كم من مرةٍ سمعت فكرة أن الفرنسيين يحسنون البناء أكثر منا، وغالبًا ما يأخذ المتحدث مثال وسط الجزائر العاصمة وعماراته الهوسمانية، المزيّنة ببذخ، حدائقه وساحاته المرسومة بدقة، شارع ديدوش مراد إلخ.. كم مرةً؟ ويضيف، أن الجزائريين لم يبنوا بعد الاستقلال سوى أحياء بشعة وسيئة التخطيط ومن دون روح، ولا يمكن العيش فيها حتى أن البعض “يفضل لو لم يغادر الفرنسيون“.
تتكرّر هذه الفكرة في كذا مكان، من الجنوب إلى الشمال، وفي ظل تغاضٍ عن التراث المعماري التقليدي في الجزائر، السابق للاستعمار الفرنسي.. من القصبة إلى غرداية. سمعتُ أيضا أن الأحياء السكنية التي أنشأناها بعد 1962 هي الأسوء في العالم، وأنه من الصعب أن تضاهى بشاعتها، وأن لا وجود لمثلها في مكان آخر. وأن “الأمم المتحضرة”، تعرف كيف تبني مدنها وعماراتها.. سواء كان ذلك في أمستردام القرن 17 أم في دبي القرن 21.
أحياء طور البناء، ضاحية تيبازة، الجزائر، 2019
ووسط كل هذا، دفعتني دراستي للهندسة المعمارية للقيام بأبحاث حول هذه التجمعات السكانية التي تشغل الأفق المحيط بالعاصمة، وللعمل حول الطرح الذي يفيد بأننا لا يمكننا تحطيم ما بنيناه بل وعلينا إعادة تقييم هذه التجمعات وصيانتها وتحسينها. وبما أن مشكل السكن في الجزائر سياسي بالدرجة الأولى قبل أن يكون معماري، فإن مهمتي للتفكير في الموضوع تصير أكثر تعقيدا مع مرور الوقت.
زيادةً على دراستي، هناك تجربتي الشخصية. فمع عائلتي عشنا لسنواتٍ في حي “عدل” (اختصار: الوكالة الوطنية لتحسين السكن وتطويره)، من أوائل الأحياء التي سلّمها نظام بوتفليقة بداية الألفينات. أعرف عن قُرب كل المساوئ، الواجهات المهملة، هفوات البنّائين، الأرضيات الرخيسة، ألواح السيراميك السوداء أسفل الحائط والتي يتركها بعض السكان الذين يكتفون بما بنته الدولة ولا يهتمون بتطوير الشقق وتغيير الأرضيات وما شابه فور الحصول على المفتاح. وهكذا كنت أعرف كل تفاصيل هذه الرداءة المعمارية المُشهَّر بها في كل مكان. ولكن، وبسبب تأثري بالرؤى والخطابات السائدة، شعرتُ بأن هذه التفاصيل تخصّ الحي الذي أسكن فيه والمشاريع الشبيهة في الجزائر فقط.
بعد سنوات، اكتشفتُ مدينة لا شو دو فون بسويسرا. كنت قد سمعتُ عنها من قبل لأن من رسمها هو المعماري “جونو” (Junod)، ولأن مخطط المدينة صُنِّفَ من طرف اليونسكو. زِد على هذا فإن لا شو دو فون هي مسقط رأس لو كوربيزييه، أحد رواد الحركة الحديثة في الهندسة المعمارية، حتى أن البعض يبالغون ويسمّونه: أب الهندسة المعمارية الحديثة.
المدينة فاتنة بفضل الرسم الواضح والمتكامل لشوارعها الواسعة والعريضة كي تسمح بوصول الضوء للطوابق الأخيرة حيث توجد ورشات الساعاتية، الذين صنعوا سمعة هذه المدينة.
مدينة شو دون فون، سويسرا، يونيو 2022
داخل إحدى شقق الحي، مدينة شو دون فون، سويسرا، يونيو 2022
غير بعيدٍ عن هذه الشوارع، أعلى الربوة، يمكننا رؤية المساكن الحديثة التي بُنِيت في ستينات القرن الماضي. التباين بين المكانين قوي وصادم رغم التناغم الذي يسود المدينة السفلية وقلبها التاريخي، كل هذا يجعل من الصعب استيعاب وجود تلك الأعمدة الاسمنتية. ولا أتصور المنظر من نوافذ تلك العمارات سوى كبطاقة بريدية جميلة للمدينة القديمة. لكن من يشاهدون أعلى الربوة من نوافذ هذه المدينة.. ماذا يرون؟ قبعة خرسانية ثقيلة موضوعةٌ فوق أحياء كاملة من الطوب الأحمر القديم والخشب المُلوّن.
زِد على هذا، وبالنسبة لي كجزائرية، يجعلني الأمر ألاحظ أشياء معينة. هل تختلف هذه البنايات السويسرية عن أحياء “عدل” المنتشرة في بلدي؟ حي لا شو دو فون يشبه أحياء الضواحي في العاصمة الجزائر ووهران وقسنطينة حد المطابقة. قد يقول أحدهم أنه ورغم التشابه إلا أن جودة البناء أحسن في سويسرا، ويمكنني الإجابة أنه حتى في سكنات “عدل” هناك أحياء نُفِّذت بجودة عالية.
لذلك ما يهمنا هنا هو السبب الذي جعل هذه الأحياء تتشابه: المسعى والسياق الذي بُنِي فيه هذا العمران. الخطة هي كالتالي: إسكان أكبر عدد ممكن في وقتٍ قصير وبأقل تكلفة. تصورٌ يستلهم “وظيفية” لو كوربيزييه التي دشّنها في عالم الهندسة المعمارية، بدايةً في أوروبا والبلدان الصناعية الكبرى، ولاحقًا في بلدان الجنوب، ومنها الجزائر.
تلك البنايات الممتدة بشكلٍ أفقي والمتباعدة للحصول على إضاءة جيّدة. هذه الطريقة صارت قاعدةً في التصميم والبناء في العالم، وحتى طريقة “زرع” هذه البنايات في فضاءات عمرانية دون أن نشغل بالنا بإندماجها في النسيج العمراني الموجود، في مقاربةٍ تعميميةٍ للـ “غيتو”. كل هذه الملاحظات تهمني، ونحن نعيش ستينية استقلال الجزائر، أولاً كباحثة ومهندسة وأيضًا كمواطنة لهذه البلاد.
ومع كثيرين مثلي لازلت أشتكي، على المستوى المهني والشخصي، من رداءة الجودة العمرانية والهندسية التي طغت في الجزائر. لكن دون أن أنسى أننا نقترف نفس أخطاء أوروبا –وفرنسا– التي يراها الكثيرون مثالًا يحتذى به في هذا المجال. ودون أن أنسى خاصةً أن مشكلتنا الأساسية ليست في شكل البنايات ولا جودتها بل في تصميم مدننا كلها. فهناك مثلاً بنايات بناها خواص، بمعايير وجودة عالية، لكنك ستجدها ترتفع إلى 15 طابقًا والشارع من تحتها ضيّق بالكاد يكفي لعبور سيارة واحدة، ولا أثر لمحلات ولا نشاطات في محيطها. لا رصيف للمشاة ولا مكان للشجر.. وعمومًا، لا تفكير في الفضاء العام. وهذا ينطبق أيضا على سكنات “عدل” وبقية المشاريع الحكومية.
فلكي أصل إلى عمارات لا شو دو فون، بسويسرا، ركبت قطارا وبعده حافلة أقلتني بسهولة إلى الحي الذي أقصده، والطريق نحو العمارات كان وسط مساحات لعب للأطفال وأخرى خضراء.. كان هناك تصميم عمراني ونظافة، وحتى إن كانت العمارات قد “زُرِعت” وسط مساحات خالية، إلا أنّها رُبطت ببقية المدينة ولم تتوقف وظيفتها عند إسكان المواطنين وفقط.
أفكر الآن أن الاختصار اللاتيني “الوكالة الوطنية لتحسين السكن وتطويره” : AADL والذي نكتبه “عدل”، اختيرَ عمدًا لأجل الكلمة نفسها: عدل من العدالة.. لكن عن أي عدلٍ نتحدث؟ العدل في توزيع السكن الذي هو حق للبشر..أم العدل تجاه المُثل العليا للتصميم والمعمار.. أم العدل بين الشمال والجنوب؟
من مشروع (الفضاء العمراني.. صلاة الغائب) للمهندس محمد العربي مرحوم.. اختبار الكيلومتر مربع “1 كم2”.من اليمين إلى اليسار: باب الزوار: غيتو الفقراء // مشروع مدينة الجزائر: غيتو الأغنياء // مدينة الجزائر: الحياة
ويمكننا، كي نواصل مدّ حبل التفكير في كلمة “عدل” استحضار “اختبار 1 كم²” الذي طرحه المهندس الجزائري محمد العربي مرحوم، وأساسه أن تأخذ رقعة عمرانية في مكان ما، مساحتها 1 كم² وترى -كمهندس- ما يوجد داخل هذه المساحة من مرافق وخدمات ونسيج عمراني.
وفي عرضه للفكرة، طبّق مرحوم اختباره على وسط مدينة الجزائر -الذي بُني منذ نهاية القرن 19 من طرف الفرنسيين- لنجد أنه في الكيلومتر² لدينا قصر للحكومة ومدارس وثانويات وميناء ومصالح حكومية وجامعة وساحات إلخ.. ثم يطبقه على مشروع تطوير الواجهة البحرية للعاصمة الجزائر (وهو في أساسه، كما يقدمه المهندس، تحويلها إلى غيتو للطبقات العليا) فيجد أن الكيلومتر² يضم مركز تجاري وموقف سيارات وأبراجًا سكنية.. ثم يطبق الاختبار على الحي السكني باب الزوار في الضاحية الشرقية للعاصمة فيجد أن المربع يضم بنايات سكنية وفقط.
وهنا يطرح مرحوم فكرةً مهمة عن كون “الاختلاط الاجتماعي هو الضامن للتجانس في المجتمع”، والتصميم العشوائي لمدننا اليوم (عكس المدن في السابق) لا يضمن سوى العدل في توزيع الغيتوهات، كل طبقةٍ لوحدها. وهذا يذكرنا بأحد عيوب -وأساسات- العمران الكولونيالي، والذي نميل إلى نسيانه: الإقصاء المنهجي للجزائريين، حيث أن كل ما شيده الفرنسيون قام على فصلٍ عنصري ممنهج.
هناك العديد من العيوب في الهندسة المعمارية لأحياء “عدل” السكنية الحالية، لكننا لن ننسفها بين يومٍ وليلة وقد صارت اليوم مدنًا بملايين السكان. ثم هناك ميزةٌ علينا ألاّ ننساها، وهي كرامة الحصول على سكن. تَبَقّى أن نجعل تجربة السكن متكاملة ونمنح الناس حياةً كريمة، وهذا هو الهدف الذي سعت له الجزائر في سياسات الإسكان بعد الاستقلال.. بل هو هدف الاستقلال نفسه.