“البحر وميدان الرمل، المكان اللي قضيت فيه عمري، أحلى سنين عمري”، تقول فاتن حمامة(نادية) في فيلم “الليلة الأخيرة” (1963)، عند وصولها إلى الإسكندرية مع محمود مرسي(زوجها). نادية، التي تستيقظ ذات يوم يناديها الجميع باسم فوزية: من يقول إنه زوجها، ومن تناديها باعتبارها والدتها والكل يسميها فوزية. إنها تعيش في القاهرة بينما هي تعرف أنها كانت تعيش في الإسكندرية.
يصبح البحر/الإسكندرية المكان الذي يؤكد يقين نادية بأنها ليست فوزية، عندما تبدأ في تذكّر تفاصيل جغرافية شارعها.
صوب البحر
لدي صور كثيرة في طفولتي مع البحر، في الإسكندرية. لدي طفولتان: واحدة بين عامي 1952-1957، وأخرى من 1957 حتى 1964. لا أتذكر طفولتي الصغرى, أعرف بعضها من الصور الكثيرة التي التقطتها لي عائلتي؛ فلم يمتلك والدي كاميرا وقتئذ.
حسبما أرى أو أتذكر من حكايات أهلي أو خالتي الوسطى، كان البحر جزءاَ من طفولتي السعيدة، فأمي وأبي يحبانه في كل حالاته؛ الهادئة والصاخبة بهدوء وبعنف، وليس الهادرة حسبما أعتقد. كما أن جدتي لأبي ولدت في أوديسا، الميناء الأوكراني الواقع على البحر الأسود؛ ووالد جدي لأبي ولد في أزمير، التي تقع على بحر إيجا.
الصورتان لي في الشتاء أو الخريف (ذهبنا مرة في أجازة نصف العام الدراسي). لا أعرف لماذا أعتقد أنه أحد شواطئ أبو قير. خلال تأملي -مؤخرًا- للصورة الأولى لاحظت يد والدتي في أقصى يمين الصورة للأسفل قليلًا. أما الصورة الأخرى فلم أر رأس والدي (أقصى يسار الصورة أمام والدتي)، إلا منذ بضعة أشهر.
خليج ستانلي
“وعلى شاطئ خليج ستانلي التقيت، ضمن من رأيت، بالآنسة درية شفيق”.. تذكر سيزا نبراوي (1897- 1985) في لقاء معها نُشر في مجلة “ليجيبسيين” (المصرية)، التي ترأسها هدى شعراوي.
كانت الإسكندرية/البحر بداية جديدة ومختلفة عن حياة درية في طنطا. ذكّرها البحر بالمنصورة والنيل الذي تعشقه، ولا تمل من تأمله. بدا لها البحر “كأنه رسول قادم من عند المنتهى”، تقول هي عندما رأته لأول مرة.
انتقلت درية شفيق (من رائدات الحركة النسائية المصرية في الأربعينيات والخمسينيات ورئيسة تحرير مجلتي “بنت النيل” و”الكتكوت”) إلى الإسكندرية عام 1924، لتقيم في منزل أختها مع والدها، وفيها أكملت تعليمها الثانوي.
في المكان الذي يحبه أبي
كانت الإسكندرية بالنسبة لدرية عبورًا “للجانب الآخر”؛ وكانت ملجأ عائلة والدي وعائلته، ولقائه بثقافات وأفكار مغايرة لوسطه الاجتماعي.
لم يحدثنا والدي (وُلد 1919) عن رحلات صيفية للإسكندرية/البحر خلال طفولته. لكنه ذهب إليها -مضطرًا-مع عائلته بعد وفاة والده في حادث مرور، عام 1930، وأنهى فيها تعليمه الثانوي (البكالوريا بقسميها، حسبما يكتب)، غالبًا في عام 1937. كان البحر بالنسبة لوالدي هو الميناء القديم، يركض حول شاطئه صباحًا، ويسبح في مياهه، ثم يأخذ قاربًا مع أصدقائه للإفطار فيه.
في سواد الليل
أما والدتي (وُلدت 1920)، فقد رأت البحر وهي طفلة في بداية الثلاثينيات. كانت تذهب مع والدتها وإخوتها إلى المندرة. “كنا نسافر في قطار الليل (يطلقون عليه القشاش أو قطر الصحافة لتوقفه في الكثير من المحطات). قبل السفر تحتسي والدتي فنجانًا كبيرًا من القهوة كي تظل مستيقظة طوال رحلة القطار، وتمكننا من النوم بلا خوف. ما أن نصل إلى المندرة (كان شاطئها يضم عششًا خشبية مثل عشش رأس البر في محافظة دمياط)، حتى تدخل غرفتها لتنام، وتتركنا لرعاية إخوتنا وإعداد الطعام”. أعتقد أنها أحبت أيضًا شاطئ ميامي، وستانلي، ومحطة الرمل.
الطفولة السعيدة
تقول عزيزة ابنة درية شفيق الكبرى، في حوار مع سنتيا نيلسون مؤلفة كتاب “امرأة مختلفة” عن والدتها: “[خلال] أجازات الصيفية. كانوا يرسلوننا إلى الإسكندرية، إلى واحدة من الخالات، حيث نقضي شهرين أو ثلاثة.”
أنا أيضا كانت أمي ترسلني مع أختي- طوال الإجازة الصيفية- إلى معسكر المدرسة في ميامي. حتى الآن أتذكر “مقتطفات” من هذا الروتين الصيفي، الذي استمر قرابة أربع أو خمس سنوات، مثل المبيت ليلة السفر إلى الإسكندرية، في منزل إحدى الصديقات المرافقات لنا (لا زلت أعتقد أن بيتها كان في أحد الشوارع الداخلية الموازية لشارع الخليفة المأمون، غالبًا ناحية شارع ابن سندر في الموازي لشارع المترو القديم في مصر الجديدة)، الذهاب إلى البحر وعملية عبور شارع الكورنيش العريض حدث هام لا يُنسى، يمتزج فيه القلق من السيارات بالمرح والسعادة بالمغامرة. وصورة البلاج السنوية، بأحد الأوضاع التقليدية الشهيرة، التي أرسلها لأمي مُظهَّرة بعبارات الحب والافتقاد.
رأس البر
ثم انقطع البحر أو انقطعت أنا وأسرتي عنه، عندما سافر والدي للعمل في فارسكور بمحافظة دمياط. أول مصيف ذهبنا إليه بعد خروج والدي من معتقل الواحات كان في مدينة رأس البر. هي بالنسبة لي العشش الجميلة، نداء الباعة، أبو طبل، والأرز بالجمبري الذي كانت أمي تطبخه فقط هناك، لقمة القاضي، والجربي.
لم أحب الجربي. أو ربما للشاطئ الذي أقصده اسم آخر. كل التفاصيل كانت تتضافر لتزعجني: المعاكسات، المياه التي تذكرني بالنيل-الذي لا أحبه-وليس البحر؛ والمصَور المتجول اللحوح؛ صاحب “الوضعيات” المحفوظة المزعجة للتصوير.
“وأغنيته العالية تبدد ألمي”
ها هو يغني/ البحر،/ وأغنيته العالية/ تبدد ألمي./ أجيبه على حدة،/ أغني/ ناسية عالمًا/ سخر من دموعي.* مقطع من قصيدة “أنشودة” لدرية شفيق، من ترجمتي عن الفرنسية
لم تكتب درية شفيق قصيدة للبحر وحده، كان النيل هو حبها الكبير، وكانت الإسكندرية مدينة عبور لما وراء بحرها، ولباريس.
“هل ذهبت إلى البحر في هذا الوقت؟”
“أيها الشيلي، هل ذهبت إلى البحر في هذا الوقت؟/ امش باسمي، بلل يديك وارفعهما/ وأنا من أراض أخرى سأعشق هذه القطرات/ التي تسقط من الماء اللامتناهي على وجهك”. * مقطع من قصيدة البحر ترجمة محمد العربي هروشي
حاشية
«النشيد الشامل» لشاعر تشيلي الكبير «بابلو نيرودا»، كتبه فى الفترة بين عامي 1938 -1950، وحصل عنه على نوبل للآداب فى عام 1971. و هو، حسبما يرى صالح علمانى مترجمه إلى العربية، “نظم تأريخى شامل”. والبحر الذي يتحدث عنه نيرودا لم أتخيله ولم أره في الإسكندرية. ربما رأيت شبيهًا له في شاطيء “عجيبة” بمرسى مطروح، أو في شواطئها غير المطروقة على البحر المتوسط. ولا أعرف لماذا أحبطني المحيط في جامبيا. ربما لأنه كان رماديًا وغير هادر؟ أو أن الشعر يتجاوز أحيانا جمال الرؤية البصرية؟ لا أعلم.