دخول
ليس ثمة اتفاق بين مؤرخي الأدب على تعريف شامل للجماعة الأدبية، غير أن كل من كتب في هذا السياق أشار الى رغبة التمايز عن السائد التي يحملها عدد من الكتّاب في زمن ومكان محددين، السائد هنا ربما يكون أسلوبًا أدبيًا أو فكريًا والتمايز عنه ربما يكون بأسلوب جديد يقترن ببيان واضح يحدد ملامح الجماعة أدبيًا أو فكريًا ويشير إلى اتفاق أعضائها على ذلك. غير أن هذا البيان “المانفيستو” غاب عن الجماعات العربية (العابرة للحدود) طوال حقبة النصف الأول من القرن الماضي كما هو الحال في جماعات “المهجر” و”الديوان” و”أبولو”، مع وجود الصحف والمجلات والآراء الفردية في نهج الكتابة، وكان غياب البيان وغياب التقارب الفكري والاجتماعي في تجربة رواد قصيدة الشعر الحر (السياب، الملائكة، البياتي) دليلًا واضحًا على عدم رسوخ الفكرة المستوردة من الثقافة الأوروبية حينها.
ومن باب المقاربة، لو نظرنا إلى تجربة جماعة الرواد في العراق للفن التشكيلي (أسسها فائق حسن عام 1947) والتي أثّرت في المحيط الثقافي لها، سنجد أن أحد اعضائها وهو الفنان محمود صبري يقترح عام 1950 إضافة تقاليد جديدة للجماعة، واصفًا دور الفنان بأنه “أكثر من أن يعيش اغترابه في مجتمعه قانعاً من حياته الخاصة في محيط عائلي ثقافي على مستوى متقدّم من الإنسانية والمعرفة”، وأن “على الفنان أن يخرجَ بتجاربه في الرسم إلى محيطه الاجتماعي الأرحب لرسم حياة الناس في المدينة، ويكفّ عن رسم بيئة هؤلاء الناس في الضواحي”، وتبدو هذه الفكرة التي يطرحها صبري تجسيدًا حقيقيًا لما كان يريده أعضاء الجماعات في الثقافة العراقية في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، والذي يمكن تلخيصه بخلق نسيج فكري معقد يمثل اغترابًا عن المجتمع البسيط وذي الوعي المنخفض.
تأثيث
بعد حربين مدمرتين خاضهما العراق غالبية عقد الثمانينات ومطلع التسعينيات أصاب التدهور المجتمع ككل، أما الثقافة فكانت تعيش انقسامًا منذ عقد السبعينيات على خلفية الصراع السياسي بين حزبي البعث والشيوعي. ومع استحكام نظام الحزب الواحد استمر الانقسام بأشكال متعددة (ثقافة حكومية وأخرى معارضة، ثقافة الداخل والخارج)، غير أن بدء الحصار ساهم بخلق قناعات أخرى خارج الثنائيات المستحكمة تجسدت بشكل أساسي في الأدب والنقد والمسرح وبدرجة أقل في الفكر والفن التشكيلي والنحت والدراما والسينما.
كانت حياة العراقيين صعبة جدًا في العقد الأخير من القرن الماضي. المتطلعون للأدب الجديد لم يأتوا بنصوصهم إلى الندوات والمهرجانات والمجلات والصحف من حياة جامعية أو نشاط حزبي أو غرف مكيّفة، على العكس، كان جيل الناضجين والشباب في الأدب العراقي بمعطياته الجديدة ينفضون غبار المعارك عن أجسادهم ليتدثروا بغبار شظف العيش وانحسار فرص العمل وغياب أساسيات الحياة الكريمة، قادمين من ثكنات مهزومة وانتفاضة 1991 التي سحقتها سرف الدبابات ودفنت ناشطيها وهم أحياء، حاملين في مخيلاتهم صور أرامل الحرب ويتامى الجوع، وكانت الطموحات لديهم مضطربة بشكل كبير، إذ اختلطت أحلام كتابة النصوص الأدبية برؤى جديدة مع أحلام الهجرة من البلاد في صراع انتصرت في الغالب الأخيرة فيه.
خطــ٣٠ // رسم إسراء صمادي
الدولة من جانبها لم تعد المؤسسات الثقافية فيها فاعلة ومؤثرة، الفعاليات الثقافية الدورية انحسرت والصحف والمجلات الأدبية توقفت عن الصدور، أما طباعة الكتب فقد أصبحت عسيرة، الأمر الذي سيفرز ثقافة “الاستنساخ” والتي ستكون ملمحًا أساسيًا في أدب العقد التسعيني بشكل عام، حيث بدأت مع شاعر مغاير التحق به آخرون هو حسين علي يونس.
في البداية، تم إيقاف جميع المجلات الصادرة عن “دار الشؤون الثقافية” (الأقلام، المورد، آفاق عربية، الطليعة الأدبية، التراث الشعبي)، وتوقفت معها إصدارات الدار من كتب الأدب والفكر المؤلَّفة والمترجَمة. حصل الشيء نفسه في “دار المأمون” المعنية بالترجمة والنشر، وامتد هذا الإجراء ليوقف حتى إصدارات الأطفال.
ظهر مصطلح “ثقافة الاستنساخ” بعد عام 1991 بشكل مباشر، حيث باتت الكتب المسموح بها والممنوعة تخضع للنسخ عبر الأجهزة الألكترونية القليلة لتصبح أرخص ثمنًا من الكتب المطبوعة محلية كانت أو مستوردة. الأدباء اختاروا الذهاب مع هذا الأسلوب الجديد لأنه يخلّصهم من سلطة مؤسسات الدولة التي كانت تطبع الكتب من جهة ولقلة التكلفة من جهة أخرى. وهكذا بدأت تصدر المجاميع القصصية والشعرية والمسرحيات المكتوبة والمجلات الأدبية ليتطور الأمر إلى كتب الفكر والنقد. لم يكن هذا التحرر فرصة لاستمرار الأدباء في النشر والتداول فقط بل فرصة للشباب غير المكرسين ثقافيًا عبر المؤسسات لاختراق الأوساط الثقافية وذياع صيتهم بوصفهم “هامش” يتسلق “المتن”.
حتى تلك اللحظة، كان المشهد بحاجة للجماعات الأدبية لكي يكتمل، خصوصًا أن فرصة الاغتراب الطوعي التي تتيحها الجماعة مناسبة لعقد التسعينيات أكثر من أي وقت آخر، لقد بدأت البلاد بالتداعي من كل الجوانب وشاعت الظواهر الشعبوية والتجأت الطبقات المتضررة من الحروب والحصار والقمع إلى الدين والتشدد، وهكذا، وفي ظل ترنح النظام، كان الأدباء المتحلّقون حول هواجسهم المضطربة يكتبون بأنفاس متعبة لكنها جديدة.
جماعة “الآن”
في عام 1997 أصدر الشاعران جمال علي الحلاق وفرج الحطاب بيان «الرؤيا الآن/ كشفٌ في سمات الشعرية الأحدث»، وأعقب الحطاب ذلك بإصدار جديد -بالتعاون مع صديقه الشاعر عباس اليوسفي- في العام التالي كتاب «الشعر العراقي الآن» تضمّن مقدمة ومختارات لسبعة وعشرين شاعرًا، وقد شكّل الإصداران تنويهًا كبيرًا بنشوء جماعة أدبية تحمل همومًا خاصة حيال آليات كتابة الشعر أرفقتها دائمًا مع كلمة “الآن” التي تؤشر إلى معطى زمني يفصل ما قبله عمّا بعده. وتركزت مفاهيم الجماعة التي ضمّت (الحلاق والحطاب واليوسفي) على انقطاع الأثر السياسي في النص الشعري، حيث ورد في البيان “إن ما يتقوقع من التجارب الشعرية ضمن إطار أيديولوجي يموت وينتهي بموت من هتفت له، وتبقى التجارب الشاملة “، لكن علاقة هذه الجماعة بمحيطها كانت الأكثر جدّة وحداثة بالنسبة للعقل الشعري العراقي، فهم يريدون اغترابًا يمنحهم نظرة طازجة لما حولهم لا تتأثر بالذاكرة، يقول البيان: “ها هي الذاكرة القديمة تتحطم، وعلاقتنا العاطفية مع الأشياء تأخذ بعدًا آخر… الشوارع، الجسور، البنايات، الأصدقاء… ها هي ذكريات الأمس تفصلها عنا آلاف السنين الضوئية، كل شيء يتحول إلى لا شيء… ولذا نحتاج إلى بوصلة ومراعٍ كي نفرش عليها ذهولنا”. غير أن حلم الهجرة كان يداعب أعضاء الجماعة للهروب من الواقع المؤلم فاختار جمال علي الحلاق وفرج الحطاب مغاردة الوطن ليبقى عباس اليوسفي داخله يترقى في الدراسة الأكاديمية قبل أن يعاجله المرض ويبقيه أسير جسده.
خطــ٣٠ // رسم إسراء صمادي
جماعة “قصيدة الشعر”
ظهرت هذه الجماعة في النصف الثاني من عقد التسعينيات، وكانت التجارب الأولى لهم مطروحة في رابطة الرصافة للشعراء الشباب، قبل أن يخرجوا في لقاء صحفي أجراه معهم الناقد ناظم السعود عام 1998 بصحيفة “المصور العربي” ليطلقوا النار على قصيدة النثر وعلى أسماء كبيرة في الثقافة العراقية والعربية واصفين إياهم بـ “النظّامين”، وكان جوهر أفكار الجماعة هو الوزن الشعري بما يمثله من أصالة مفقودة “بحسبهم” في الشعرية العربية اليوم، غير أنهم يدافعون عن فكرتهم ويصفون تركيزهم على الشعر الذي لا يتضمن استسهالًا في الكتابة بغض النظر عن كونه موزونًا أو لا. أتبعت الجماعة ذلك الحراك بإصدار مجلة “أشرعة” عام 1999، ثم وصلوا الى تتويج مشروعهم بإصدار بيان “قصيدة الشعر” عام 2002 في بغداد، ووقّع عليه كلٌّ من (بسام صالح مهدي، مضر الآلوسي، محمد البغدادي، نجاح مهدي العرسان، رشيد حميد الدليمي، عارف الساعدي). غير أن جماعة تحمل المفهوم ذاته ادّعت ريادةً مختلفةً لاستعادة مفهوم الشعر من الضياع في بحر الاستسهلال لدى النظّامين وكتّاب قصيدة النثر، لتصدر جماعة “مدار الصفصاف” بياناً أسموه “بيان المراجعة” عام 2007 في القاهرة، ووقّع عليه مجموعة من الشعراء والنقاد منهم (فائز الشرع، علي محمد سعيد، علاء جبر، حسن عبد راضي، نوفل أبورغيف، قاسم السنجري، طاهر الكعبي، مشتاق عباس معن، مهدي جاسم، إحسان التميمي).
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين”
ليس الشعر وحده من حفل بظهور الجماعات الأدبية في العراق إبّان عقد التسعينيات، بل السرد أيضًا، وربما كانت جماعة البصرة أواخر القرن العشرين التي ظهرت في مدينة البصرة جنوب العراق في أيار 1991 بعد حرب الخليج الثانية أكثر انتظامًا وأعمق رؤية من غيرها في هذا المضمار، إذ يحسب لها أنها الجماعة القصصية الأولى في العالم العربي التي تصدر رأيًا أدبيًا مختصًا في هذا الفن.
كان الظهور الأول للجماعة بشكل حاسم في جريدة (العراق) بتاريخ 26/ آذار/ 1994، حيث جاء العدد مشتملًا على عدد من القصص القصيرة جدًا مع بيان قصصي حمل عنوان: “مختبر جماعة البصرة أواخر القرن العشرين/ أنساق القصة القصيرة جدًا- إضاءات الرحلة- وهواجس التجربة”.
كان واضحًا في البيان النزعة نحو صهر التجارب القصصية في مشروع موحد، حيث ورد فيه “الظاهرة أولًا -فعلها الحي- ولا شيء غير الظاهرة أمّا الموهبة الفردية النزقة فهي كينونة متلاشية ولا صلة لها بدرب الرحلة الحضارية العميقة”، وقّع البيان كل من: قصي الخفاجي، كاظم الحلّاق، محمد عبد حسن، كريم عباس زامل، نجاح الجبيلي، وتطرقوا فيه بشكل خاص إلى القصة القصيرة جدًا، عادّينها ملمحًا أساسيًا في تجربتهم، حيث يقول الموقّعون: القصة القصيرة جدًا بالذات نكتبها بنار الجسد فهي حقيقة حسيّة مثلها مثل أي حمامة تنزع ريشها وتصطلي بشمس الحقيقة.
خطــ٣٠ // رسم إسراء صمادي
جماعة “النقّاد”
كما أن للشعر والقص جماعاته، كان للنقد جماعته الأدبية في العراق، لقد حاولت هذه الجماعة ومنذ ظهورها أواخر التسعينيات للتأصيل إلى فكرة أساسية وهي : أن الثقافة العراقية لطالما كانت ثقافة شعرية أو أُريد لها أن تكون كذلك وأن الوقت قد حان لتكون الثقافة العراقية نقدية. يقول الاسم الأبرز في الجماعة د. حيدر سعيد : “لقد ظلّت الثقافة العراقية إلى الآن ثقافة شعراء، بمعنى أن الوقائع التي كان يتشكّل منها تاريخ هذه الثقافة هي وقائع شعرية. هكذا كان يكتب تاريخ الثقافة العراقية الحديثة، مشهد طويل للشعر وتحولاته وللشعراء وحركتهم وتجمعاتهم، وكل ما سوى ذلك يختفي بطريقة ما تحت هذا الشعر أو يظهر غريبًا. إننا لا نعرف أين نضع علي الوردي أو ياسين خليل أو حتى الزهاوي والرصافي، المفكرين لا الشاعرين”.
بدأ الأمر مع هذه الجماعة حينما تمّ السماح لعدد من أعضائها بالإشراف على عدد من مجلة “الطليعة الأدبية” عام 1999، وقد حاولوا جعل هذا العدد مجلتهم الخاصة التي تمثل أفكارهم وتوجّهاتهم، وتضمّنت مواد العدد بيانًا لم يتم تسميته بذلك رغم وضوح سياقه كتبه محمد غازي الأخرس وتمحور حول صراع الأشكال الشعرية والأدبية وموقف النقد من كل ذلك. لكن هذا العدد الذي حقّق غايته لم يتسن لمحرريه أن يستمروا في عملهم نتيجة الغضب المؤسساتي مما جاء فيه. تنوعت اهتمامات أعضاء الجماعة التي لم تطلق على نفسها اسما بين النقد الأدبي والفلسفة واللسانيات وأبرز أعضائها يمكن حصرهم بالأسماء الآتية: حسن ناظم، ناظم عودة، علي بدر، صفاء صنكور، جمال العميدي، محمد غازي الأخرس، سعيد عبد الهادي، يوسف اسكندر، علي حاكم، قاسم محمد عباس، أسماء جميل، يحيى الكبيسي.
خروج
بقي تأثير الجماعات الأدبية في العراق إبان التسعينيات واضحًا في مرحلة غزو عام 2003 وما تلاه، إذ وبرغم الهجرة الواسعة لأعضاء هذه الجماعات إلا ان عددًا كبيرًا منهم استفاد من سقوط الديكتاتورية وسهولة التواصل وفسحة الإنترنت ليكون مؤثرًا على مستوى الرأي العام ثقافيًا وسياسيًا. وفي حين انخرط عدد كبير من أعضاء هذه الجماعات في الدراسات الأكاديمية والعمل بوسائل الإعلام فقد أصبحوا جزءً من القوة الناعمة التي تصنع الرأي العام. لكن الوضع اليوم قائمٌ على الرؤى الفردية بشكل عام، فالجماعات انحلّت وتباعد أعضاؤها واختلفوا في ما بينهم إلى حد كبير. لكنهم استمروا بإثراء مشروعاتهم الأدبية عبر إصدارات شعرية وقصصية ونقدية وفكرية، لقد باتت الجماعات إرثًا في الذاكرة وأرضية في صياغة المفاهيم الجديدة لمرحلة مختلفة تمامًا عن أيام الحصار.