قرب إحدى استراحات الرمثا التي يتوقف فيها مسافرون وسائقون متجهون إلى سوريا عبر حدود جابر-نصيب، وفي الثامنة صباحاً، التقيتُ بعبدلله الحوراني، الشاب الرمثاوي الذي سيُقلني إلى سوريا براً خلال بضعة ساعات. يعمل عبدلله، 29 عاماً، سائقاً مرخصاً لنقل الركاب والبضائع بين الأردن وسوريا، وهو ما يطلق عليه لقب “البحارة”، المهنة المتوارثة بين معظم عائلات الرمثا منذ زمن بعيد.
تتبع الرمثا، وهي منطقة حدودية شمال الأردن، إدارياً لمدينة إربد التي استقبلت بداية الأزمة في سوريا ما يقارب 4 آلاف لاجئ سوري، وسُجلت من أكثر المدن المستقبلة للاجئين نظراً لقربها الجغرافي مع سوريا. ورغم تأثر إربد الواضح بالأحداث في سوريا، إلا أن الرمثا كمنطقة حدودية تبلغ المسافة بين حدودها ودرعا نحو 14 كيلومتراً، تأثرت على نحو أكبر. عُرف أهل الرمثا بمهنتي التجارة والبِحارة المعتمدة على العلاقات مع درعا، حيث يزوّد البحارة سوق الجملة الرمثاوي بالبضائع السورية الرخيصة ومنه إلى باقي محافظات المملكة. وبعد إغلاق الحدود أُنهكت الرمثا اقتصادياً بعد أن كانت سوقها تتفوق على باقي مناطق المملكة بأسعار وجودة بضاعتها.
تُرك المجال مفتوحاً، في 2011، أمام البحارة لنقل البضائع من درعا إلى الرمثا. يوضح البحّار حسن السقار أن السائقين لم يمتنعوا عن الذهاب إلى درعا بعد الأحداث وأن الدولة تركت لهم الخيار بالمخاطرة، ويقول “نحن بحارة الرمثا كنا نفضل أن نجازف على أن نجلس في البيت”. ولكن التنقلات خفّت تدريجياً حتى اشتد الخطر الأمني سنة 2013 وجاء القرار الرسمي بإغلاق الحدود التي لاتزال كذلك حتى اللحظة؛ بسبب عدم جاهزية حدود درعا لاستقبال المسافرين.
بعد فترة بسيطة من إعادة إحياء العلاقات التجارية بين المنطقتين أقرّت الحكومة الأردنية قائمة من البضائع ممنوعة الاستيراد من سوريا ما خيّب آمال التجار والبحارة، حيث ضمت القائمة قرابة مائتي نوع من مواد غذائية وزراعية وصناعية..
كانت وجهتنا في رحلة الذهاب إلى سوريا هي حدود جابر التابعة إدارياً لمحافظة المفرق والتي تم فتحها في التاسع والعشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي. عند حدود جابر تتجمع سيارات البحارة للالتقاء بالمسافرين المحتملين؛ إذ تخضع المركبات العمومية لشرط التسجيل في منصة إلكترونية حكومية لتنظيم دخولها إلى سوريا، فيحظى السائق العمومي برحلة واحدة كل خمسة أيام. وبالتالي لم يعد الحصول على ركّاب بالأمر اليسير كالسابق. يقول السقار “زمان كان كل بحار عنده زباينه، يتصلوا فيه تطلع بكرا ويطلع، اليوم إذا المسافر مستعجل بتعطيه لبحار ثاني عليه الدور”. ولأن الدخول إلى سوريا يشترط على السيارة العمومية وجود راكب واحد على الأقل، ينتظر البحارة منذ الصباح الباكر وصول الركاب إلى جابر. وفي بعض الحالات قد يخسر السائق دوره في المنصة إن لم يجد راكباً.
يبدأ البحارة بالتجمع، بجانبهم تقف بعض السيارات العمومية السورية، هم أيضاً عليهم التسجيل في المنصة لتنظيم الحركة. يتبادل بعض البحارة الركّاب فيما بينهم، تسمع أحدهم يتساءل “طالع عالشام؟ تاخذ الراكب معك؟ أنا مش طالع راح أضل بنصيب عندي بضاعة بتستناني هناك”، العديد من البحارة لا يحتاجون الركاب إلا للعبور، يقول أحدهم “لا أبحث عن ركاب، لكني مضطر لكي أدخل حدود نصيب، هناك بضاعة تنتظرنا”.
يُفترض أن أغلب البحارة القدامى اعتمدوا في ربحهم على نقل البضائع لا على الركاب قبل الأزمة. المعادلة اليوم مختلفة قليلاً؛ أغلقت الحدود الأردنية السورية لمدة خمس سنوات وأعيد فتحها في 2018، آنذاك كانت درعا تحاول استعادة أنفاسها إثر الحرب والدمار الاقتصادي، وبعد فترة بسيطة لإعادة إحياء العلاقات التجارية بين المنطقتين أقرّت الحكومة الأردنية قائمة من البضائع ممنوعة الاستيراد من سوريا ما خيّب آمال التجار والبحارة، ضمت القائمة قرابة مائتي نوع من مواد غذائية وزراعية وصناعية، بحجة اشتراط المعاملة بالمثل من حيث الصادرات والواردات مع سوريا. يشتكي أحد تجار الجملة في الرمثا، بأن الدولة لا تفترض المعاملة بالمثل مع دول أخرى كالصين وتركيا، وأن البضاعة السورية أكثر تفضيلاً بالنسبة للأردنيين من الصينية التي أغرقت السوق بعد الأزمة. تلى إعلان هذه القائمة أن فرضت العقوبات الأمريكية قانون قيصر لتعزيز عزلة الاقتصاد السوري والتي طبقها الأردن ومنع الاستيراد والتصدير مع شريكه التجاري الثالث سابقاً.
بعد الأزمة ومنع الاستيراد من سوريا في 2019 لجأ العديد من التجار إلى التعامل مع لبنان، حيث أصبحت البضاعة السورية تذهب إلى هناك وتُغيّر طبعة المنشأ إلى “صنع في لبنان” أو تركيا، وتورّد إلى الرمثا بأسعار أعلى..
مع فتح حدود جابر – كانت قد أُغلقت في 2020 بسبب جائحة كورونا- أعلنت الدولة عن انفراجة جديدة عبر السماح باستيراد بعض البضائع بشروط عديدة، مع رفع الرسوم عليها ومنع السائقين من جلب أي “كروز دخان” وإتاحة جلب كروز واحد للركاب من سوريا. ومع ذلك فلا يزال عدد هائل من البحارة يخاطر بنقل البضائع، يخبرني عبدلله بأن البضاعة التي أدخلها منذ أيام إلى الأردن بفاتورة 700 دينار (987.32 دولار) فُرضت عليها رسوم بمبلغ 250 دينار (353 دولار) مع منع اللحوم التي جلبها من الدخول.
مع ذلك، يرى عبد الله أنه لابد من المخاطرة، بدا لي الأمر كما لو كان طريقة في العيش يورثها سكان المدن الحدودية إلى أبنائهم وليس مجرد مهنة فقط، هذه العلاقة بين مكانين هي في صميم شكل العيش على مدينة حدودية، فكيف إذا ارتبطت هذه العلاقة بلقمة العيش، لا سيما وأن فرص العمل المتاحة في مدينتهم الأم قليلة.
صُنع في لبنان
صادفتُ في زيارة سابقة للرمثا عدداً من باعة الجملة الرمثاويين وتحدثنا عن تأثير إغلاق الحدود، يقول أحد أصحاب محلات الجملة لبيع المنظفات إنه خسر ثلثي زبائنه من شتى المدن الأردنية. ويوضح “الزبون أو التاجر الأردني معتاد أن أجلب له بضاعة سورية جودتها عالية بأسعار رخيصة، بعد ما أغلقت الحدود دخلت شركات أردنية على الخط وأسعارها أعلى، حتى الشركات السورية التي فتحت في الأردن لم تعد تقدم بضاعة بنفس الجودة وزادت السعر علينا”، لذا لجأ العديد من التجار الأردنيين إلى تخفيض اعتمادهم على الرمثا للتزود بالبضائع.
في طريقي إلى سوق البحارة “السوق السوري”، أوقفتني سيدتان ظنتا أنني من أهل المنطقة وسألتني إحداهما عن محل لبيع الملابس لأنها ليست من المنطقة، أخبرتني بأنهما جاءتا من العقبة؛ كان الأمر غير مألوف فإلى جانب أن العقبة تعد المدينة الأرخص بين مدن المملكة فقد قطعتا المسافة حرفيًا من جنوب البلاد إلى شمالها. “ما الذي قد يدفع أهل العقبة للتبضع من الرمثا؟” سألتُها، فقالت إنهما جاءتا في أثر السمعة القديمة للرمثا بأنها بضاعتها الأرخص والأفضل، ولكن يبدو لهما الآن بأنهما أخطأتا. يؤكد على ذلك تاجر ألبسة؛ يقول “كانت الناس تأتي من كل مكان، لكسوة الأولاد في العيد ومواسم الشتاء والصيف والمدارس، لكن كل شيء تغير وارتفعت الأسعار علينا وعليهم”.
بعد الأزمة ومنع الاستيراد من سوريا في 2019 لجأ العديد من التجار إلى التعامل مع لبنان، حيث أصبحت البضاعة السورية تذهب إلى هناك وتُغيّر طبعة المنشأ إلى “صنع في لبنان” أو تركيا، وتورّد إلى الرمثا بأسعار أعلى. وبدلاً من الاستعانة بالبحارة الذين كانوا الوسيلة الأكثر يسراً وأقل تكلفةً لنقل البضاعة؛ أصبح التجار يتعاملون مع شركات الشحن لجلب هذه البضاعة.
إرباك من أجل التنظيم
إن عملية تسجيل السائقين العموميين على المنصة وتحميل الركاب من الحدود دون اتفاق وتجهيز مسبق تسبب المتاعب على الحدود، تحديداً مع الاشتراطات الأردنية الصارمة لدخول السوريين والتي قد لا يعلم الراكب عنها قبل عبوره. في بعض الأحيان قد ينتظر البحارة عدّة ساعات مع الركاب لحين الانتهاء من فحص كورونا على الحدود، أو لانتظار بعض الموافقات الأمنية. أو قد ينتظرون تصريح الدخول عبر المنصة بين الحد السوري والأردني ليلة أخرى مع الركاب. عدا عن الوقت الذي قد يستغرقه التفتيش في الجمارك الأردنية.
لا يكتفي الموظفون في الجمارك والمخابرات في منطقة جابر بفحص السيارات عبر الأشعة. وإنما تستغرق مدة التفتيش اليدوي نصف ساعة وقد تصل إلى ساعة ونصف للسيارة الواحدة أحياناً. يجلب الموظفون مفكاً لإزالة البطانات العظمية الداخلية للسيارة وكل ما يمكن فكّه ليضحدوا أي احتمال لتهريب بضائع من سوريا. يقابل السائق الذي جئت معه في رحلة العودة عمليات الخلع التي قد تخرب بطانات السيارة بهدوء شديد ومُستغرَب، حتى أن موظف الجمارك الذي كان يفتش السيارة قال مستغرباً “الركاب زعلوا على السيارة أكثر منك” واستأنف عملية التفتيش دون أن يقول السائق شيئاً.
يتخوّف العديد من البحارة من حدود جابر، ويتطلعون إلى فتح حدود الرمثا ورجوع عقودهم الذهبية، فالإجراءات في جابر متشددة وغير متسامحة إلا في أحيان نادرة منذ آخر انفراجة للحدود.
انتماءات المنطقة الحدودية
في الوقت الذي كنت أمشي فيه في شوارع الرمثا، أراقب عن كثب محلات البضائع بالجملة وهي تستعد ليوم عمل جديد؛ لمحت على شرفة أحد المنازل خيمة يونيسيف معلقة، صُنعت وجيء بها للأردن من أجل اللاجئين السوريين. اعتدنا منذ اللجوء السوري، أن نجد هذه الخيام تُستخدم في إربد لغايات غير التي جيء بها من أجلها.
هناك شيء من الانتماء يشعر به أهل الرمثا نحو سوريا، أحد تجار بيع الألبسة الذين قابلتهم قال لي “سوريا بلد خير، بضاعتها حلوة ومجبورة من عند ربنا (…) إحنا رزقتنا بعد الله ع سوريا، بنحبها كثير، غالية علينا” واستمر وقتها بشرح تفاصيل العلاقة بين المنطقتين والأنساب بين درعا والرمثا، حتى وصل إلى تفضيل الرمثاويين الذهاب إلى سوريا للترفيه عن أنفسهم على ذهابهم لعمان على سبيل المثال. بدأت الصورة تتضح بالفعل عندما وجدت معظم لافتات المحلات التجارية بالرمثا لاتزال متمسكة بجملة “بضاعة سورية” ضمن محتوياتها، عدا عن المحلات المسماة بأسماء مدن سورية، متمسكين بأمل أن ترجع حياتهم كما كانت عليه في السابق.
عند دخولي إلى نصيب (ريف درعا) بعد الانتهاء من مشاهد الحواجز السورية، وجدت نفسي أمام صورة طبق الأصل عن مدخل الرمثا من إربد. التربة الخصبة نفسها وهو المتوقع لأن المنطقتين تقعان ضمن إقليم سهل حوران، المنازل الكبيرة المستقلة والمتباعدة عن بعضها؛ متشابهة في عمرانها إلى حد كبير، والطريق إلى جسر درعا يشعرك بأنه طريق خارجي لمدينة إربد. لا شك أن الهوية البصرية المتشابهة بين المنطقتين واللهجة المتماثلة بينهما تنفيان شعور الانتقال أو الخروج من بلد ودخول آخر.
الاختلاف الجوهري بين الرمثا ودرعا هو الزراعة، فرغم أن منطقة الرمثا منطقة خصبة، إلا أن الرماثنة لا يعتمدون على الزراعة في اقتصادهم، يقول أحد البحارة الذين قابلتهم في جابر “معروف أن ليس لدينا صبر على الزراعة، السوريون يحبونها وهي عملهم… كما أن الماء في سورية ببلاش”. ويتابع أن طبيعة عملهم بالتجارة والنقل لعقود تجعل منهم أبعد عن الزراعة. الأراضي المزروعة في الرمثا اليوم نجدها مستأجرةً من قبل السوريين الذين نقلوا أساليبهم الزراعية للمنطقة.
المهنة تحمل بطياتها العديد من المخاطر، تحديداً في سوريا، فطريق درعا تسيطر عليها قوات غير نظامية موالية للنظام، ما إن يتوقف السائق حتى يسلمهم باليد “مصروفات” تعفيه من التأخير والتوقف جانباً. مررنا في طريق العودة عن أكثر من ستة حواجز من درعا حتى حدود نصيب الرسمية. دفع خلالها السائق 37 ديناراً (52 دولاراً). بحارة آخرون يدفعون 100 ديناراً (141 دولاراً) لسائق يمشي أمامهم عبر الحواجز ليتم إعفاءهم من التفتيش على البضائع الممنوعة سورياً من تصديرها إلى الأردن.
اعتاد البحارة عيش حياتهم على الطرق، بعضهم يبقى أياماً في سوريا حتى يأتيهم مسافر أو اثنين إلى الأردن إن لم يريدوا المخاطرة بجلب البضائع. السفر كل خمس أيام لم يعد مجدياً كالسابق. تحديداً مع أسعار المركبات وطبعات النقل التي تكلف 60 ألف دينارأ (أكثر من 84 ألف دولار) مع 100 دينار (140 دولار) للترخيص السنوي و200 دينار (282 دولار) لهيئة تنظيم النقل البري سنوياً، والتي لم يتم إعفاءهم منها حتى في سنوات جائحة كورونا، باستثناء تخفيض الهيئة للرسوم بقيمة 50 دينارًا فقط (70 دولار)، فضلًا عن إيجار المركبات للبحارة الذين لا يمتلكون سيارات مرخصة خاصة بهم.
بدا لي الأمر كما لو كان طريقةً في العيش يورثها سكان المدن الحدودية إلى أبنائهم وليس مجرد مهنة فقط، هذه العلاقة بين مكانين هي في صميم شكل العيش على مدينة حدودية، فكيف إذا ارتبطت هذه العلاقة بلقمة العيش!
لا يستطيع معظم البحارة الذين قابلتهم الاستغناء عن مهنة النقل، يجدون فيها ملاذهم الحقيقي الذي لا يمكنهم إيجاده في أعمال أخرى. في الأزمة السورية لجأوا إلى نقل الركاب إلى السعودية ولكنهم يخشون القوانين هناك التي تجرّم السائق في حال إدخال الركاب للممنوعات ولم يعترفوا بمسؤوليتهم عنها. أخبرني سائقون ممن قابتهم بأنهم واجهوا مشكلات مماثلة، أحدهم ظل سجيناً في السعودية مدة 3 أشهر حتى اعترف الراكب أخيراً بأن البضاعة التي وجدوها في السيارة تعود له.
يحنّ بحارة الرمثا إلى سوريا بشكل أساسي، وكذلك إلى أيام النقل من العراق الأبعد مسافةً، ولكن العراق بعد 2003 لم تعد خطاً رئيساً لتنقلاتهم. يمكن القول إن البحارة قبل الأزمة كانوا أشبه بمواطنين عابرين للحدود، يخرجون من بيوتهم صباحا ويمكثون في سوريا إلى المساء، يعودون ليلًا أو قد يبيتون، رزقهم يعتمد على الجهة الأخرى من “نصيب”، وحياتهم العائلية على الطرف الأول قبل “جابر”، حين كان عبور الحدود مثل عبور شارع قد يعطله بعض الازدحام.