسك

في شوارع قنا الجانبية في أيام المولد، أسمعُ الستّات الكبيرات يغنين ويضربن الطبل البلدي في الأفراح العائلية أو الاحتفالات الشعبية. أحفظُ الكثير من الأغنيات الشعبية لأنني تربيتُ عليها. أمهاتنا وجدّاتنا كنّ خزّانات للأغنية والحكاية الشعبية. يجري تناقلها من جيل إلى جيل. أما الآن فغالبية الأمهات في الصعيد يُدمن مشاهدة قناة “كراميش” مع أبنائهن ويلعبن مستويات متقدمة في “الكاندي كراش”.

شوارع المدينة تتغيّر وتغيِّر الناس؟ تتغيرُ عاداتهم ومعتقداتهم وطقوسهم الشعبية؟ في مدن الصعيد وبعض قُراه هناك أعياد ميلاد للأطفال والأزواج. حفلات زفاف فيها بيانو ومقطوعات غربية.

في الثقافة الشعبية هناك منظومة لكل إقليم فولكلوري فرعي. الثقافة الشعبية في الجنوب في معركة كبيرة مع ثقافة مدنية مستوردة. مقاهي البلاي ستيشن والمطاعم الأجنبية والمولات وأحدث الهواتف الذكية. دخل الجميع فقاقيع السوشيال ميديا؟ كلنا دخلنا.

كانت دواوين العائلات في قرى الصعيد مرآة تعكس حيوية الفولكلور. يتعود الطفل منّا على أحاديث الرجال عن الحقول والزراعة والقتال الأهلي القديم بين القرى، والعبر والأمثال، ويسمع من الجدّات الحبّوبات حكايات وحواديت مُدهشة. الآن أُغلقت الدواوين واستعمرتها دواوين إيلون ماسك والذكاء الاصطناعي، وضغوطات الحياة التي تُرقّص وتُركّض الناس بلا رحمة.

على ما أعي طبعاً. كانت فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات بداية انحسار الميكروفونات المُفرحة التي تأتي من بعيد وأنا جالس في ديوان العائلة فوق دكتي الخصوصية. لا أريدُ أن يتهمني أحد بأنني أُعمّم أو أُبالغ. أتحدثُ عن نفسي فقط، وأي تشابه بين ما أكتب والواقع هو محض الصدفة. إذا كان هذا يريحُ البعض. أما أنا فما كان يريحني هو أن الناس السمّيعة في الصعيد زمان كانت تعترف بالفنانين الشعبيين وتتبناهم، وتدعو فرقهم لأحياء ليالٍ موسيقية شعبية. فكان القاصي والداني، والذي يصعد إلى بلكونة بيته، يستمتع.

في ديوان العائلة لا أسمع ولو من بعيد بعيد شاعراً شعبياً في عُرس أو مناسبة أو ليلة للسمر مثلما كان الحال قبل عشرين عاماً. توارت الأغاني الشعبية التي كانت تُغني في دورة الحياة (من الميلاد والسبوع حتّى أغاني العديد). الأنواع الفنية في القِوالة الشعبية والفرق الشعبية توارت مع إتاحة كل أنواع الموسيقى في العالم داخل موبايل.

ليست هناك نصوص موسيقية وشعرية وأدائية، عليها العين، تمتّ بصلة للتراث الغنائي الجنوبي. لا يمكن أن تسمع الآن نسوة في حفل زفاف داخل القرية أغنية “يللي ع الترعة حوّد ع المالح”، أو “خَدْناها.. خَدْناها في الصيف الماضي، وأبوها مكنش راضي”. حتّى في مناسبات الموت انقرض العديدُ وأُستبدل بفلاشات عليها سور من القرآن مثلما هو الحال في جنازات القاهرة.

خرّبت المسحة الحداثية واجهة بيتنا. كان يضم صحناً كبيراً وتدخله الشمس من كل الاتجاهات بل وتفطرُ اللبن وتلعب معنا. كان حوائطه الملونة ذاكرة شعبية موثقة. رسوم الحج والكتابات الدينية والشعبية، والألوان النيلية البسيطة العميقة.. البيوت القديمة كانت دوائر وبراحات أوسع. الآن صار بيتنا مربعات ومستطيلات خانقة من الأسمنت والحديد المسلّح..

في رأيي، وقد أكون مخطئاً، من الصعب استدعاء فرقة شعبية تؤدي السيرة الهلالية إلا قليلا جداً. فرقة الشاعر الشعبي سيد الضوّي كانت آخر الفرق تقريباً في الصعيد الجوّاني وخفت صوتها بعد وفاته عام 2016. وقد كانت معظم حفلاتها في القاهرة أو بلدان عربية أو لأجل تسجيلات تلفزيونية. في رسالتي لنيل ماجستير فلسفة الفنون الشعبية عن موضوع “الشعراء الشعبيين في صعيد مصر:”سيد الضوّي – دراسة تطبيقية”، عانيتُ الأمرين في إيجاد إخباريين من خارج فرقته الموسيقية الشعبية. ذهاب ومرواح ومرواح وذهاب بين القاهرة ومركز قفط في محافظة قنا، ولا حياة لمن تنادى. أنت تبحثُ بأظافرك عن أجيال كانت تسمع السير الشعبية وتؤدي الموروث من رقصات شعبية. تعطلت الرسالة وضربني الكسل العظيم الخبيث.

بصراحة تضايقني، أستطيع أن أقول إن جيل Z الذي قابلته في زيارتي الأخيرة للصعيد، يسمع موسيقى مهرجانات خشنة وهجومية. أنا ضد الرقابة على أي عمل موسيقي ومن حق الناس أن تختار. كل ما يضايقني هو دّخْلة “فيجو الدخلاووووووووووي” في كل تراك مهرجانات. “فيجو الدخلاوي” أسطورة ونمبر ون. يا دخلاووووي يجب أن تعرف أن النشاز أكثر خطورة من غزو الهكسوس. النشاز يخلق بيئة معادية للفن والمنطق والحياة.

أنزلتُ حقيبتي عند أمي. وصلت مقابر العائلة في قريتي الصغيرة. سلمتُ على أمي وأخذتها بالباط. يجب أن أسلّم مفاتيح وحكايات الغياب. أسقى شجر المقبرة وأدخلُ في صدر أمي مجدداً وطويلاً. بعدها أعود إلى البيت ولا أملك الجرأة أن أدخل غرفة أمي في غيابها. أفعل هذا مع غرفة ابنتي سليمة التي تستكشف الآن بلد فاجنر وهيجل وشوبنهاور.

“أبو منّاع قِبلي” هو اسم قريتي. على ما كانت تحكي الجدّات عن الجدّات الأوليات سُميت القرية بهذا الاسم لأن أهلها كانوا الوحيدين الذين حاربوا الفرنسيين الحُمر الكفّار عام 1799 وهزموهم وأغرقوهم في النيل. حتّى النساء كانت تحمل البارودة والفئوس وأكياس التراب. كانوا حصناً بشرياً مانعاً لتقدم الفرنسيين إلى أسوان وهم يطاردون المماليك. في الحقيقة لا أثق كثيراً في هذه الرواية لأن كل قرية ومركز في الصعيد الجوّاني شارك في قتال الفرنسيين على مقربة من النيل.

أنا في البيت، لكن أين هو البيت من دون البراح؟ كان بيتنا معماراً فرعونياً قبل الاستسلام للبناء المُسلّح. كانت كل بيوت الصعيد الجوّاني أبواب خشبية واسعة وأفنية واسعة، وسقوف عالية ونوافذ عالية تصطاد الهواء – الطراوة. تُصَّفيه من طاقات المنخفضات الحارة التي تهب غالبًا من السودان أو ليبيا. الإضاءة موزعة بشكل طبيعي في كل أرجاء البيت. حوائط الطوب اللبن كانت عازلاً من برد الشتاء وطراوة في الصيف. أنا لا زلتُ في القاهرة؟

المسحة الحداثية خرّبت واجهة بيتنا. كان يضم صحناً كبيراً  وتدخله الشمس من كل الاتجاهات بل وتفطرُ اللبن وتلعب معنا. كان حوائطه الملونة ذاكرة شعبية موثقة. رسوم الحج والكتابات الدينية والشعبية، والألوان النيلية البسيطة العميقة. المشهد المعماري مشهد مهم يعكس كيف يعيش ويفكر الناس. البيوت القديمة كانت دوائر وبراحات أوسع. الآن صار بيتنا مربعات ومستطيلات خانقة من الأسمنت والحديد المسلّح. مسلّح؟. آه فعلاً مسلّح.

تغيرت المنظومة الاجتماعية في قريتي منذ تخلخل نمط الإنتاج القائم على الزراعة كأداة اكتفاء ذاتي. في بداية الثمانينيات تقريباً، هُجرت الأراضي الزراعية، ودُفع المصريون إلى هجرات عمل كثيفة للسعودية والعراق وبلدان الخليج.

في فترة مُبارك الممتدة، ومع بدء تطبيق سياسات التكيف الهيكلي (بداية التسعينيات تقريباً)، برزت حكاية تحديث الريف المصري، خصوصاً مع صدور قانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر ( قانون رقم 96 لسنة 1992) الذي بدأ تطبيقه بعد هذا التاريخ بخمس سنوات. عندها سُحبت الحيازات الزراعية للفلاح البسيط الذي يملك أكثر من فدان أرض. كل هذا دفع آلاف الأسر الحائرة والخائفة على المستقبل إلى تكثيف هجرات أبناءها.

بعد هذا التاريخ لم تعد العائلة كما كانت تسكن مع بعضها البعض في بيت واسع فيه غرف لكل أسرة في العائلة، وفيه مكان مخصص لحيوانات العائلة التي كانت تشاركنا الحياة. الآن، كل أسرة تستقل وتعيش وحدها. حتّى وقت قريب كان قرار أحد من الأشقاء داخل الأسرة بعزل نفسه عن باقي الأشقاء قراراً منبوذاً اجتماعياً وكريهاً. الآن صار طبيعياً ومقبولاً وضرورياً كي يركز كل واحد في حاله! الإسكان الذكي والبناء المعماري الحديث أصبح جزءً لا يتجزأ من المشهد المعماري في صعيد مصر. لا أقولُ إنني ضد هذا المشهد لأنه ليس متهماً. هو فقط يذكرني بمقولة أمي: “يلا كله بيتك بيتك“!

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

لنحتفل في ثلاثة أيام فقط

في الليل، شربتُ الشاي مع أحد أندادي الذين كانوا يدرسون معي في المدرسة الابتدائية. ملامحه تغيرت وأنا أيضاً. لا أعرف لماذا يُلاحظ الواحد منّا التقدم في العمر في ملامح الآخرين؟ هذه أنانية؟ . مللتُ سريعاً من الحديث عن قصب السكر والأهلي والزمالك والابن الذي سيتزوج في طلعة الربيع. لا أُريد أن أن أكون منفلتاً في مشاعري كلها. أصبحتُ انعزالياً جداً عندما أزور الصعيد. لا أحرص على لقاء أصدقائي القدامى. كل شيء تغير. صارت الغالبية موظفين وبقايا مزارعين أو مسافرين دائمًا إلى دول الخليج. مُراكمة الثروة ومستقبل العيال أهم طبعاً. لستُ مُنحازاً لهذا الرأي. وأيضاً لا أريدُ أن أُشوّه حكاية الأطفال الذين كانوا يبحثون عن الشمس وراء الجبل الشرقي ويُصممون على معرفة بيتها مهما بلغت حدّة المواجهة مع حراسها المخفيين.

على مرمى البصر فوق حاشية فرع النيل الصغير الذي يمر بقريتي، لا ألمح أطفالاً أو صبية يصطادون السمك أو يلعبون السيجة الخماسية والسباعية. لا تجد رقصاً بالتحطيب قبل غروب الشمس. لا تجد البنادق الطينية التي كنّا نصنعها من الطين وأكياس الأسمدة الزراعية. لا تجد صبياً يصنع ناياً من خشب البوص النيلي ويغني للأسماك. نادراً ما تجد لعبة شعبية صامدة. بفضل التكنولوجيا ومواقع التواصل؟ لا أعرف ولا أريد أن أعرف.

كل ما أعرفه أن قلبي يصعد ويهبط وأنا أكتب الآن عن الحواجز المُقبضة بيني وبين الصعيد الذي أحبه. أتذكر أن أمي كانت تزعل مني في سنواتها الأخيرة. أُجنّ عندما أمكث في الصعيد 3 أيام متتالية. من دون سبب واضح لها كان من حقها أن تسبّ القاهرة وتسبني بألطف الألفاظ ثم تعاقب نفسها لأنها ضايقت ابنها فتضحك ونحن نشرب الشاي العظيم المخلوط بالقرنفل.

كانت الوحيدة التي لا تعاملني كغريب أو ضيف عابر. كيف أشرح لأمي؟ كيف اشرح لكم؟ أشعر أحياناً بما شعر به مستشرق أوروبي مجهول، احتفى به الناس ثلاثة أيام وبعدها ملّ وعاد من حيث أتى. لم أسدّ أبداً فجوة الخروج من جنة آمون. يبدو أنني أضعف مما أتخيل.

الناس في الصعيد تُدمن الشاي لا القهوة على عكس أهل سيناء ومطروح وغالبية ناس القاهرة. في المقهى رأيت قصّات الشعر العصرية، وتحديد الذقن الذي ينتشر موضة هذه الأيام في كل العالم تقريباً. سمعتُ باهتمام بالغ الحديث الحامي عن ليفربول ويورجن كلوب والدوري السعودي، وإيلون ماسك المهووس، الذي غير تويتر إلى “x”. لا جرائد ولا مجلات ولا كتب تُقرأ. لم أُكمل القهوة بسبب الصياح الهائج بسبب فوز أحدهم في ماتش شطرنج. شطرنج؟. رحم الله سيجتَنا الجميلة.

في طريقي القريب جدًا من البيت، كنتُ قريبًا من موقف كدتُ أنسى كتابته في هذا الريبورتاج. أحد أبناء العمومة استدعاني للحكم في قضية غاية في الأهمية لكرامة العائلة. كرامة العائلة؟. خير إن شاء الله. البتّ عايزة تخش الجامعة وتفضحنا. لأول مرة أشعر بأن كل ما كتبناه وقلناه عن التحرّر والعدالة والمساواة لم يبتعد أكثر من دخان السجائر. هناك ثقافة شعبية تضع المحازير والجزاءات الأخلاقية ضد المرأة؟. بمقاومة أرهقتني، نجحت في إدخال الابنة العزيزة الجامعة. انتصار صغير.

تحدثتُ مع أمي عن رغبتي في التعافي من السفروعدتها أن أعود مرات قريبة طويلة كي أزورها وأعترفحدثتُها عن وحشة الأمكنة من دونهاحدثتها عن خوفي العالي من أن تكون زعلانة مني حتّى الآنبكيتُ بقدر ما استطعتدخلتُ في صدرها بقدر ما استطعتوبقدر ما استطعت أيضًا هربتُ إلى القاهرة ..

كل هذا لا يعني أنني لم ألاحظ فتيات قرويات كثيرات يدخلن الجامعة ويتخصصن في كليات عملية كالطب والهندسة. وهذا بالنسبة لي خطوة مُفرحة. يبدو أنه خلال سنوات قليلة لن يزعجني أحد أفراد العائلة وهو يحمل بندقية.

أفكرُ في لعنة الجدّ آمون. قررتُ أن أُغلق الهاتف وأنام. ففي صباح اليوم التالي سوف أتوجه إلى لقائه شخصيًا في معبد الأقصر. قررتُ أن أزور أقاربي القدماء في الأقصر ومنه أطلعُ على معبد دندرة قبل التفكير في حجز تذكرة العودة إلى القاهرة.

أنا الآن في معبد الأقصر الذي شُيد خصيصاً لعبادة آمون رع وزوجته موت وابنهما البار خونسو سنة 1400 قبل الميلاد. الأرباب الذين أُطلق عليهم “ثالوث طيبة”. هذا معبد مهيب شيده ملوك الأسرتين الثامنة عشر والتاسعة عشر، وهنا أضاف أمْنْحوتُب الثالث الأبنية المُلحقة بالمعبد، كما بنى الملك رمسيس الثاني الفناء المفتوح والصرح والمسلتين الطويلتين. لن أُفصح عما دار بيني وبين المعبود – الجدّ آمون رع لأن هذه مسألة عائلية خاصة، لكنه في المُجمل كان كريماً ولطيفاً.

بحلول الظهر كنتُ في حضرة المعبودة حتحور: ربة السماء، والرقص والموسيقى، والأمومة. المعبودة الفريدة التي تتعامد الشمس فوق معبدها في الموعد المضبوط. ما كل هذه الفخامة يا خالة حتحور؟ واجهة مهيبة بستة أعمدة وكل عمود عليه رأس حتحور؟ كطفل مُندهش، تُذهلني دائماً الأسقف الفلكية داخل المعبد. معبد دندرة قمة العمارة الفرعونية في بناء المعابد. إذا أردت أن تصل إلى السقف العلوي للمعبد فعليك أن تصعد سلالم تبدو كمواكب كهنوتية تُحمل فيها تماثيل للمعبودة حتحور. سراديب المعبد كانت قاعات شعبية للاحتفالات الشعبية في مصر القديمة. يا سلام على مصر الحلوة.

لم أُبرمج رحلتي للبقاء حتّى عيد الأضحى الأخير في الصعيد. عندما وصلتُ البيت جمعتُ عيال العائلة لإحياء طقس قديم كان يفعله أبي مع كل الأطفال. أوقفتُهم في طابور وأعطيتُ كل واحد عيدية. مثلما كنّا نفعل/ يُبحلقون في باقي الأيادي. من يجد عيديته أقل يشن الحرب العالمية الثانية. كانت مئة جنيه متساوية. ضحك ملائكة الطابور عندما عرفوا أنني أعطيتُ لنفسي عيدية.

زعلوا لأنني مُسافر في الغد. أخبرتهم بأنني مشغول في التحضير لحاجة مهمة خالص. لم يقتنعوا كما لم يقتنع إخوتي الذين يعاتبونني نيابة عن أمي على استعجال السفر وحيداً. عتاب أبكاني وأنا واقف بحقيبتي التافهة أمامها في مقبرة العائلة. زرتها في الليل. العيال يمكن أن يروني ويفضحون الدنيا فلا أقوى على مواجهة حججهم العاطفية العظيمة. تحدثتُ مع أمي عن رغبتي في التعافي من السفر. وعدتها أن أعود مرات قريبة طويلة كي أزورها وأعترف. حدثتُها عن وحشة الأمكنة من دونها. حدثتها عن خوفي العالي من أن تكون زعلانة مني حتّى الآن. بكيتُ بقدر ما استطعت. دخلتُ في صدرها بقدر ما استطعت. وبقدر ما استطعت أيضًا هربتُ إلى القاهرة. هربتُ في هذا الريبورتاج الذاتي من الصعيد إلى الصعيد الذي لا يفارقني. كلام من القلب؟. أحبك يا أمي. أحبك يا جدّ آمون.

هذه كتابة سِكْسيّة تُغازل الذكريات وتتحين بصّة قبول. هذه كتابة غرامية تأخذُ الأمكنة بالباط. كتابة حقيقية وفانتازية وهشّة وجارحة وناعمة ومؤلمة وهجّامة وذاتية وفولكلورية. هذه كتابة منفلتة عاطفيًا لأنها عن أمي وبلاد الجدّ – المعبود آمون. الدليل؟ صوت الكيبورد خفيض كطفل جنوبي يضحك لأمواج النيل. 

هذه كتابة على مرأى من أمي والنخلات اللاتي تطرح البلح الأحمر المجيد. هذه اعترافات على مرأى من الجد – الإله المعبود آمون الذي لا يفعل شيئًا سوى عتابي لأنني هاجرتُ صبياً إلى القاهرة فارتكبت بذلك خطيئة وحلّ علىّ التعب والمرمطة في القاهرة- المهجر. مهجر يا جدّ؟  إنها خطوتان. وخُذ بالك: عاصمة مصر. كلامي هواء. لا بأس. أنا رضوان آدم. أنا ريان آدم. أنا آدم الذي غيرته القاهرة فلم يجرؤ أن لا يكون صعيدياً ولم يجرؤ أن يكون قاهرياً مئة بالمئة.  

بالنسبة لأمي، كان قرار الاستقرار المبكر جداً في القاهرة جريمة، فالقاهرة تخطف الأبناء الأحباء وتغرّبهم وتزّعلهم وتخفيهم في قُلل فخارية مسحورة. لا أدري لماذا كانت تكره أمي القاهرة والآن أدري. أسطورة آدم والخروج من الجنة جارحة لكل المُهاجرين يا أمي

شعرتُ أنني أكلمها حقاً وأنا أقطعُ تذكرة قطار النوم من محطة سكك حديد محافظة الجيزة ( القاهرة الكُبرى). قادم إليكِ فحضري كثيراً من طول البال. ويا ستّي اطمئني. لم أعد عاطفياً يحبُ سماع قصص الركاب والأصدقاء العابرين. صرتُ مدمنا على العزلة حتى في طريق السفر. لعنة الجدّ آمون شرسة وشغّالة. 

دائمًا ما أُحمّل كتباً أقرأها على الموبايل في طريق السفر إلى الصعيد. وأكون سخيفًا في دقّة الاختيار حتّى أنني أنزف عرقاً وأنا أتأكد من وجودها في ذاكرة الموبايل. ومع كل هذا الهبل الفارغ، وكعشرات المرات التي سبقتها لا اقرأ حاجة لأن الأحاديث مع شريك غرفة قطار النوم تدمّر النوم والتركيز وتُفقد التذكرة أهم ميزاتها: قدرتك على التمدد والنوم لعشر ساعات في جو التكييف المُريح. عشر ساعات؟ المسافة بين القاهرة ومسقط رأسي في صعيد مصر تعادل المسافة بين القاهرة وكندا بالطائرة البطيئة. يا لطيف الألطاف أرسل لي شريكًا أخرس! 

لم أتوقع في حياتي أن أُصادف هارباً سودانياً من الحرب في عربة قطارات النوم المتوجهة إلى الصعيد. جمال الحمد عائد من القاهرة التي تغيرت إلى أسوان مع عياله وأمهم الذين يسمعوننا تقريباً من الغرفة المجاورة. الصعايدة طيّبين على الآخر يا زول والله. ما يقوله “جمال” مُشجّع على بدء حوار جنوبي – جنوبي مُفعم بالتفاصيل المُدهشة عن الحرب وفروقات الناس في السودان والقاهرة والصعيد. لكن يجب أن لا أقع في هذا الفخ النيلي. عايز أنام يا زول.

أخبرته أنني لم أنم منذ ثلاثة أعوام. ضحك ودّ النيل وتركني في حالي. سوف أنام نوماً عميقاً حتّى يوقظني مُشرف العربة الذي لهف خمسين جنيهاً. فقدتُ الثقة  كثيراً في العشرين جنيهاً. فاتتني محطة قنا مرتين رغم أن مُشرفي العربة كانا يحلفان بالأموات والأحياء أن يوقظاني قبل المحطة بنصف ساعة، وقد حنثا!. سامحني يا زول لأننا لم نُدردش لكن بدا لي أنك أحسست أن كلينا رحلته طويلة وصعبة في القطار.

صعبة نفسياً يا جماعة. فأنت عندما تعيش طويلاً في القاهرة وتتآلف مع لهجتها وزحامها وناسها، وخيباتها الكبيرة، وانتصاراتها الصغيرة، وتوهان الموقع الطبقي، وسكاكين الرأسمالية، والوحدة المُزمنة، لا تصبح في النهاية قاهرياً مئة بالمئة. وبالمناسبة لا تُصبح صعيدياً مئة بالمئة. 

 

هجرتي، جريمتي

لهجتي الصعيدية تلخبطت باللهجة القاهرية واعتيادي حياة العاصمة ينفّرني من البقاء في قريتي أكثر من يومين. يُسائلك الناس عن كل صغيرة وكبيرة تحدث في الكوكب ويجب أن تكون لديك إجابات جاهزة ومليحة لكل شيء. أنت صحفي وكاتب وتعرف دبّة النملة وتفكّ السحر ووراء نظارتك الطبية حلول لكل مشاكل الدنيا. طبعاً أنا أسكت ولا أدافع عن نفسي. أنا غريب وليس من حق الغريب الذي هجر الصعيد أن يسأل. أنت متهم طليق دائماً. هجرتي جريمة في حق مكان الميلاد؟ خيانة عُظمى يا حبيبي.  

كانت فضيحة مدوّية عندما أُخطيء في نُطق كلمة كنت أعرفها زمان. أقصد عناصر فولكلورية مرتبط بالبيئة ومفرداتها. كانت أمي تطلب مني أن أستقيم في لساني. وهل أُديرُ وكر إجرام؟ لم ترد علىّ وما زاد الطين بلّة أنها سمعتني وأنا أكلّم صديقتي القاهرية بلهجتها وبصوت عالٍ. عاتبتني وتركت البيت كي تحكي لجدتي عن الواد المفضوح الذي عوج لسانه في التليفون مع البتّ المصرية التي لا تخجل من إشغال شاب يزور أمه مرّة في السنة. مكالمة قاهرية في نُص الليل؟ 

سمعتني أمي أقول لصديقتي: “يا روحي” و”يا قلبي” والكلام الفارغ الذي تعرفونه! رأيتُها تَفْنِسُ من كسر في باب غرفتي. ضحكتُ أنا. أمي ضحكت؟ ضحكت الغندورة عليها السلام وقالت: كنّها ( كأنها) عروسة مِش عَمْرانة (غير مناسبة للزواج). 

تحدثنا وتصافينا. نسيتُ كيف أقول “أنا مَعْطوب” بلهجتنا وقلت بدلا منها “أنا مريض جدًا” كما يقولُ أفندية القاهرة. نسيتُ معنى “زَنْقور” بلهجتنا وتعني “الركن” الجانبي. لم أقل لصديقتي القاهرية “عاملة كيَّ؟” أي “كيف حالك؟ بلهجتنا، وقلتُ بقلة أدب: “وحشتيني يا بتّ موت”. نسيت اسم “الزَقْلَة” التي هي الخيزرانة الصعيدية أو الشومة. ناولتني أمي الكوفيه التي اسمها “اللاسة” أو “الشَمْلَة”. اسمها اللاسة يا مَتْوور (تائه).

 نسيتُ “البُكْلة” وهي قوارير فخارية صغيرة لحفظ الماء. نسيتُ الــ “مِخْوَل” وهو مائدة بهائم البيت. نسيتُ مفردات لهجتي ( لغتي الشعبية) حتّى اغتاظت أمي. على العشاء استمر الــ (dialectical tension). قالت أمي: لماذا تقول يا ولدي: الأكل دوّت (هذا)؟ اسمه الوَكْل دِيتي (هذا). راقبتني في أكثر من كلمة أخرى ثم كانت الفضيحة العُظمى عندما طلبتُ منها المَعْلَئة ( الملعقة لكن بلهجة قاهرية تحول القاف همزة)، ولم أطلب المِعْلَقة ( القاف الصعيدية تشبه “ج” جوجل). ما لها حكاية الملعقة؟ زعلتْ أمي والحمد لله أنها لم تبك لأنها كانت صبية وعاطفية ومتهوّرة. سبّتْ البيت والوَكْلَ وبنات الغوازي القاهريات وطلبت مني أن أعْدِلَ رأسي وأختار الآن بين غفاليق (مصائب) القاهرة أو الأم.  

ثنائية اللهجة أرهقتني وإن حللتُ الأمر بوحدانية الجنوب وأنا أكتب. الجنوب الذي تغير علىّ ولم نعد متفاهمَين مؤخراً. جفاء طويل دبرته القاهرة. لا يزال الونس يسكن لهجتي الجنوبية أما لهجتي القاهرية فستبقى إلى الأبد خالية من تهوّر أبناء وادي النيل.

الدكتور على عبد الواحد وافي يقول في كتابه “علم اللغة” الصادر عن مكتبة نهضة مصر ( 2004) في الصفحة 179: “تعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعاً في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألو جهداً في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات”. 

هجمات؟. يستكمل “وافي”:”أما محاربة عوامل الابتداع في داخل منطقتها فتتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم. وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوى الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية ويعظم نفوذها ويشتد بطشها بالمعتدين”.

ويشتد بطشها بالمعتدين؟ الجواب في نظرات أمي. خُضنا نقاشاً حامياً حول الصراع بين اللهجتين ولم نصل إلى نتيجة. كل ما يمكن أن أقوله بعد تأمل غير متماسك أن هناك ثمّة اتفاق سلام بارد بين اللهجة القاهرية ولهجات الصعيد الجوّاني ( قنا والأقصر وأسوان) فرغم أن اللهجة القاهرية هي اللهجة القومية (اللهجة المصرية الأولى) الأكثر جاذبية في المحيط العربي والإقليمي مقارنة باللهجة الصعيدية، كما هو الحال في لهجة أهل باريس في فرنسا واللهجة السكسونية في ألمانيا إلا أنّ اللهجة الصعيدية بتنويعاتها الصوتية لا تزال مُستبسلة في الدفاع عن نفسها في مواجهة المعتدين الغزاة أمثالي. 

حدّوتة اللهجة الصعيدية مُربكة دائماً بالنسبة لي. أتذكر بمرارة مُتعاظمة مُتبجحة ذاك الارتباك الشرير الذي انتابني في حفل توقيع مجموعتي القصصية الأولى “جبل الحلب” في القاهرة (2013). صراع اللهجتين اغتال سلاسة لساني. لَعْثمَني كطفل أحمق يحاول تعلم النطق. موقف مأساوي جعلني غير قادر على القراءة السليمة لمخارج الحروف في إحدى القصص. كان هناك حضور لا بأس به من الرفاق والرفيقات، وكان هناك حضور من بعض أبناء العائلة الذين جاءوا خصيصاً من القاهرة لحضور حفل التوقيع. ماذا أفعل؟. أتباع اللهجتين هنا؟. باظت القراءة، وشعرتُ بحرج بالغ لأن نصّي الأدائي في حفل التوقيع كان مهزوماً وساذجاً وتافهاً. هذه الواقعة أزعجتني سنوات وسنوات، وعطلتني عن الكتابة. كرهتُ الكتابة؟ كرهتُ الطعنة العاطفية التي لم أتوقعها من لساني. لساني الذي كان طفلاً رَهَواناً “حصان جامح” يقرأ القرآن وما وُجِدَ من أشباه كتب قبل كل العيال. هذه دردشة مُنفلتة لكنها بريئة. هل أعتذر الآن لحضور 2013؟ طبعًا أنا آسف يا جماعة. هل أعتذر لنفسي؟ طبعاً ولزاماً وعلاجاً لحالة زعل مستبدة كان لها أن تنتهي.  انتهت؟. آن لها أن تنتهي. 

وصلت محطة سكك حديد قنا. أخرجُ من القطار في السادسة صباحاً تقريباً لأن مواعيد تحرك قطارات النوم من القاهرة تكون في حدود الثامنة مساء. نجحت الخمسون جنيهاً. يا سلام على الدنيا. كانت الخمسون جنيهاً في الثمانينيات تزوِّج شاباً وتصرفُ عليه عامين متواليين. ليس مهمًا كل هذا، حلال عليه الفلوس لأنه صدق الوعد. 

في شارع السكة الحديد أتنسم هواءً نقياً وأشم الذكريات. أسمع أصوات الشعراء الشعبيين في مولد السيد القناوي الذي يبتعد عني مئة متر فقط. أضرب ببندقية البمب وأركب الأحصنة الخشبية وآكل ساندوتشات الكبدة المُسممة الجميلة وفي نهاية الليل أدخل السينما أو المسرح. كان زمان يا حلو!

الديوان فيه إيلون ماسك

في شوارع قنا الجانبية في أيام المولد، أسمعُ الستّات الكبيرات يغنين ويضربن الطبل البلدي في الأفراح العائلية أو الاحتفالات الشعبية. أحفظُ الكثير من الأغنيات الشعبية لأنني تربيتُ عليها. أمهاتنا وجدّاتنا كنّ خزّانات للأغنية والحكاية الشعبية. يجري تناقلها من جيل إلى جيل. أما الآن فغالبية الأمهات في الصعيد يُدمن مشاهدة قناة “كراميش” مع أبنائهن ويلعبن مستويات متقدمة في “الكاندي كراش”. 

شوارع المدينة تتغيّر وتغيِّر الناس؟ تتغيرُ عاداتهم ومعتقداتهم وطقوسهم الشعبية؟ في مدن الصعيد وبعض قُراه هناك أعياد ميلاد للأطفال والأزواج. حفلات زفاف فيها بيانو ومقطوعات غربية. 

في الثقافة الشعبية هناك منظومة لكل إقليم فولكلوري فرعي. الثقافة الشعبية في الجنوب في معركة كبيرة مع ثقافة مدنية مستوردة. مقاهي البلاي ستيشن والمطاعم الأجنبية والمولات وأحدث الهواتف الذكية. دخل الجميع فقاقيع السوشيال ميديا؟ كلنا دخلنا. 

كانت دواوين العائلات في قرى الصعيد مرآة تعكس حيوية الفولكلور. يتعود الطفل منّا على أحاديث الرجال عن الحقول والزراعة والقتال الأهلي القديم بين القرى، والعبر والأمثال، ويسمع من الجدّات الحبّوبات حكايات وحواديت مُدهشة. الآن أُغلقت الدواوين واستعمرتها دواوين إيلون ماسك والذكاء الاصطناعي، وضغوطات الحياة التي تُرقّص وتُركّض الناس بلا رحمة.   

على ما أعي طبعاً. كانت فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات بداية انحسار الميكروفونات المُفرحة التي تأتي من بعيد وأنا جالس في ديوان العائلة فوق دكتي الخصوصية. لا أريدُ أن يتهمني أحد بأنني أُعمّم أو أُبالغ. أتحدثُ عن نفسي فقط، وأي تشابه بين ما أكتب والواقع هو محض الصدفة. إذا كان هذا يريحُ البعض. أما أنا فما كان يريحني هو أن الناس السمّيعة في الصعيد زمان كانت تعترف بالفنانين الشعبيين وتتبناهم، وتدعو فرقهم لأحياء ليالٍ موسيقية شعبية. فكان القاصي والداني، والذي يصعد إلى بلكونة بيته، يستمتع. 

في ديوان العائلة لا أسمع ولو من بعيد بعيد شاعراً شعبياً في عُرس أو مناسبة أو ليلة للسمر مثلما كان الحال قبل عشرين عاماً. توارت الأغاني الشعبية التي كانت تُغني في دورة الحياة (من الميلاد والسبوع حتّى أغاني العديد). الأنواع الفنية في القِوالة الشعبية والفرق الشعبية توارت مع إتاحة كل أنواع الموسيقى في العالم داخل موبايل. 

ليست هناك نصوص موسيقية وشعرية وأدائية، عليها العين، تمتّ بصلة للتراث الغنائي الجنوبي. لا يمكن أن تسمع الآن نسوة في حفل زفاف داخل القرية أغنية “يللي ع الترعة حوّد ع المالح”، أو “خَدْناها.. خَدْناها في الصيف الماضي، وأبوها مكنش راضي”. حتّى في مناسبات الموت انقرض العديدُ وأُستبدل بفلاشات عليها سور من القرآن مثلما هو الحال في جنازات القاهرة. 

في رأيي، وقد أكون مخطئاً، من الصعب استدعاء فرقة شعبية تؤدي السيرة الهلالية إلا قليلا جداً. فرقة الشاعر الشعبي سيد الضوّي كانت آخر الفرق تقريباً في الصعيد الجوّاني وخفت صوتها بعد وفاته عام 2016. وقد كانت معظم حفلاتها في القاهرة أو بلدان عربية أو لأجل تسجيلات تلفزيونية. في رسالتي لنيل ماجستير فلسفة الفنون الشعبية عن موضوع “الشعراء الشعبيين في صعيد مصر:”سيد الضوّي – دراسة تطبيقية”، عانيتُ الأمرين في إيجاد إخباريين من خارج فرقته الموسيقية الشعبية. ذهاب ومرواح ومرواح وذهاب بين القاهرة ومركز قفط في محافظة قنا، ولا حياة لمن تنادى. أنت تبحثُ بأظافرك عن أجيال كانت تسمع السير الشعبية وتؤدي الموروث من رقصات شعبية. تعطلت الرسالة وضربني الكسل العظيم الخبيث.

 بصراحة تضايقني، أستطيع أن أقول إن جيل Z الذي قابلته في زيارتي الأخيرة للصعيد، يسمع موسيقى مهرجانات خشنة وهجومية. أنا ضد الرقابة على أي عمل موسيقي ومن حق الناس أن تختار. كل ما يضايقني هو دّخْلة “فيجو الدخلاووووووووووي” في كل تراك مهرجانات. “فيجو الدخلاوي” أسطورة ونمبر ون. يا دخلاووووي يجب أن تعرف أن النشاز أكثر خطورة من غزو الهكسوس. النشاز يخلق بيئة معادية للفن والمنطق والحياة. 

أنزلتُ حقيبتي عند أمي. وصلت مقابر العائلة في قريتي الصغيرة. سلمتُ على أمي وأخذتها بالباط. يجب أن أسلّم مفاتيح وحكايات الغياب. أسقى شجر المقبرة وأدخلُ في صدر أمي مجدداً وطويلاً. بعدها أعود إلى البيت ولا أملك الجرأة أن أدخل غرفة أمي في غيابها. أفعل هذا مع غرفة ابنتي سليمة التي تستكشف الآن بلد فاجنر وهيجل وشوبنهاور. 

“أبو منّاع قِبلي” هو اسم قريتي. على ما كانت تحكي الجدّات عن الجدّات الأوليات سُميت القرية بهذا الاسم لأن أهلها كانوا الوحيدين الذين حاربوا الفرنسيين الحُمر الكفّار عام 1799 وهزموهم وأغرقوهم في النيل. حتّى النساء كانت تحمل البارودة والفئوس وأكياس التراب. كانوا حصناً بشرياً مانعاً لتقدم الفرنسيين إلى أسوان وهم يطاردون المماليك. في الحقيقة لا أثق كثيراً في هذه الرواية لأن كل قرية ومركز في الصعيد الجوّاني شارك في قتال الفرنسيين على مقربة من النيل. 

أنا في البيت، لكن أين هو البيت من دون البراح؟ كان بيتنا معماراً فرعونياً قبل الاستسلام للبناء المُسلّح. كانت كل بيوت الصعيد الجوّاني أبواب خشبية واسعة وأفنية واسعة، وسقوف عالية ونوافذ عالية تصطاد الهواء – الطراوة. تُصَّفيه من طاقات المنخفضات الحارة التي تهب غالبًا من السودان أو ليبيا. الإضاءة موزعة بشكل طبيعي في كل أرجاء البيت. حوائط الطوب اللبن كانت عازلاً من برد الشتاء وطراوة في الصيف. أنا لا زلتُ في القاهرة؟  

المسحة الحداثية خرّبت واجهة بيتنا. كان يضم صحناً كبيراً  وتدخله الشمس من كل الاتجاهات بل وتفطرُ اللبن وتلعب معنا. كان حوائطه الملونة ذاكرة شعبية موثقة. رسوم الحج والكتابات الدينية والشعبية، والألوان النيلية البسيطة العميقة. المشهد المعماري مشهد مهم يعكس كيف يعيش ويفكر الناس. البيوت القديمة كانت دوائر وبراحات أوسع. الآن صار بيتنا مربعات ومستطيلات خانقة من الأسمنت والحديد المسلّح. مسلّح؟. آه فعلاً مسلّح.   

تغيرت المنظومة الاجتماعية في قريتي منذ تخلخل نمط الإنتاج القائم على الزراعة كأداة اكتفاء ذاتي. في بداية الثمانينيات تقريباً، هُجرت الأراضي الزراعية، ودُفع المصريون إلى هجرات عمل كثيفة للسعودية والعراق وبلدان الخليج.

في فترة مُبارك الممتدة، ومع بدء تطبيق سياسات التكيف الهيكلي (بداية التسعينيات تقريباً)، برزت حكاية تحديث الريف المصري، خصوصاً مع صدور قانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر ( قانون رقم 96 لسنة 1992) الذي بدأ تطبيقه بعد هذا التاريخ بخمس سنوات. عندها سُحبت الحيازات الزراعية للفلاح البسيط الذي يملك أكثر من فدان أرض. كل هذا دفع آلاف الأسر الحائرة والخائفة على المستقبل إلى تكثيف هجرات أبناءها.

بعد هذا التاريخ لم تعد العائلة كما كانت تسكن مع بعضها البعض في بيت واسع فيه غرف لكل أسرة في العائلة، وفيه مكان مخصص لحيوانات العائلة التي كانت تشاركنا الحياة. الآن، كل أسرة تستقل وتعيش وحدها. حتّى وقت قريب كان قرار أحد من الأشقاء داخل الأسرة بعزل نفسه عن باقي الأشقاء قراراً منبوذاً اجتماعياً وكريهاً. الآن صار طبيعياً ومقبولاً وضرورياً كي يركز كل واحد في حاله! الإسكان الذكي والبناء المعماري الحديث أصبح جزءً لا يتجزأ من المشهد المعماري في صعيد مصر. لا أقولُ إنني ضد هذا المشهد لأنه ليس متهماً. هو فقط يذكرني بمقولة أمي: “يلا كله بيتك بيتك”!

 

لنحتفل في ثلاثة أيام فقط

في الليل، شربتُ الشاي مع أحد أندادي الذين كانوا يدرسون معي في المدرسة الابتدائية. ملامحه تغيرت وأنا أيضاً. لا أعرف لماذا يُلاحظ الواحد منّا التقدم في العمر في ملامح الآخرين؟ هذه أنانية؟ . مللتُ سريعاً من الحديث عن قصب السكر والأهلي والزمالك والابن الذي سيتزوج في طلعة الربيع. لا أُريد أن أن أكون منفلتاً في مشاعري كلها. أصبحتُ انعزالياً جداً عندما أزور الصعيد. لا أحرص على لقاء أصدقائي القدامى. كل شيء تغير. صارت الغالبية موظفين وبقايا مزارعين أو مسافرين دائمًا إلى دول الخليج. مُراكمة الثروة ومستقبل العيال أهم طبعاً. لستُ مُنحازاً لهذا الرأي. وأيضاً لا أريدُ أن أُشوّه حكاية الأطفال الذين كانوا يبحثون عن الشمس وراء الجبل الشرقي ويُصممون على معرفة بيتها مهما بلغت حدّة المواجهة مع حراسها المخفيين. 

على مرمى البصر فوق حاشية فرع النيل الصغير الذي يمر بقريتي، لا ألمح أطفالاً أو صبية يصطادون السمك أو يلعبون السيجة الخماسية والسباعية. لا تجد رقصاً بالتحطيب قبل غروب الشمس. لا تجد البنادق الطينية التي كنّا نصنعها من الطين وأكياس الأسمدة الزراعية. لا تجد صبياً يصنع ناياً من خشب البوص النيلي ويغني للأسماك. نادراً ما تجد لعبة شعبية صامدة. بفضل التكنولوجيا ومواقع التواصل؟ لا أعرف ولا أريد أن أعرف. 

كل ما أعرفه أن قلبي يصعد ويهبط وأنا أكتب الآن عن الحواجز المُقبضة بيني وبين الصعيد الذي أحبه. أتذكر أن أمي كانت تزعل مني في سنواتها الأخيرة. أُجنّ عندما أمكث في الصعيد 3 أيام متتالية. من دون سبب واضح لها كان من حقها أن تسبّ القاهرة وتسبني بألطف الألفاظ ثم تعاقب نفسها لأنها ضايقت ابنها فتضحك ونحن نشرب الشاي العظيم المخلوط بالقرنفل.

كانت الوحيدة التي لا تعاملني كغريب أو ضيف عابر. كيف أشرح لأمي؟ كيف اشرح لكم؟ أشعر أحياناً بما شعر به مستشرق أوروبي مجهول، احتفى به الناس ثلاثة أيام وبعدها ملّ وعاد من حيث أتى. لم أسدّ أبداً فجوة الخروج من جنة آمون. يبدو أنني أضعف مما أتخيل.   

الناس في الصعيد تُدمن الشاي لا القهوة على عكس أهل سيناء ومطروح وغالبية ناس القاهرة. في المقهى رأيت قصّات الشعر العصرية، وتحديد الذقن الذي ينتشر موضة هذه الأيام في كل العالم تقريباً. سمعتُ باهتمام بالغ الحديث الحامي عن ليفربول ويورجن كلوب والدوري السعودي، وإيلون ماسك المهووس، الذي غير تويتر إلى “x”. لا جرائد ولا مجلات ولا كتب تُقرأ. لم أُكمل القهوة بسبب الصياح الهائج بسبب فوز أحدهم في ماتش شطرنج. شطرنج؟. رحم الله سيجتَنا الجميلة. 

في طريقي القريب جدًا من البيت، كنتُ قريبًا من موقف كدتُ أنسى كتابته في هذا الريبورتاج. أحد أبناء العمومة استدعاني للحكم في قضية غاية في الأهمية لكرامة العائلة. كرامة العائلة؟. خير إن شاء الله. البتّ عايزة تخش الجامعة وتفضحنا. لأول مرة أشعر بأن كل ما كتبناه وقلناه عن التحرّر والعدالة والمساواة لم يبتعد أكثر من دخان السجائر. هناك ثقافة شعبية تضع المحازير والجزاءات الأخلاقية ضد المرأة؟. بمقاومة أرهقتني، نجحت في إدخال الابنة العزيزة الجامعة. انتصار صغير.  

كل هذا لا يعني أنني لم ألاحظ فتيات قرويات كثيرات يدخلن الجامعة ويتخصصن في كليات عملية كالطب والهندسة. وهذا بالنسبة لي خطوة مُفرحة. يبدو أنه خلال سنوات قليلة لن يزعجني أحد أفراد العائلة وهو يحمل بندقية. 

أفكرُ في لعنة الجدّ آمون. قررتُ أن أُغلق الهاتف وأنام. ففي صباح اليوم التالي سوف أتوجه إلى لقائه شخصيًا في معبد الأقصر. قررتُ أن أزور أقاربي القدماء في الأقصر ومنه أطلعُ على معبد دندرة قبل التفكير في حجز تذكرة العودة إلى القاهرة. 

أنا الآن في معبد الأقصر الذي شُيد خصيصاً لعبادة آمون رع وزوجته موت وابنهما البار خونسو سنة 1400 قبل الميلاد. الأرباب الذين أُطلق عليهم “ثالوث طيبة”. هذا معبد مهيب شيده ملوك الأسرتين الثامنة عشر والتاسعة عشر، وهنا أضاف أمْنْحوتُب الثالث الأبنية المُلحقة بالمعبد، كما بنى الملك رمسيس الثاني الفناء المفتوح والصرح والمسلتين الطويلتين. لن أُفصح عما دار بيني وبين المعبود – الجدّ آمون رع لأن هذه مسألة عائلية خاصة، لكنه في المُجمل كان كريماً ولطيفاً. 

بحلول الظهر كنتُ في حضرة المعبودة حتحور: ربة السماء، والرقص والموسيقى، والأمومة. المعبودة الفريدة التي تتعامد الشمس فوق معبدها في الموعد المضبوط. ما كل هذه الفخامة يا خالة حتحور؟ واجهة مهيبة بستة أعمدة وكل عمود عليه رأس حتحور؟ كطفل مُندهش، تُذهلني دائماً الأسقف الفلكية داخل المعبد. معبد دندرة قمة العمارة الفرعونية في بناء المعابد. إذا أردت أن تصل إلى السقف العلوي للمعبد فعليك أن تصعد سلالم تبدو كمواكب كهنوتية تُحمل فيها تماثيل للمعبودة حتحور. سراديب المعبد كانت قاعات شعبية للاحتفالات الشعبية في مصر القديمة. يا سلام على مصر الحلوة.

لم أُبرمج رحلتي للبقاء حتّى عيد الأضحى الأخير في الصعيد. عندما وصلتُ البيت جمعتُ عيال العائلة لإحياء طقس قديم كان يفعله أبي مع كل الأطفال. أوقفتُهم في طابور وأعطيتُ كل واحد عيدية. مثلما كنّا نفعل/ يُبحلقون في باقي الأيادي. من يجد عيديته أقل يشن الحرب العالمية الثانية. كانت مئة جنيه متساوية. ضحك ملائكة الطابور عندما عرفوا أنني أعطيتُ لنفسي عيدية. 

 

زعلوا لأنني مُسافر في الغد. أخبرتهم بأنني مشغول في التحضير لحاجة مهمة خالص. لم يقتنعوا كما لم يقتنع إخوتي الذين يعاتبونني نيابة عن أمي على استعجال السفر وحيداً. عتاب أبكاني وأنا واقف بحقيبتي التافهة أمامها في مقبرة العائلة. زرتها في الليل. العيال يمكن أن يروني ويفضحون الدنيا فلا أقوى على مواجهة حججهم العاطفية العظيمة. تحدثتُ مع أمي عن رغبتي في التعافي من السفر. وعدتها أن أعود مرات قريبة طويلة كي أزورها وأعترف. حدثتُها عن وحشة الأمكنة من دونها. حدثتها عن خوفي العالي من أن تكون زعلانة مني حتّى الآن. بكيتُ بقدر ما استطعت. دخلتُ في صدرها بقدر ما استطعت. وبقدر ما استطعت أيضًا هربتُ إلى القاهرة. هربتُ في هذا الريبورتاج الذاتي من الصعيد إلى الصعيد الذي لا يفارقني. كلام من القلب؟. أحبك يا أمي. أحبك يا جدّ آمون.