قررتُ أن أقضي الدقائق الأخيرة من العام الماضي والدقائق الجديدة من العام الجديد في المكان الذي أحسست أنه صحيحّ، ولائق، بلا مظاهر احتفال اعتيادية. أفكر في المحرومين، ليس فقط من الاحتفال، بل من الحياة نفسها. دخلت العام الجديد وأنا أحمل شمعة في شارع عبد الخالق ثروت، في وسط القاهرة، وأهتف للمظلومين المقموعين الضحايا في غزة والسودان. كيلومترات معدودة جعلتني أنا أفضل حظًا منهم، بأنني على قيد الحياة، فما قيمة هذه الحياة وفيها كل هذا القتل والدمار؟
في الأيام الأخيرة من العام الفائت، انطلقت دعوات عالمية كثيرة للاحتجاج في ليلة رأس السنة. وفي مصر، دعت مجموعة صحفيات مصريات لوقفة بالشموع على سلم نقابة الصحفيين. لم يكن لدينا خيار أفضل من قضاء رأس السنة، نحن وآلاف المتضامنين حول العالم، مع فلسطين.
في الأيام التالية للدعوة، كانت الاستجابة ضعيفة، بسبب من يريد الاحتفال أو بسبب تأخر الوقت، لكننا ذهبنا على كل حال. حضّرنا أعلام فلسطين والسودان وصور الشهداء وعلقناها على أعمدة النقابة، قمنا بتشغيل موسيقى وأغاني مقاومة فلسطينية، وجلسنا صامتين نحمل الشمع المضاء، وأمامنا قوات الأمن على الرصيف المقابل يراقبوننا في ريبة، يأتي بعضهم مرتدين زيًا مدنيًا، للتمويه، يقومون بتصويرنا ويعودون لقادتهم في الجانب المقابل.
زاد عددنا رغم توقعنا أن يكون أقل من ذلك بكثير حتى ملأنا السلم كله، أما المارة، زوار وسط المدينة القادمين للاحتفال برأس السنة، الذين مروا أمامنا بالصدفة، فوقفوا يراقبوننا باستغراب أحيانًا، وانبهار وتقدير في أحيان أخرى. بعضهم قام بتصوير الاحتجاج، وبعضهم انضم لنا على تردد، كأنهم لم يصدقوا أن هناك فعلًا تضامنيًا مع فلسطين يحدث الآن، ارتفع العدد أكثر حين بدأنا العد التنازلي للعام الجديد، وحين هتفنا في منتصف الليل بالضبط وغنينا للحرية.
في النهاية ظل عددنا محدودًا للغاية مقارنة بالآلاف الذين شاركوا في احتجاجات تضامنية في مدن العالم. وبالتأكيد تحتاج غزة والسودان لأكثر من وقفات تضامنية، لكننا نحاول ألا يمر ما يحدث شمالنا وجنوبنا ونحن في صمت تام. ورغم كل هذه المحدودية، شعرتُ برابط قوي، وشعور غامرًا بالمحبة والتأثر والانتماء مع المتضامنين، ليس فقط مع من هم بجواري في تلك اللحظة، بل مع المتضامنين في كل العالم الذين فضلوا رفع صوتهم عاليًا مع الحق والعدل والحرية عن الاحتفال التقليدي بالعام الجديد.
هل ما زالوا على قيد الحياة؟
قبل أسابيع قليلة، قضى الصحفي الفلسطيني سامر أبو دقة ستة ساعات كاملة ينزف حتى الموت. قضيتها معه، أشاهده ينزف، وأشاهد قوات الاحتلال تمنع المسعفين وتقتل ثلاثة منهم لمنعهم من الوصول إليه لإنقاذه. صحفي مثلي، قتل وهو يؤدي عمله. نزف دمه كله، مثلما تنزف غزة دماءها كلها، بالقنص المباشر وبالقصف وبالموت البطيء تحت الأنقاض. ما يزيد عن ثلاثة شهور من العدوان الإسرائيلي والحصيلة أكثر من 22 ألف قتيل وأكثر من 57 ألف مصاب، وما زال العدد يرتفع.
منذ ثلاثة شهور تقريبًا وأنا أشاهد كل هذا كل يوم، لا أريد أن تغيب عني تفصيلة واحدة. أريد أن أعرف أسماءهم جميعًا وقصصهم بالتفصيل، أريد أن أراهم وهم أحياء قبل اختطاف الحياة منهم، كل الصغار والكبار والنساء والأطباء والمسعفين والصحفيين وحتى المقاومين. كل من قُتل غدرًا، وكل من قُتل يدافع عن أرضه وحرية بلاده. أشاهد حتى محاولاتهم المستمرة المبتكرة في خلق طرق للحياة وللبقاء وسط كل هذا الموت.
أتابع العشرات من أهل غزة باستمرار، أشاركهم فرحتهم إن وجدوا طعامًا جيدًا أو دواءً، أو نجحوا في التحمم أو استطاعوا الخبز أو شحن أجهزتهم أو التقاط إشارة في هواتفهم رغم انقطاع الاتصالات. أكتب لهم وأرد عليهم كأنني أعرفهم، مع أننا غرباء. أتمنى لهم السلامة والحماية والأمان، وأتحقق يوميًا قدر استطاعتي أنهم ما يزالون على قيد الحياة. أحد الذين أتابعهم بانتظام لم يكتب شيئًا منذ نهاية الشهر الماضي. كنت أدخل في الأيام الماضية على حسابه، ربما كتب شيئا جديدًا، لا شئ. كتبت له قبل يومين، ولم يأتي رد. هكذا فجأة اختفى. كان إنسانًا حيًا يزرق، يتنفس، يتحدث، يحاول النجاة، وفي لحظة لم يعد موجودًا. انقبض قلبي كأني أعرفه شخصيًا. قلت لنفسي ربما اعتقل أو أصيب، وقد يكون هذا مصيرًا أفضل من القتل.
التضامن الإنساني هو ضريبة النجاة بالصدفة، ففي حياتنا العبثية ننجو بالصدفة ونموت بالصدفة، ومخطئ من يظن أنه بعيد وآمن للأبد مما يتعرض له غيره من مآسي ومظالم. ماذا لو كنت ولدت في غزة بدلا من مصر؟ ماذا لو كان الاحتلال الإسرائيلي قد استمر في مصر، وابتلع البلاد مثلما ابتلع فلسطين؟
شاهدتُ فيديوهات سامر الحية، شاهدته يحتضن زوجته وإبنه، وشاهدته بعد مقتله هو والعشرات من الصحفيين والآلاف من الغزاوية، وسألت نفسي وأنا أجلس في بيتي في القاهرة آمنة، لدي رفاهية الشعور بالغضب والحزن والقهر، أين أنا؟ ماذا أفعل؟ ما قيمة أي شئ؟ ما قيمة الحياة نفسها؟ لا شئ أكثر كارثية من أرواح آلاف البشر التي تزهق كل يوم في غزة، الأمر الخطير من ناحية أخرى هو فقدان كل شيء لقيمته ومعناه، بسبب كل قوى الشر الطليقة حاليًا، تعيث في الأرض فسادًا.
شيئان فقط لم يفقدا قيمتهما تمامًا بالنسبة لي: المقاومة والتضامن. سأدع المقاومة لأهلها في تلك اللحظة، وسأتحدث قليلًا عن التضامن.
اعتبر علماء قانون واجتماع مثل ليون دوجي وابن خلدون أن «التضامن الإجتماعي» بحسب وصف دوجي، أو «التعاون» بحسب وصف ابن خلدون، يأتي من واقع حياة الإنسان في جماعة، وبالتالي ارتباطه بها ، فالإنسان لا يستطيع أن يأكل عيشًا أو يواجه المخاطر بدون الجماعة. أعتبر التضامن الإنساني هو ضريبة النجاة بالصدفة، ففي حياتنا العبثية ننجو بالصدفة ونموت بالصدفة، ومخطئ من يظن أنه بعيد وآمن للأبد مما يتعرض له غيره من مآسي ومظالم. ماذا لو كنت ولدت في غزة بدلا من مصر؟ ماذا لو كان الاحتلال الإسرائيلي قد استمر في مصر، وابتلع البلاد مثلما ابتلع فلسطين؟ كلها احتمالات ليست بعيدة مثلما نعتقد. لكن الأهم منها أنه لا عدل في الحياة لو هناك مظلوم على الأرض. ولا أحد حر إلا لو كانت كل الناس أحرارًا. وكل ألم يشعر به إنسان، هو ألمي ويجب أن يكون ألم الناس جميعًا.
وقفة في طوكيو للتضامن مع غزة ووقف الحرب. المصدر: صفحة الناشط horiuchi takao
سؤال لا يخصني وحدي
سأعود قليلًا إلى الوراء، لما قبل تاريخ السابع من أكتوبر، الذي تغيرت بعده حياتنا جميعًا، للحظة حدثت قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا، وأنا أستمع لقصة صحفي وكاتب آخر بخلاف سامر، هذا الصحفي هو جدي إسماعيل المهدوي (توفي 1996). كنت قد أصبحت في طور المراهقة، وتكونت لدي القدرة على الاستيعاب قليلًا، حين بدأت في الاستماع لقصص العائلة وجذورها. تعرفت على جدي، الذي لم يتسنى لي معرفته في الحقيقة، وعلى صموده في مستشفى الأمراض العقلية لسبعة عشر عامًا، بعد سجنه فيها بسبب انتماءاته وآراءه المعارضة لنظام الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر.
كلما كبرت في العمر كبرت أسئلتي وكبر ارتباطي بقصة جدي تلك، وكان سؤالي الأكبر دائمًا، ولم يزل، ولقد قضيت أعوامي الأخيرة في البحث عن كل جوانب هذه القصة؛ لماذا لم يحظى إسماعيل بالتضامن؟ أين كان رفاقه؟ كيف تخلى عنه العالم طيلة هذه المدة؟ في رحلتي للبحث عن جدي وجدت بعض الإجابات، ليس مكانها هنا بالتأكيد. ما أود قوله أني عرفت منذ الصغر ما هو التضامن، وما الذي يعنيه وجوده وماذا يعني غيابه أيضًا.
في كل مرة تضامنتُ فيها مع مظلوم، كنت أشعر وكأنني أوفي دينًا لإسماعيل، الذي لم يتضامن معه سوى قليلون، وتأخروا كثيرًا.
على مدار سنوات عملي في الصحافة، اشتبكت مع قصص لأشخاص تعرضوا لأنواع ظلم مختلفة في هذا البلد. في زمن سابق كان يبدو واعدًا وحرًا، نزلت وشاركت مع الملايين في الشوارع في 2011 لرفع الظلم الذي ابتلع مصر كلها. ساعتها كان الجميع متضامنًا مع الجميع في لحظات استثنائية، دفعنا وندفع ثمنها غاليًا حتى الآن. في تلك اللحظات تذكرت جدو وتذكرت كل المظلومين، الذين كتمت أصواتهم، وأخفيت قصصهم من الوجود.
في زمن لاحق مع انتصار الثورة المضادة وتحطيم كل أمل وحلم في العدل وفي الحرية، توالت الضربات، وصرنا نحن الأكثر حظًا لا نجد وقتًا كافيًا للتضامن مع من يحتاجونه. مرة كنت أمزح مع صديق لي وأسأله «ها هنتضامن مع مين النهارده؟» كان الوضع مريرًا.
استهدافات فردية ومؤسسية بأشكال مختلفة، معتقلين ومختفين ومهجرين ومنفيين ومفصولين وأماكن مغلقة بالشمع الأحمر، حتى أصبح التضامن نفسه جريمة، كل أنواعه، وثمن التضامن يتضاعف مع مرور الوقت.
كأنها أول مرة
في السابع من أكتوبر الماضي، انقسم الزمن فورًا لما قبل هذا التاريخ وما بعده، مثل كل الأحداث الجلل. هكذا كان الوضع لسنوات بعد ثورة 2011. في الأسبوع الأول من أكتوبر كنت قد عدت لتوي من رحلة في غاية اللطف في العاصمة اللبنانية بيروت، عدتُ وكلي حماس للعمل، ووضعت خططًا مهنية وشخصية للشهرين المتبقيين من السنة، بكل تفاؤل. ثم اندلعت الأحداث، في البداية تفاءلت جدًا بكل سذاجة، وشعرت أن موازين العالم المختل ربما تعدل أخيرًا. المقاومة قد تنتصر وفلسطين قد تتحرر. حذرني الأصدقاء من ردة فعل إسرائيل التي ستكون عنيفة، ولم أهتم.
مازلت أقدر ما فعلته المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال في الأسبوع الثاني من أكتوبر، وما تفعله حتى اللحظة ببسالة وصمود. لكن سرعان ما انطلق الوحش الصهيوني الإستعماري ينهش الأرض ومن عليها، وتضاءل الحماس وتضاءلت السذاجة وتضاءلت غزة.
في الأسابيع الأولى من العدوان كنت أجلس أمام التليفزيون وأمام السوشيال ميديا، منذ الصباح وحتى المساء. أشاهد كل شئ. أصرخ بالعربية والإنجليزية في العالم كله بهستيريا على حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي، كأن صراخي سينهي الحرب حالًا.
توقفت حياتي إلا عن متابعة الأخبار، لم أكن قادرة على العمل، أو رؤية أحد. تجمدت حياتي الاجتماعية والمهنية، وتلك رفاهية لم يملكها أهل غزة الذين يفقدون حياتهم وأحبائهم وبيوتهم وأشغالهم بشكل يومي. آكل بصعوبة، أشرب بصعوبة. أبكي طيلة الوقت. ثم بدأتُ وبعض الأصدقاء أن نفكر ما العمل. تقابلنا، وتلاقى ما نفكر فيه مع ما كانت نقابتنا، نقابة الصحفيين المصرية، تفكر فيه حينها، إقامة فاعليات تضامنية مع فلسطين. وقررنا أنا ورفيقاتي ورفاقي الوقوف على سلم نقابة الصحفيين لأول مرة منذ ست سنوات تقريبًا، وهتفنا لفلسطين، بعد أيام قليلة من بداية العدوان. كنا مرتبكين وكان الأمن أمامنا مرتبكًا أيضًا. جميعنا نسينا كيفية الاحتجاج، أمن ومتظاهرين، لكن فلسطين تذكرنا دائمًا، مثل العادة. امتلئت بالأدرينالين يومها، وبالنوستالجيا لأيام مضت، أحاول نسيانها، ويبدو أني لم أنسها أبدًا.
مع الاحتجاجات الضخمة في كل العالم التي تحدت الفاشية الأوروبية والأمريكية الداعمة للصهيونية، انطلقت الدعوات في الأيام التالية لمظاهرات أكبر في القاهرة، دعوة رسمية نقابية أمام نقابة الصحفيين، وأخرى شعبية وطلابية في الجامعات، وكانت أهمها احتجاجات ساحة جامع الأزهر، الذي انطلقت منه، تاريخيًا، مظاهرات ومسيرات عدة لمطالب قومية وللتضامن مع فلسطين ومع العراق ومع البلاد العربية المنكوبة. في الجمعة الأولى بعد العدوان كانت مظاهرة الأزهر كبيرة، لكن الأمن منعها من الخروج من الساحة.
في الجمعة التالية زادت الدعوات السياسية والشعبية وانطلقت مظاهرات في ميدان مصطفى محمود بحي المهندسين وأخرى في ساحة الأزهر، وتطورت الأخيرة إلى مسيرة، وصلت حتى ميدان التحرير، لأول مرة منذ سنوات، وتم فضها بعد وقت قصير، وقبض على عشرات من المتظاهرين، ما زالوا معتقلين حتى اللحظة لتضامنهم مع فلسطين، وكانت تلك هي الإشارة لما سيحدث لاحقًا.
القاهرة، ماي 2011. المصدر: حسام الحملاوي
فلسطين.. دائمًا
على الرغم من المشهد الذي يبدو خاليًا من التظاهر، لكن لم تخلو مصر في السنوات الماضية تمامًا من الاحتجاجات، غالبًا يتم قمعها بشدة فور البدء فيها أو انطلاقها، مثل بعض المظاهرات النادرة التي خرجت استجابة لدعوات المقاول محمد علي في 2019، وبعضها الذي خرج احتجاجًا على خطط العمران والتطوير الحكومية التي أزالت الكثير من المناطق وتم إخلاء أهلها قسريًا أو فرضت إتاوات على السكان بحجة التصالح.
وكانت آخر أكبر الاحتجاجات التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية هي تلك التي رفضت التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية في 2016 و2017.
لكن فلسطين كانت دائمًا، مع اختلاف درجات القمع، حاضرة في الشارع المصري؛ فمع العودة للوراء ستبقى الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 نقطة تحول في العلاقة بين الجماهير والشارع، إذ امتلئت شوارع مصر ساعتها بالمظاهرات المؤيدة للانتفاضة، كنت أقرب للطفولة، لكنني أتذكر أنني شاركت في مسيرة صغيرة لطلاب المدارس في منطقتي بالجيزة.
مع اندلاع حرب 2008، كنت في مقتبل عمري، ممتلئة بالرغبة في تغيير العالم. ربما أجد شيئًا من التشابه بين المشهد ساعتها، ومشاهد الشهور الثلاثة الماضية، جو عام قامع -وإن لم يمكن مقارنته باليوم- مجازر ترتكب على الحدود، وأنا ورفاقي في المقهى نشاهد الحرب حية أمامنا على التليفزيون.. فقررنا أن نفعل شيئًا.
رسميًا، وبالرغم من التضييقات على المجال العام بشكل عام قبل الثورة، كانت هناك دائمًا مساحة للتحرك دعما لفلسطين، مساحة كانت قابلة للتفاوض، تزيد وتنقص، بحسب الضغط الشعبي والمصلحة السياسية بالطبع. زادت هذه المساحة بشكل كبير بعد الثورة، ثم تقلصت تمامًا. لا تفاهم ولا تفاوض ..
لأسابيع في نهاية 2008، كنا نجتمع في اللجنة الشعبية لدعم الشعب الفلسطيني. قمنا بمظاهرة نسائية أمام السفارة الإسرائيلية أمام حديقة الحيوان بالجيزة، قبل أن تحضر وزارة الداخلية قواتها الخاصة. شاركنا في تظاهرة كبيرة أمام نقابة الصحفيين، شاركت فيها جميع القوى السياسية في ذلك الوقت، بشكل استثنائي، وحاول الإخوان المسلمين وقتها السيطرة على المظاهرة، لكبر عددهم، فتحركنا في مسيرة صغيرة مستقلة في وسط القاهرة قبل أن يهددنا الأمن بالقبض علينا فأنهيناها ورحلنا. وفي صباح رأس السنة منعنا الأمن من التجمع في ميدان التحرير، وتم إلقاء القبض عليّ مرتين في يوم واحد.
في المرة الأولى قبض علينا رجال بزي مدني أنا وناشطتين في ميكروباص، وأنقذنا الأهالي، وخرجت من شباك الميكروباص (كنت أقل وزنا وأكثر مرونة بالتأكيد)، ثم قُبض عليّ مجددًا لأنني رفضت الرحيل وحاولت الاجتماع بالمتظاهرين، وقضينا بضع ساعات في معسكر للأمن المركزي، كان للقمع حدودًا واضحة حينها، بعكس اللحظة الراهنة.
قررنا أن ننظم قافلة للتضامن مع غزة، مع بداية العام الجديد، شارك فيها عشرات من الصحفيين والنشطاء والفنانين والأطباء من مصر والعالم، اجتمعنا في حافلتين، وتحركنا من أمام نقابة الصحفيين في القاهرة.
ست ساعات تقريبًا هي الطريق بين القاهرة ورفح. تم إيقافنا في أكثر من كمين على الطريق، عبرنا مرات بالتفاوض ومرات بالتظاهر ومرات بقطع الطريق، حتى اقتربنا من العريش، فاستوقفتنا فرقة من قوات الصاعقة بعرض الطريق، بأسلحتها في وجهنا، فعدنا أدراجنا للقاهرة، في صمت مطبق.
لاحقًا في حروب أخرى على غزة، نجحت قوافل أخرى في الوصول لمعبر رفح، إحداها دخلت غزة بالفعل في 2012.
التضامن مع غزة ليس أمرًا جديًدا على الإطلاق، الأمر لا يتعلق فقط بالشعور الإنساني أو علاقات الجيرة أو العروبة أو حتى الدين، فإسرائيل هي عدو ومحتل قديم لمصر، الثأر واحد. حتى رسميًا، بالرغم من التضييقات على المجال العام بشكل عام قبل الثورة، كانت هناك دائمًا مساحة للتحرك دعما لفلسطين، مساحة كانت قابلة للتفاوض، تزيد وتنقص، بحسب الضغط الشعبي والمصلحة السياسية بالطبع. زادت هذه المساحة بشكل كبير بعد الثورة، ثم تقلصت تمامًا. لا تفاهم ولا تفاوض. ربما كان هذا في الأسابيع الأولى فقط من الطوفان. قبل محاولة بلع التظاهرات التضامنية مع فلسطين وقلبها دعما لنظام الحكم في مصر، ما دفع المتظاهرين لرفض طلب «التفويض» الجديد.
تكتيكات مختلفة
كان القبض على أكثر من 100 متضامن مع غزة في 20 أكتوبر، منذرًا بما سيحدث لاحقًا من منع للتضامن. في الجمعة التالية 27 أكتوبر، ذهبت مع رفيقات للجامع الأزهر، ففوجئنا بسيطرة أمنية مشددة في محيط منطقة الأزهر، استمرت لأسابيع لاحقة.
بدأت الكثافة الأمنية من الطرق المؤدية للمنطقة والتي وقف عليها أفراد أمن للتفتيش والتحقق من المارة، وصولًا لشارع الأزهر المدجج بقوات الأمن. مُنعت الصلاة في الجامعين الكبيرين في المنطقة، الأزهر والحسين، وتسبب الأمر في استياء شديد بين أهالي المنطقة، وظل الوضع شديد التوتر طيلة اليوم. وعند رحيلي مع رفيقاتي في هذا اليوم، هددتنا نساء بطلجيات، وتدخل رجال الأمن لمساعدتنا في «الخروج» من ثكنة الأزهر العسكرية.
كان باديًا أن «فسحة المظاهرات» انتهت. عدنا لنقابة الصحفيين، التي كانت تتصدر المشهد في محاولة للتضامن مع غزة. وتركز الحراك في نقابة الصحفيين، التي نشطت دونا عن غيرها من النقابات والأحزاب. تصدرت مجموعات صحفية مثل «صحفيات مصريات» وناشطات وناشطين نقابيين في المشهد، وتلاقت أحيانا التحركات مع النقابة، وأحيانًا أخرى جرت بشكل مستقل. كان الهدف بالأساس إظهار التضامن مع غزة والضغط على الدولة للقيام بدورها في دعم غزة. نظمنا أيامًا تضامنية ووقفات احتجاجية وحملات تدوين إلكترونية وإضراب رمزي عن الطعام.
في الشهور القليلة الماضية، أمضيت وقتًا في نقابة الصحفيين أكثر من كل الوقت الذي أمضيته فيها، منذ حصلت على عضويتها في 2008. الكثير من الأفكار والنقاشات والجدل، المرهقين للغاية بعض الوقت، والمحمسين للغاية معظم الوقت. كثير من هذه الأفكار اصطدم مع الواقع شديد السوء على جانبيه الرسمي والمعارض. تأكدت كم صدأت السياسة في مصر تمامًا.
مع اشتداد العدوان والوحشية على غزة، وتخاذل العالم كله، استمر الحراك المحدود في نقابة الصحفيين. أحكي عنه حين يسألني أحدهم بحرج شديد، ويشيد به الناس بمبالغة شديدة، باعتباره الصوت التضامني الوحيد من مصر. واقع يؤكد بؤس الحال، لكنه بالتأكيد «أفضل من مفيش».
لم أعد أعرف إن كنت قد تواجدت داخل الحراك النقابي في الشهور الماضية لدافع أناني كي أشعر فقط أفضل تجاه نفسي، أم بالفعل لدعم غزة؟ كل الدماء التي نزفت في غزة طالتنا، الكل شركاء، هكذا أشعر منذ اليوم الأول للحرب.
لكن ما الذي قدمه الملايين ممن نزلوا في احتجاجات كبرى حول العالم مطالبين بوقف العدوان؟ ما الذي تقدمه هتافاتنا ووقفاتنا وفاعلياتنا التضامنية المحدودة لغزة؟ هل تقدم أكثر من محاولة التطهر من الذنب الشديد؟ من قسوة ووحشية وحقارة العالم؟ من مطاردة أرواح آلاف الأطفال الأبرياء؟
القاهرة، ديسمبر 2009. المصدر: حسام الحملاوي
محاولة ضغط مختلفة
قبل مقتل سامر أبو دقة، كنت قد تقدمت مع أكثر من 60 زميلة وزميل صحفي، بطلب إلى نقابة الصحفيين، للسماح لنا بالذهاب إلى غزة. لم يتم الاستجابة لطلبنا حتى الآن، مثلما لم تتم الإستجابة لطلبات مماثلة لصحفيين ومراسلين في وكالات أنباء ووسائل إعلام أجنبية قدمت للهيئة العامة للاستعلامات، للدخول إلى غزة. أكثر من 100 صحفي قتلوا في غزة بعد استهدافهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي، والمتبقين الله يعينهم. إسرائيل والعالم يريدون أن تموت التغطية الصحفية في غزة، وبحسب ما وثقته شبكة مراسلون بلا حدود، مصر تتواطأ في حصار غزة إعلاميًا.
الأمر بالأساس يتعلق بمعبر رفح، المغلق في وجه غزة، وفي وجه القوافل الطبية والإنسانية والصحفيين والمتضامنين. في السابع من نوفمبر الماضي، كان نقيب الصحفيين المصري خالد البلشي، قد أطلق نداء عالميًا لقافلة إنسانية «ضمير العالم» لفك الحصار عن غزة. كانت الدعوى مثل الشمعة التي أضاءت في الظلام، قبل انطفائها سريعًا. لم تصل أي قافلة إنسانية إلى معبر رفح، سوى قافلة واحدة محدودة العدد شارك فيها اثنين من الأحزاب السياسية، بعد تنسيق مع كل الجهات الأمنية والرسمية بالطبع، وبالكاد وصلت عند المعبر وعادت سريعًا. حاولت اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب الفلسطيني إطلاق قافلة إنسانية، ولم يصرح لها، بل وتعطلت قافلتهم الإغاثية لأكثر من أسبوعين حتى سمح لها بالعبور.
لم يكن عبور القوافل الإنسانية أو الإغاثية أمرًا سهلًا في الحروب السابقة، بالذات الإنسانية، لكنه كان أمرًا قابلا للتفاوض دائمًا، وفي كثير من الأحيان نجحت القوافل في الوصول إلى المعبر، حيث دخلت غزة قافلتان بشريتان على الأقل، في 2012 و 2014. وحتى في العدوان السابق في 2021، توجهت القوافل الرسمية والأهلية بالمساعدات، أما الآن فالمساعدات متكدسة في شمال سيناء، والمعبر مغلق، ويُفتح بإذن إسرائيل، وهو ما تؤكده مصر نفسها.
لكن ما الذي يعنيه غلق المعبر؟ يعني دخول عدد قليل جدًا من الشاحنات التي تحمل مساعدات لا يليق بحجم الكارثة في غزة، ويعني خروج عدد قليل جدًا من الجرحى والمصابين الفلسطينيين للعلاج في مصر، ويعني أن كثير من حملة الجنسية المصرية في غزة، ما زالوا عالقين غير مسموح لهم بالعودة إلى بلادهم.
المطالبات بفك الحصار عن غزة ليست جديدة أيضًا في مصر، تكررت في الحروب الإسرائيلية السابقة، لكن الوضع لم يبلغ أبدًا هذا الحد. رأيت كما رأى الكثير من المتضامنين والنشطاء أن مصر لم تضغط بالشكل الكافي على إسرائيل لضمان عمل المعبر بانتظام وبشكل كامل، حتى مجرد التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية لم يحدث. لكن في تلك الأجواء، بدت قافلة ضمير العالم أمرًا مبشرًا للغاية.
في انتظار التصريح
انطلق نداء القافلة وتسارع العمل لجعل النداء حقيقة. أنشئ موقعًا إلكترونيًا، وتم نشر البيانات بأكثر من لغة، ورُفعت على الموقع استمارة للراغبين في المشاركة. تحمس الكثيرون حول العالم، سجل المئات من حول العالم في استمارة التسجيل.
أفراد ومؤسسات ومجموعات أهلية وحقوقية وبرلمانيون وأطباء وصحفيون وفنانون، من بلاد عربية وأجنبية. الجميع يريدون القدوم إلى مصر. الجميع يريدون دعم غزة. الجميع يريدون موعدًا للقافلة، التي تنتظر التصريح، لأن لا أحد ولا شئ سيصل إلى شمال سيناء، بل ربما حتى إلى نفق الشهيد أحمد حمدي، على مدخل سيناء، بدون تصاريح.
تحت ضغط المتضامنين الدوليين الراغبين في الانضمام للقافلة وضغط ما يحدث في غزة، ووفقا لمؤشرات أولية إيجابية تخص التصاريح، تحدد أن تنطلق القافلة في أي وقت بين 17 و24 نوفمبر، ثم تقرر أن يكون موعدها في الرابع والعشرين من نوفمبر، ساعات قبل أن يتم تأجيل إعلان موعد القافلة لأجل غير مسمى، بسبب «تعذر الحصول على التصاريح» التي لم تأتي حتى اللحظة. مجهود جبار تم بذله في التنسيق لهذه القافلة، كان مصيره التجمد الإجباري، لرفض الدولة السماح بالتضامن الشعبي مع غزة.
محدودية التضامن في مصر، يتجاوز قمع مظاهره الجماعية، فالمواطنين يختنقون، ليس سياسيًا فقط، بل اقتصاديًا أيضا، نتيجة سياسات وقرارات اقتصادية دهورت من معيشتهم بشكل كبير ومتسارع، ووضعتهم في حالة ضاغطة من البؤس والعوز ..
استمرت القافلة في السعي من أجل الحصول على التصاريح اللازمة، وطالب الكثير من المتضامنين في مصر وفي العالم بالسماح لهذه القافلة والقوافل البشرية بالمرور وبفتح معبر رفح. وفي المقابل ومن طول الإنتظار قرر متضامنون من أكثر من بلد القدوم إلي مصر لدعم غزة، وشكلوا مجموعة «نشطاء عالميون من أجل فلسطين حرة»، وتوجهوا لمخاطبة الخارجية المصرية رسميًا وتسليمهم خطابًا ببعض المطالب، من بينها فتح المعبر، فقررت الحكومة أن تحبسهم لأكثر من ٢٤ ساعة، قبل أن تطردهم خارج مصر. كان هذا مؤشرا ثانيًا على الموقف الرسمي من التضامن الشعبي مع فلسطين.
في ظل قمع التضامن والعمل السياسي، عبر الكثير عن تضامنهم بأشكال فردية مختلفة؛ أعلام وكوفيات وملصقات كما نشطت حملات المقاطعة للمنتجات والشركات الداعمة لإسرائيل في مصر، ونشط العمل الخيري الإغاثي لدعم غزة، لكن كل هذا يواجه بمعبر مغلق هو النافذة الوحيدة لغزة على العالم عبر حدودها مع مصر، تتكدس أمامه الشاحنات، ويقتل خلفه الآلاف من الفلسطينيين وحيدون، بعد أن تخلى العالم عنهم، وفشل التضامن العالمي، رغم قيمته الكبيرة واستمراره، في أن يكون ضاغطًا لوقف الحرب.
لكن محدودية التضامن في مصر، يتجاوز قمع مظاهره الجماعية، فالمواطنين يختنقون، ليس سياسيًا فقط، بل اقتصاديًا أيضا، نتيجة سياسات وقرارات اقتصادية دهورت من معيشتهم بشكل كبير ومتسارع، ووضعتهم في حالة ضاغطة من البؤس والعوز.
سفينة الحرية الأولى متجهة إلى غزة. ماي 2010
ببساطة.. سنواصل
بخلاف الأنشطة التضامنية والاحتجاجية مع غزة، منذ أكتوبر الماضي، اشتبكت مع ما يحدث صحفيًا، وواصلت الكتابة عن غزة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقاطعت المنتجات التي تدعم الصهيونية، حتى أنني شاركت في أغنية جماعية من أجل غزة، وسأستمر في كل هذا، لكن هذا ليس كافيًا بالتأكيد. لا يليق بحجم الجريمة المستمرة المسماة بإسرائيل. أسأل نفسي في حيرة، هل من جدوى لكل هذا؟ هل من جدوى لاستمراره؟
في مدينة طوكيو باليابان، ولأكثر من 50 يومًا، كان الناشط هوري توتشي أوكاأو يرفع يوميًا لافتات احتجاجًا على الإبادة في غزة. ينضم له بعض المارة أحيانًا، أو يقفوا للتحدث معه، وأحيانًا يبقى وحيدًا. بلا كلل أو ملل، يحمل لافتاته كل يوم ويذهب للاحتجاج. أعتقد أننا لا نختلف كثيرًا عن أوكاأو، بيد أننا أكثر قليلًا في العدد، نواظب على الاحتجاج، حتى لو بقى صراخنا خافتًا للغاية، ولا تأثير أو شعبية له. ربما لنتبرأ أمام التاريخ، الذي سيحاسبنا جميعًا، كيف صمتنا على هذه الجرائم، مثلما صمتت أجيال سابقة على جرائم النازية. ربما بعد مائة عام، مع قليل من البحث، سيعرف شخصًا عنا، مثلما عرفت أنا عن قلائل في التاريخ رفضوا الجرائم الفاشية، أو على الأقل رفضوا المشاركة بالصمت.
أود لو أشارك في كسر الحصار عن غزة والدخول كصحفية أؤدي مهمتي الأساسية في التغطية، لكن طلبنا للدخول ما يزال معلقًا. لازلنا أنا ورفيقاتي ورفاقي نحمل لافتاتنا ونذهب إلى نقابة الصحفيين كل عدة أيام، مثل الناشط الياباني، نصرخ ربما يسمعنا أحد، أو ربما فقط ليعرف الناس في غزة، أننا لم ننساهم. لا نستطيع أن نقدم لهم شيئًا يوقف العدوان، لكن على الأقل لن نشارك في قتلهم بالصمت. كان على العالم أن يتوقف، لكنه لم يفعل، لذا علينا أن نستمر في حمل لافتاتنا سواء زاد عددنا أم قل، وسواء خرجنا من محيط نقابة الصحفيين أم أجبرنا على البقاء في منازلنا. علينا أن نستمر في القيام بأحد أنبل الأفعال التي تميز البشر.. التضامن.