تنظر مُنى بعينين زائغتين إلى كيس الدمِ المُعلق بخطّاف فوق رأسها. لا تأبه بالوجوهِ الشاحبة للمرضى المحيطين بها، ولا بحركة الممرضين الدؤوبة لوخز جلود الأذرع والأيادي بالإبر.
اليوم موعدها في مستشفى ابن الأثير المخصص لمرضى الثلاسيميا في الموصل، أكثر مكان زارته وكرهته في حياتها، تأخذ حصتها الشهرية من الدم، تفرغ الكيس في جسدها ثم تعود إلى المنزل في حي يقطنه نازحون شمالي المدينة دون أن تتكلم مع أحد.
قبل سنوات كانت منى (21 عاماً) أكثر شغفاً في التواصل مع الآخرين. تعرف أسماء العاملين بالمستشفى واحداً واحداً وتحفظ أسماء المرضى ووجوهم، تتبادل معهم الأحاديث عن التجربة الشاقة مع المرض والتغيرات التي تحصل في الجسم، تلاتحق أخبار المتبرعين ورحلات العلاج إلى خارج البلاد.
اليوم لم يعد لها طاقة على الكلام، تمشّط ببصرها الأسرة المتقابلة، “عددنا يتناقص.. في كل مرة آتي إلى هنا أفتقد وجهاً، أقول لنفسي ربما مات.. ربما ماتت.. الأحسن أن لا أسال.. هذا يجعلني أفكر أيضاً بالموت”.
في البيت تستلقي على سريرها وتستعد لحقنة أخرى تحت جلد البطن من محلول دواء اسمه “ديسفيرال”، دواء ضروري لطرد الحديد المتراكم من جسمها، تنام كي يمرّ الوقت وتبقى الحقنة موصولة في بطنها أو كتفها لمدة 12 ساعة، لستة أيام في الأسبوع.
عظام كالبسكويت
يوصف مرض الثلاسيميا أو ما يعرف بمرض “فقر دم البحر الأبيض المتوسط” بأنه اضطراب وراثي في إنتاج الهيموغلوبين، أحد المكونات الرئيسة للخلايا الحمراء. وبسببه تتكسر الكريات الحمر وينقص عددها بشكل حاد فتعجز عن نقل كمية كافية من الأكسجين إلى أنحاء الجسم، وتبدأ العظام بمحاولة التعويض عن طريق إنتاج المزيد من الكريات فتصاب بالهشاشة.
ورثت منى المرض عن والديها الذين حملا الصفة الوراثية دون أن يكونا مصابين. كانت في الشهر السادس عندما أخبرهما الطبيب أن جسمها يعجز عن صنع الهيموغلوبين وأنها تحتاج إلى التزود بالدم و إلى المراقبة المستمرة.
لهذا تصف منى المرض بأنه “خبيث”، تقول إنه “شطب مرحلة الطفولة بالكامل وحوّل عظامي إلى بسكويت.. لا أذكر أني شاركت الأطفال في لعبهم أو في الرحلات المدرسية.. أيُ كسرٍ كان يعني بالنسبة لي عوقاً دائماً”.
يقدّر عدد من هم في حالتها بحوالي ثلاثين ألف مريض عراقي معظمهم من الأطفال بحسب طالب طاهر رئيس تجمع مرضى الثلاسيميا، بينما تتحدث وزارة الصحة العراقية عن حوالي 22 ألف مصاب مسجل لديها. أما عدد الحاملين للصفة الوراثية المسبّبة للمرض كوالديّ منى، فهو أكبر بكثير من هذين الرقمين.
أحلام المراهقة
لا يزعج منى الحديث عن نموّها الذي عطّله المرض عند طول 152 وهو أمر يشترك فيه الغالبية العظمى من المرضى الذين يبدون بأعمار أصغر مما هُم عليه فعلياً، ويشتركون أيضاً في صفات شكلية كبروز عظام الوجه والوجنتين والشحوب.
تطلق ضحكة لا مبرر لها ثم تضع يدها على فمها وتقول هامسة: “نحن نشترك بصفة أخرى توحدنا وهي بطوننا المنتفخة، طحالنا متضخم على الدوام من كثرة الدم الذي نتزود به.. إنه مقبرة كريات الدم الحمر”.
في أوقات مشابهة كانت تجلس مسترخية في مقعدها الجلدي في ردهة المستشفى. كانت تشغل نفسها بعد قطرات الدماء المتساقطة بتتابع عبر الأنبوب المطاطي منحدرة إلى إبرة منغرسة في ظاهر كفها. يقول الأطباء إن كيس الدم الواحد يحتوي على عشرة آلاف قطرة. تركز نظرها في الأنبوبة وتعدها واحدة تلو الأخرى.
قطرات الدم لم تكن سبباً لمواصلة الحياة فقط وإنما -كما تصفها- لحظات من الزمن عدتها قطرة فقطرة على أمل أن يأتي ذلك اليوم وتعثر على متبرّع بنخاع العظم تكون أنسجته مطابقة لأنسجتها.. يوم قد يأتي وقد لا يأتي.
يقول الأطباء إن كيس الدم الواحد يحتوي على عشرة آلاف قطرة.. كانت تركز نظرها في الأنبوبة وتعدها واحدة تلو الأخرى
وفي وقت كانت فيه الفتيات في عمرها مأخوذات بقصص الأميرات، كانت هي تتابع بشغف الحكايات السعيدة المتداولة عن مرضى أجروا عملية نخاع العظم أو ما يعرف بـ زرع الخلايا الجذعية بدعم من منظمة خيرية ومستشفى في إيطاليا. هؤلاء المحظوظين نجوا من مصير أخذ الدم شهرياً ومن الإبرة المنغرسة في الجلد طوال ساعات الليل. كان هذا حلم منى الذي عاشت معه طوال سنوات الطفولة والمراهقة.
تشيرٌ إلى طفلٍ في الرابعة من العمر يصرخ بأعلى صوته فيما تناضل أمهُ من أجل السيطرة على ذراعه المربوطة إليها أنبوبة التزود بالدم. تقول إنها تعودت على هذه المشاهد وتجاوزت مرحلة الألم منذ زمن بعيد أو أصبحت متعايشة معه.. “الجسد يرفض الدماء الدخيلة فتحصل أوجاع مبرحة في الرأس أو الأعضاء الداخلية أو الأطراف”.
تشرح أن الأعراض تتفاقم أو تندرس حسب درجة المرض، لكن جميع من في المستشفى بانتظار أملٍ بالعثور على متبرع.
أنا معجزة
بحسب الدكتور مدين فوزي، من مركز الثلاسيميا في مستشفى ابن الأثير في الموصل فإن عدد المصابين المسجلين في المركز هو 1500، لكن المواظبين على المراجعة لتلقي الدم والعلاجات لا يتجاوز الألف مصاب.
وفي مجتمع عشائري كنينوى، فإن وجود عدد كبير من المصابين يعود إلى زواج الأقارب وعدم إجراء فحص ما قبل الزواج الذي يمكن أن يجنب المواليد الجدد مصيراً من هذا النوع.
يوضح الطبيب: “في حالة اقتران زوجين حاملين للصفة الوراثية، فإن احتمالية ولادة طفل مصاب هي 25% لكل ولادة جديدة.. سجلنا عائلة تضم خمسة أطفال كلهم مصابون وعائلة أخرى من تسعة أطفال واحد منهم فقط مصاب”.
تبدو الوقاية من الثلاسيميا سهلة للغاية، بمجرد فحصٍ صغير يجرى قبل الزواج، وبحسب تقديرات بحوث جامعية أجريت بهذا الصدد في المحافظة الواقعة شمال غربي العراق فإن نحو 5% من السكان يحملون صفة المرض دون أن يكونوا هم أنفسهم مصابين.
لكن النجاة منه شبه مستحيلة وتستلزم وجود متبرع بنخاع العظم يمتلك أنسجة مطابقة وهو أمر نادرٌ الحدوث، نسبته بحسب المتخصصين واحد من كل عشرة ملايين شخص في العالم.
“أمر يشبه البحث عن إبرة في جبل قش.. وليس في كومة” يقول رئيس جمعية الثلاسيميا في نينوى ثائر ابراهيم ويتابع تفاصيل رحلة الأحلام بالنسبة لجميع المصابين:
“بعد العثور على المتبرع بنخاع العظم ويكون في الغالب من التوائم المتطابقة أو الأشقاء ونادراً جداً من الغرباء، ينبغي إجراء عملية زراعة للخلايا في ايطاليا أو الهند، لأن المنطقة العربية لا تملك البنية التحتية الصحية لذلك”.
تبدو الوقاية من الثلاسيميا سهلة للغاية، لكن النجاة منه شبه مستحيلة وتستلزم وجود متبرع بنخاع العظم يمتلك أنسجة مطابقة وهو أمر نادرٌ الحدوث، نسبته بحسب المتخصصين واحد من كل عشرة ملايين شخص في العالم.
وكما يوضح، العراق ليس فيه سجل للمتبرعين بالنخاع يمكن اللجوء إليه في حال تطلب الأمر. ولا توجد مستشفيات متخصصة بزراعة نخاع العظم ولا حتى مختبرات يمكن الاعتماد على دقّة نتائجها عند إجراء فحص التطابق النسيجي.
وفي حال وصلت بعض العائلات الى مرحلة العثور على متبرع، فإن العملية والفترة التي تعقبها تحتاج الى تكاليف تصل الى نحو 200 ألف دولار، وهي ثروة كبيرة جداً بالنسبة لعائلات المصابين في نينوى الذين هم في غالبيتهم العظمى فقراء معدمين.
تحجب منى في اللحظة الاخيرة منع سيل دموعها بابتسامة وتقول: “نحن لانعيش طويلاً، معظم الموجودين هنا أطفال وصبية، من النادر أن يصل مصابٌ بالثلاسيميا الى العمر الذي بلغتهُ. أنا معجزة”.
ثمن علبة عصير
كان من الممكن توفير الكثير من الألم بحسب أطباء وممرضين لو كان في هذا المستشفى مثلاً مختبرات لفصل الدم أو ما يعرف بتقنية فلترة الدماء، كما هو الحال في مستشفيات دول مجاورة، بحيث يعطى المريض فقط حاجته إلى الصفائح الدموية دون مكونات الدم الأخرى التي تسبب للمريض مضاعفات خطرة.
بسبب هذا يتراكم الحديد في أجساد المرضى بمعدلات قياسية، في الكبد والكليتين والقلب، ويحتاجون منذ الطفولة لتناول أدوية “الإستجلاب” أو طرد الحديد.
حتى سنة 2007 كان المرضى يأخذون دواءً أسمه “ديسفيرال” يحقنون به بواسطة إبر صغيرة يطلقون عليها “الفراشة” لكونها مزودة بلاصق من الجهتين لضمان تثبيتها، تمكث هناك بين 10-12 ساعة كل يوم.
لكن بعد ذلك وصل دواءٌ أسمه التجاري “أكسجيد” يؤخذ عن طريق الفم، وهو يعد نقلة نوعية في حياة المصابين بالثلاسيميا، لكن ليس جميعهم. فالأطباء المختصون يؤكدون بأن هنالك من يعاني من حساسية إزاء الاكسجيد أو تتواجد في أجسادهم نسب عالية جداً من الحديد، لذا يضطرون لمواصلة حياتهم مع إبر الديسفيرال. كانت منى واحدة من هؤلاء.
على كل حال، فلترة الدم ليست العنوان الوحيد لمشكلات مصرف الدم في مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى التي يسكنها ما يزيد عن أربعة ملايين نسمة.
حتى سنة 2007 كان المرضى يأخذون دواءً أسمه “ديسفيرال” يحقنون به بواسطة إبر صغيرة يطلقون عليها “الفراشة” لكونها مزودة بلاصق من الجهتين لضمان تثبيتها، تمكث هناك بين 10-12 ساعة كل يوم.
مدير المصرف الدكتور محمد داج خالد، يقول إن التقنية القديمة المتبعة هنا لفصل الدم (تقنية “أليزا”) لا تقي من الإصابات بفايروس الكبد (B,C) فضلاً عن الإصابة بأنواع مختلفة من الحساسية، ثمّ تطول قائمة الاحتياجات التي يذكرها، أبرزها توفير أجهزة الكشف عن البكتيريا والفايروسات بتقنية الـ PCR وتوفير جهاز “ميراسول” لتعقيم الدم ومشتقاته، وتوفير فحوصات الكشف عن التحسس وفحوصات أصناف الدم الثانوية.
كما أن المصرف يفتقد إلى المتبرعين، ويشترك مع جمعية الثلاسيميا والوقف السّني في المحافظة بحملات دورية لحث الأهالي على التبرع بالدم، تستهدف في العادة الجوامع في فترة ما بعد الصلوات أو طلاب جامعة الموصل، دون نجاح يذكر.
“الأكياس الخاصة شحيحة، والمصرف لا يمتلك حتى ثمن عُلبة عصير يقدمها للمتبرع كهدية رمزية”، يقول مدير المصرف.
مسألة التبرع بالدم لا تثقل كاهل منى كما يحدث مع أقرانها الآخرين، فهي وبحكم تجربتها الطويلة مع المرض، لديها متبرعون ثابتون، يعطيها أحدهم كيس دم في المصرف، ويصبح لديها رصيد بمقدار ثلاثة أكياس حسب السياسة المتبعة هناك.
كورونا يوقف العلاج
جمعية الثلاسيما التي قوامها أولياء أمور مصابين، مدت من خلال جهود شخصية جسور التعاون بينها وبين مستشفى مايكروشيتميكو في مدينة كالياري بجزيرة سردينيا الايطالية، وحصلت منها على منحة مجانية لإجراء عمليات زرع النخاع لمصابين من نينوى.
وبين سنتي 2004 و2014 أرسلت الجمعية 42 مصاباً، نجحت عمليات 38 منهم شفوا من المرض بنحو تام بينما فشلت عمليتان توفي المريضان متأثرين بمضاعفات ما بعد العملية.
وعلى الرغم من المصاعب التي تعترض عمل الجمعية ولاسيما بعد تحرير الموصل من “داعش” في منتصف 2017، غير أنها نجحت في ترتيب الأوراق الخاصة بخمسة عشر مصاباً ليلتحقوا بأقرانهم ويجروا عمليات زرع النخاع، وتكللت عمليات ستٍ منهم بالنجاح.
بعد تفشي مرض كورونا توقف المستشفى الايطالي عن إجراء العمليات، لأن هذا الفيروس أو حتى سواه يمكن أن يقتل مصاب الثلاسيميا بسهولة بعد خضوعه للعملية، كون معدل المناعة في جسمه يكون معدوماً، لذلك كان يعزل فيما يشبه بالصندوق لعدة أشهر لحين يتعافى جسمه ويصبح قادراً على انتاج كريات الدم وتكتمل مناعته الذاتية.
منى تعثر على متبرع
في شهر أيار/مايو 2014، تلقت منى وعائلتها خبراً مفرحاً من جمعية الثلاسيميا، إذ وافق المشفى الايطالي على منحها مقعداً علاجياً مجانياً وما كان عليهم سوى القيام ببعض الإجراءات الرسمية للسفر والخضوع لعملية زرع النخاع.
قبلها بنحو سنة تلقت بشرى الفحوصات المخبرية التي أثبتت وجود تطابق نسيجي بينها وبين شقيقها الأصغر صلاح، ما يعني تمكنه من التبرع بنخاعه لها، وهو الوحيد الذي تطابق نسيجه معها من بين أشقائها الأربعة الآخرين.
يقول رئيس جمعية الثلاسيميا، بأن أفراد العائلة (منى وشقيقها المتبرع ووالديها) سافروا الى العاصمة بغداد وسلموا جوازات السفر مع الضمان الصحي ورسوم الفيزا للسفارة الايطالية وعادوا بانتظار أن يصلهم إخطار اكتمال تأشيرات السفر.
غير أن عناصر “داعش” سيطروا على الموصل في العاشر من حزيران/يونيو 2014 واحتُجزت العائلة داخل المدينة التي انقطعت عملياً عن العالم الخارجي وتم إرجاء سفرها ومعه أمل منى بالشفاء.
سيطر عناصر “داعش” على الموصل في العاشر من حزيران/يونيو 2014 واحتُجزت العائلة داخل المدينة التي انقطعت عملياً عن العالم الخارجي وتم إرجاء سفر منى ومعه أملها بالشفاء.
ذات الشيء حدث مع أحمد صدقي* (18عاماً) فقد كان قد حصل هو الآخر على منحة من المستشفى الايطالي، بعد ماراثون طويل من الإجراءات ابتدأت بفحص التطابق النسيجي في مستشفى الأسد الجامعي بالعاصمة السورية دمشق سنة 2011 وكانت النتيجة 100% مطابقاً مع شقيقه الأصغر.
يتذكر والد أحمد صراعه المرير مع الوقت للحصول على نتائج الفحص:
“بعد وصول مصابين اثنين إلى إيطاليا قبل 2014 اكتشف الأطباء هناك بأن نتائج التطابق النسيجي التي أجرياها في مختبر بغداد غير صحيحة، لذلك اعتمدوا فقط نتائج مختبر فحص في المستشفى بدمشق ووقتها الوضع لم يكن قد ساء هناك ومدينتنا الموصل لم يكن فيها مختبر لفحص التطابق النسيجي”.
انتظر الرجل ثلاث سنوات ليجد اسم ابنه في قائمة مرسلة من المشفى الايطالي ولم يكن عليه سوى إكمال أوراق السفر، غير أن “داعش” عطل الرحلة وأدخل العائلة في دوامة من القلق والانتظار المتواصلين.
أحمد ومنى عاشا ثلاث سنوات صعبة للغاية في ظل سيطرة “داعش على المدينة والحصار الذي فرض عليها وعلى باقي مناطق نفوذ التنظيم من قبل القوات العراقية والدولية، ومن ثم الحرب التي خلفت دماراً هائلاً فيها.
شحّت أعداد المتبرعين بالدماء وأصبح دواء طرد الحديد نادراً وباهظ الثمن وأخذ المصابون الآخرون ولاسيما الذين لا يملكون أملاً بإجراء عمليات زرع النخاع يموتون بصمت. لكن آمالهما بالسفر وإجراء عملية زراعة النخاع ظلت على قيد الحياة بعد تأكيدات متواصلة من جمعية الثلاسيميا على أن المنحة الايطالية قائمة.
لاشك بأنهما قد تقابلا ذات يوم في ردهة التزود بالدم بمركز الثلاسيميا، تجاورا أو تفاوتا في القدوم وجلسا على ذات المقعد الجلدي أو استلقيا على ذات السرير ينتظران مرور ساعات التزود بالدم الطويلة والمملة.
لكن من المؤكد بأن حلمهما لم يسر في ذات الطريق الذي ارتسم في ذهنيهما كل ساعة ويوم وسنة من عمريهما، فبعد أشهر من انقشاع حرب التحرير من داعش عاد مستشفى “مايكروشيتميكو” مطلع 2018 ليوقظ الآمال من تحت ركام الحرب.
دخل أحمد صدقي وأسرته في صراع جديد مع الوقت لترتيب الأوراق الرسمية التي تتطلبها الرحلة السحرية إلى إيطاليا. وفي الساعة 3:40 من صباح يوم 29 كانون الثاني/يناير 2019 أقلعت بهم الطائرة من مطار أربيل الدولي وبعد توقفين في اسطنبول وروما وصلوا سردينيا في اليوم التالي.
كشفت الفحوصات المختبرية الأولية أن أحمد فضلاً عن اصابته بمرض الثلاسيميا، يعاني أيضاً من الأنيميا أو فقر الدم المنجلي، لذلك كان يتعين عليه وعلى مدى سبعين يوماً تالية الخضوع لمزيد من الكشوفات المخبرية والسريرية.
طوال ستة عشر سنة من المعاناة بسبب الثلاسيميا، حصل إبني على أكثر من 190 كيس دم، 190 ملاكاً قدموا أعز ما يمتلكونه لينقذوه من الموت، وكذلك عدد كبير من الأطباء والممرضين والأناس الطيبين الذين مدوا لنا يد المساعدة.
في الرابع عشر من نيسان سنة 2019 أدخل أحمد إلى صندوق العزل وأخذوا يحقنونه بمواد كيماوية لتخليصه من خلاياه الجذعية القديمة.
ومع نهاية الأسبوع الأول زرعوا فيه المأخوذة من شقيقه وبقي معزولاً لخمسين يوماً كاملة قبل الإعلان عن نجاح عمليتهِ وتخلصه من الثلاسيميا إلى الأبد وما تبقى فقط هو ابقاؤه تحت الرقابة المنزلية لكي لا يتعرض لأي عدوى.
بعينين مغرورقتين بالدموع يختصر الأب رحلة السنة التالية من الترقب والقلق قبل أن يبشّره الأطباء بأن ولده أحمد قد تعافى تماماً. يجري عملية حسابية سريعة ويقول:
“طوال ستة عشر سنة من المعاناة بسبب الثلاسيميا، حصل إبني على أكثر من 190 كيس دم، 190 ملاكاً قدموا أعز ما يمتلكونه لينقذوه من الموت، وكذلك عدد كبير من الأطباء والممرضين والأناس الطيبين الذين مدوا لنا يد المساعد”.
صاروخ يدمر المنزل
يوم الإثنين 12 نيسان/أبريل الماضي 2021، استلم أحمد صدقي في مدينة الموصل درجات نجاحه الكاملة وانتقاله للصف الخامس الإعدادي فيما كانت تنظرُ منى في ذات اليوم إلى اللاشيء على مقعدها الجلدي في مركز الثلاسيميا بانتظار أن يكتمل إفراغ كيس الدم في جسدها.
شريط ذكرياتها ينتهي عند سقوط الصاروخ على الزقاق الذي فيه منزلها بشارع الفاروق في مطلع شباط/فبراير 2017 خلال معارك تحرير الموصل من داعش. غير أن التفاصيل محفوظة في ذاكرة ثائر ابراهيم رئيس جمعية الثلاسيميا:
“قبل موعد استلام جوازات منى وشقيقها الأصغر المتطابق معها نسيجياً ووالديها مع التأشيرات اللازمة للسفر سقطت الموصل بيد داعش في حزيران/يونيو 2014، وكان هذا يعني أن يقوموا بمحاولة الحصول عليها بتواريخ جديدة خصوصاً أن منحة المستشفى الايطالي كانت ما تزال قائمة”.
يروي رئيس الجمعية كيف أنه فعّل ضماناً صحياً جديداً لمنى بعد أشهر من ذلك وأرسل جوازات عائلتها الى مقر السفارة الايطالية في بغداد للحصول على تأشيرات السفر، وعند ذهاب الشخص المعتمد لجلبها اعتذرت السفارة وطلبت مزيداً من الوقت لأن طاقم قسم التأشيرات فيها كان قد تغير بالكامل.
جددت الجمعية الضمان الصحي لمنى للمرة الثالثة وأرسلتها مجدداً للسفارة لكن لم يتسن لأحد بعد ذلك الذهاب الى هناك لاستلام جوازات أفراد عائلة منى وتأشيرات سفرهم التي بقيت هناك ولغاية هذه للحظة.
يقول ثائر بتأثر و يواصل:
“بعد تحرير مدينة الموصل في شهر تموز (يوليو) 2017، زار مكتبي الشقيق الأكبر لمنى وأخبرني بأن زقاقهم قُصف خلال بدء تحرير الجانب الأيمن من المدينة وتسبب انهيارُ منزلهم بمقتل شقيقه الأصغر صلاح الذي كان سيتبرع لمنى بالنخاع وكذلك والدهُ وأصيبت منى ووالدتها بجروح وهما تتماثلان للشفاء”.
خطأ حسابي
طوال سنوات علاجها كانت منى تعدّ قطرات الدم التي سمعت ذات يومٍ طبيباً يقول بأن كل كيس يحتوي عشرة آلاف منها. تتجنب النظر إلى الأعلى حيث كيس الدم. بالنسبة لها لا جدوى اليوم من عد القطرات أو من تتبع الزمن بعد أن مات شقيقها صلاح وضاعت فرص الحصول على متبرع جديد.
تعدّل من جلستها وترفع يدها المربوط اليها أنبوبة نقل الدم، تحاول أن ترسم ابتسامة على وجهها.. “بالمناسبة.. لقد أخطأ الطبيب بعدّ القطرات التي تحتويها الأكياس هنا..لم أصل في العدّ مطلقاً إلى قطرة الدم رقم عشرة آلاف.. أقصى عدد يحتويه الكيس كان ثمانية آلاف..”.
*تم تغيير اسم الطفل المصاب بناء على طلب أسرته، حفاظاً على خصوصيته.