في العام 1979، كتب رامي مجموعة من الرسائل لصديقه رالف الذي غادر لبنان قبيل الحرب. ورغم أن تواريخ بعض هذه الرسائل تتزامن مع اشتعال العنف في بيروت؛ سألت نفسي سؤالًا بعد أن قرأتها، ولم أجد إجابة عليه: لماذا يكتب القليل جدًا في مراسلاته عن الحرب؟ لماذا لم يصل أي رد من رامي؟
أنا لا أعرف رامي ولا رالف، ولم أقابلهما في حياتي، لكن ثلاثين رسالة من رسائل الأول التي ظلًت بلا رد عليها، وصلت إلّي بالصدفة بعد أكثر من أربعين عامًا من كتابتها. كنت أقلّب في إنستغرام، حين رأيت صورة لمنزل مهجور في الأشرفية تظهر على أرضيته أعداد متفرقة من جريدة “النهار”. كان ذلك في ربيع العام الماضي، حين بدأت بجمع الملحق الثقافي الأسبوعي الذي كانت تصدره الجريدة خلال التسعينات (يوثق نقاشات المشهد الثقافي في بيروت بعد الحرب وكان يشرف على تحريره الروائي الياس خوري). جمعت أعدادًا من عامي 1999 و 1998 وأردت إضافة أعداد من الفترة المبكرة من عمر الملحق، حين كان أكثر تنوعًا لناحية الكتّاب والمواضيع.
سألت صاحبة الصورة عن موقع المنزل، وذهبت.
ينتمي البيت إلى عمارة كلاسيكية شاعت عندما كانت الأشرفية حيًا تسكنه عائلات أرستقراطية، قبل أن يصبح كثير من هذه المنازل مهجورًا بعد أن غادر أصحابها لبنان وتركوها. كان المبنى من طابقين، له واجهة ثلاثية الأضلاع وتسوّره حديقة صغيرة، أحد جدرانه مهدّم إثر انفجار المرفأ، غرفهُ فارغة عدا بعض الدفاتر والكتب القديمة المتناثرة قرب المدخل.
في الطابق الثاني، وجدت عشرات الأكياس المليئة بأعداد جريدة النهار التي تعود إلى الفترة الممتدة بين عامي 2004 و 2008. هي مرحلة تكثفت فيها الأحداث الأمنية: اغتيالات لشخصيات سياسية معارضة للاحتلال السوري، تفجيرات للسيارات المفخخة، حرب تموز 2006…إلخ
لم أعثر على طلبي، لكني وجدت في الطابق الأول أوراقًا رسمية ومحاضر محكمة فهمت منها أن صاحب المنزل الأصلبي كان يعمل مصمم أحذية ويمتلك مشغلًا صغيرًا لتصنيعها. في إحدى الأوراق دوّن أسماء نجمات كان يصمم أحذيتهن خلال الأربعينيات، منهن نور الهدى ولور دكاش.
عثرت أيضًا على دفترين بداخلهما عشرات الرسائل المكتوبة بالإنجليزية يعود تاريخها إلى عام 1979 لشخص يبدو أنه حفيد مصمم الأحذية. في البداية ظننت أنها رسائل حب بسبب حميمية لغتها، ولكن بعد أن قرأت أكثر تبيّنتُ أنها رسائل موجهة إلى صديقه الذي هاجر من لبنان وتركه وحيدًا. هذا الوحيد هو رامي.
الأشرفية 5 آذار 1979
عزيزي رالف،
مر وقت بدون أن أعرف أخبارك. حاولت الإتصال بالرقم الذي أعطتني إياه عليا، لكن لا جواب. كيف كل شيء؟ هل تتأقلم جيدًا؟ لم أكن أتصور يومًا أن تمر أسابيع دون أن أعرف شيئًا عنك.
رفضت الـ AUB طلبي لأن مجموعي 491 نقطة بينما أحتاج 500 نقطة للقبول. شوف أكل الخرا! عندما عرفت الخبر مشيت لساعتين متواصلتين. في النهاية، أرسلت تيليغراف إلى صهري في كاليفورنيا كي يسجلني في أي جامعة خلال الخريف.
في المساء التقيت عليا في “ميلك بار” وأخبرتها ما حصل. قالت شو بكن عم تسافروا كلكن هيك؟ بكرا بيرجع رالف، وبتروح إنت! أحزنني كلامها أكثر مما كنت حزينًا.
بعد خروجنا من “ميلك بار”، قررنا كالمعتاد الذهاب لمشاهدة السينما. كان الفيلم من بطولة ريشارد غير وإسمه Blood Brothers. فيلم جميل ينتمي إلى نفس موجة أفلام المهاجرين الإيطاليين في الولايات المتحدة. أوعا يروح عليك!
لا زلت أشاهد الأفلام باستمرار. هي هوايتي المفضلة. منذ بداية العام وحتى اليوم، شاهدت 38 فيلمًا. يعني فيلم كل يومين تقريبًا. أستطيع أن أقدم شهادة دكتوراه بالسينما! خلال الشهرين الماضيين، افتتحت في بيروت ست صالات جديدة. ثلاثة في الغربية هي إسترال 1، إسترال 2 وماريغنام، وثلاثة في الشرقية هي إسباس 1 وإسباس 2 وفاندوم. يعني رح تجي تلاقي السينمايات أكتر من الدكاكين. صراحة، الشعب اللبناني لازملو سينما آكتر ما لازملو خبز.
في طريق العودة، مررنا بمكتب البريد لنتفقد الرسائل الجديدة. كانت عليا غير مبالية وحزينة: “أنا أكيدة إنو عم يصوفر” قالت. لكننا وجدنا رسالتين منك، في الأولى تبدو صورتك “مع الفرق بالنص، طالع متل العكروت” وفي الثانية “عيونك باظين من وجك متل السمكة يلي كانت عندي. بتتذكرها؟ هيدي اللي كنت تبعصا كل ما تطلّع فيك!
بعد أن قرأت عليا رسائلك، خرجت تنهيدة من صدرها. كانت سعيدة وقد فرحني ذلك. نسيت بسرعة ما حصل معي في الصباح.
كما تلاحظ، الأوراق مرقمة في الأعلى. استعمل مؤخرًا لكتابة الرسائل دفتر نسخ من النوع الذي يستعمله تلاميذ الكيمياء في المختبر خلال كتابة التقارير. قررت أن أفعل مثلهم، هكذا أبقي على نسخ من الرسائل معي.
يوم أمس مرّ عليّ داني لنتمشى قليلًا في الأشرفية. رأينا نسخًا كثيرة من جان ترافولتا في كل مكان. يمشون مثله، يصففون شعرهم مثله، ويلبسون مثله. حين تراهم من الصعب أن لا تضحك.
بعدها ذهبنا إلى مقهى Chase كي نشاهد مسلسل The Muppet Show. خود عضحك. بس خلّص إجا الأكل. كنت عم خض قنينة الكاتشاب، قام فلت الغطا وإجا كل شي بقلبا على وج إدوارد وعويناتو وشعراتو. كان في بنت ورانا، إجا الكاتشاب على صدرا. كتير جرصة، كأنك بأفلام بيار ريتشارد. بس كمان المشهد كان سكسي الصراحة.
لم أضحك بهذا الشكل الهستيري منذ 15 تشرين الثاني 1977. يجب أن تتذكر هذا التاريخ. أليس كذلك؟ إنه عيد ميلادك يا أهبل. وقت كنا بزحلة وقرطنا سكرة. كان لازم نكتب شو صار معنا هيداك اليوم. ما هيك؟
أحيانا أفكر أننا لو سجلنا يومياتنا زمان (أقصد أنا وأنت وإيلي) ستكون متطابقة بالتأكيد… هل ستأتي خلال الصيف؟ أخاف أن تأتي وأكون أنا قد سافرت، حينها ستضيفون أشياءً جديدةً إلى كتاب يومياتكم وأصبح أنا وحدي!
عفكرة قمت بتكرار مشوار زحلة منذ أسبوعين، لكن هذه المرة كنت أنا وداني وحدنا. لدى والده معمل بلاط كبير قرب شتورة، وكعربون تقدير لجهود المعمل خسّرناه خمس بلاطات حفرنا عليها أسماءنا. عليا طلبت مني أن أحفر اسمها واسمك على بلاطة زهرية يفترض أن ترسلها لك قريبًا. اختارت اللون الزهري لأنه مزيجٌ من الأحمر والأبيض اللذين يرمزان للحب والنقاء. داني حفر اسمه واسم رحاب. أنا حفرت اسمي على بلاطة بيضاء اللون.
بعد انتهاءنا، مشينا من المعمل إلى منزل داني. كان الطريق جميلًا جدًا. تذكرت فيلم Cries and Whispers. أما زلت تذكره؟ تحديدًا حين يمشي الأربعة سويًا على الطريق. كل شيء كان متطابقًا مع الفيلم باستثناء أن الشجر هذه المرة كان السرو. سنابل القمح كانت نفسها أيضًا. كل سنبلة طولها متر. شي يفوق الخيال من جماله. أخذت بالكاميرا بعض الصور سأريك إياها لدى عودتك.
بعد وصولنا إلى البيت، أشعلنا الموقدة وبدأنا نشرب. أراد داني وإخوته أن يسكروني كما حصل آخر مرة. لكن صديقك اليوم شخص مختلف عن صديقك في الأمس. شربت تسع كؤوس من الفودكا دون أن أتأثر. ضحكنا كثيرًا ليلتها. تعرف كي تضحك من قلبك يجب أن تكون سكران. فالمشروب يساعد أن تنسى ما يحصل حولك لأن الحقيقة أخت شرموطة.
عليّ أن أنهي الكتابة الآن
أقبلك على شواربك التي لم تنبت وعلى أنفك الرائع
رامي
الأشرفية 17 كانون الثاني 2020
استيقظت مبكرًا على صوت ارتطام مرعب على السطح. ارتج المنزل كأنه سيقع في مكانه. حين خرجت وجدت الجيران مجتمعين قرب شجرة الأفوكادو. قالوا إن بعض أغصانها الكبيرة انكسر وسقط على السطح. قالوا إن تفسخ الجذع بضغط انفجار المرفأ وراء ذلك، ضعفت الأغصان وقلّت قدرتها على حمل الثمار عند نضوجها فهوت.
لم تكن شجرة الأفوكادو الضحية الوحيدة للانفجار. حين انتقلت إلى هذا الحي العام الماضي وجدت عشرات الأشجار مرمية ومهملة إلى جانب الطريق. تركت الجيران يتكلمون ودخلت البيت. وضعت الركوة على النار ووقفت منتظرًا الماء حتى يغلي.
ذكرتني الركوة بالحلم الغريب الذي راودني يوم أمس؛ كنت أمشي في البستان المجاور لمنزل عائلتي في القرية، حين وجدت بركة مياه ساخنة، تغلي وفقاعات الهواء تخرج منها كأن هناك نار مشتعلة تحتها. قال أبي إن مصدرها بركان نشط تحت البيت، فلا يمكن أن تظهر المياه الساخنة هكذا بلا سبب.
أثار استغرابي أن أحلم ببركان تحت المنزل الذي ولدت فيه. قبل أسابيع حلمت أيضًا أنه احترق ونحن نأكل المناقيش على البلكون. كنا نتفرج عليه وهو ينهار تدريجيًا أمام أعيننا دون أن نقوم بأي فعل لإيقاف الكارثة.
قطع حبل أفكاري مواء القط في الخارج. فتحت الباب فدخل مسرعًا واختبأ تحت السرير. ربما أثار هلعه هو الآخر صوت ارتطام الأغصان لكنه انتظر ابتعاد الجيران عن الشجرة كي يعود إلى المنزل. لم يعتد على الحياة في الخارج بعد، فقد بدأت أسمح له بالخروج من المنزل مؤخرًا فقط. لم أرد أن يبقى وحيدًا يقضي معظم وقته متنقلًا بين الشرفات يراقب القطط في الخارج. لكن تأقلمه كان صعبًا مع العالم الخارجي. ظن أن القطط تريد اللعب معه في جميع الأوقات. تلقى عدة ضربات خلّفت جروحًا عميقة في وجهه. في النهاية توقف عن المحاولة وصار يجلس معظم وقته وحيدًا قرب السكة المهجورة كأنه ينتظر القطار.
اتصلت يارا وسألتني إن كنت أرغب في الخروج. لم أرها منذ الصيف وقد أتت منذ يومين من تركيا. هي الصديقة الوحيدة التي كانت لا تزال في لبنان، لكن صدمة الانفجار دفعتها إلى المغادرة. استغليت فرصة وجود سيارة معها للصعود الى الجبل. أتت مساء، وصعدنا إلى برمانا ثم جلسنا قرب أحد المنحدرات المطلة على المدينة. كانت بيروت مظلمة بالكامل بسبب انقطاع التيار الكهربائي، باستثناء بعض البقع في الوسط.
مجرد رؤية بيروت من الأعلى، تجعلني أشعر أنني أخف.
جلسنا لساعتين شربنا خلالها النبيذ وضحكنا. تحدثنا عن حياتها الجديدة في إسطنبول ومجتمع اللبنانيين الذي يتكون تدريجيًا هناك. في طريق العودة بحثنا عن مطعم يفتح لوقت متأخر، في النهاية تناولنا الطعام عند أبو حسان المطعم المفضل عند السكارى ورواد الليل.
حين عدت وجدت القط ينتظرني في الخارج. فتحت الباب فدخل مسرعًا واختبأ. تذكرت كلام الطبيب البيطري الذي أنّبني حين عرف بأني أسمح له بالخروج؛ ليس فقط لأنه قط منزلي لا طاقة له بشجارات العالم الخارجي، بل أيضًا لأن إمكانية التقاطه أمراضًا معديةً أكبر بسبب انخفاض مناعته بالمقارنة مع قطط الشارع.
ذكرني القط بنفسي، كنت طفلًا وحيدًا. أصابني الربو في عمر مبكر ثم ترقق العظام الذي جعلني معرضًا للكسور في أي لحظة. لذلك منعتني أمي من الخروج وصرت أجلس لساعات على النافذة متفرجًا على الأولاد يلعبون كرة القدم في الطريق.
طمأنني أيضًا موقع المنزل البعيد عن الطريق والسيارات، بالقرب من سكة القطار المهجورة. يعتبر الحي مثاليًا للقطط مقارنة بأحياء أخرى من بيروت، فلا طريق رئيسي يمر فيه، كما أنه كثير الأشجار بعكس الصحاري الباطونية التي قطنتها سابقًا. حين انتقلت الى الحي العام الماضي، أثار استغرابي كثرة الأشجار فيه. لاحقًا فهمت أن السبب هو سكة الحديد نفسها. فمنذ توقف القطار مع بداية الحرب، منعت الدولة البناء قرب السكة أو تزفيت الشوارع المحاذية لها، تحسبا لاحتمال إعادة تشغيل القطار في المستقبل. هكذا، ظهرت بيئة غنية بالأشجار المتنوعة في محيطها. وفي حال نظرت إلى بيروت من الطائرة ستعرف السكة كخط أخضر يقطع بيروت من المرفأ حتى مشارف الجبل.
لكن الغابة التي كبرت تدريجيًا منذ نشبت الحرب واستمرت في النمو بعد انتهاءها، بدأت تتعرض لخطر الزوال. يوميًا أسمع صوت منشار كهربائي يهدر في المنطقة. بدأ الناس بقطع الأشجار لأن وسائل التدفئة الكهربائية أو تلك التي تعمل بالوقود لم تعد ممكنة. لم يمر شتاء بهذا السوء على اللبنانيين منذ عقود طويلة…
الأشرفية 25 آذار 1979
عزيزي رالف،
سأفترض أنك بخير. تنام جيدًا، ولم تعد تشعر بالقلق. لماذا أفترض؟ لأن أخبارك لم تصلني منذ زمن طويل…
إن كنت لا تريد أن تخبرني، سأخبرك أنا. لقد وصلني القبول وأصبحت تلميذًا في BUC، لذلك، لن أسافر، وسأحاول الإنتقال إلى AUB الفصل القادم. رالف، لا أريد أن أبدأ من جديد في مكان لا أعرف فيه أحدًا.
سمحوا لي بأخذ تسع Credits، أي ثلاثة صفوف أساسية هي الإدارة والمحاسبة والاقتصاد الجزئي، أما الدوام فينقسم إلى ثلاثة أيام هي الإثنين، الأربعاء، والجمعة. خُصّص لي أيضًا صندوق بريد سأعطيك عنوانه في الرسالة القادمة.
لسوء الحظ لم أجد الكثير من تلاميذ مدرستنا باستثناء داني. هي جامعة صغيرة، وعليك أن ترى نفس الوجوه باستمرار. لذلك، عندما لا يكون عندي صفوف، أعود للتسكع في AUB.
بعد ثلاثة أيام ستبلغ عليا التاسعة عشر. اتفقنا أن ننظم لها مفاجأة عيد ميلاد. سأشتري الكيك والشامبانيا، على أن تتكفل رحاب بتفاصيل الحفلة. سأخبرك غدًا بالموعد كي تتصل. ستفرح كثيرًا باتصالك. عفكرة عليا أصبحت في غيابك أجمل من السابق. لا فارق إن ارتدت فستانًا أو تنورة. تبقى جميلة في الحالتين. يومًا ما ستحل محل الممثلة ليف أولمان وسيكون بإمكاننا إضافتها إلى مخططنا السينمائي.
صار لدينا الآن ممثلة وعلينا فقط اختيار مدير تصوير ومخرج. أما من ناحية السيناريو فيمكننا الاختيار من الأحداث الكثيرة التي حصلت معنا العام الماضي (إن قرأ أحدهم هذا المقطع في المستقبل، سيظن أننا سينمائيون حقيقيون! لكن لم لا؟ ربما سنصبح كذلك وسنتذكر هذه الرسالة وسنضحك).
بالمناسبة شاهدت هذا الأسبوع خمسة أفلام، بينها اثنان رائعان في إسترال هما Brass Target من بطولة جون كاسافيتس، وهو فيلم تجسس أخو أختو، و Apocalypse Now، فيلم يملأ الرأس ومتكامل بكل تفاصيله لا يجب أن يفوتك رالف. شاهدت أيضًا مع داني في كازينو لبنان فيلم “كليوترا”، وفيلمين على تلفزيون لبنان. هناك برنامج أسبوعي يضم خمسة أفلام، شاهدت اثنين منها هي Portrait de la bourgeoisie en noir (فيلم إيطالي مترجم) وفيلم جميل اسمه Turning point أنت أخبرتني عنه مرة، حسب ما أتذكر.
أصبحت حصيلة مشاهداتي خلال ثلاثة أشهر خمسين فيلمًا. في حال استمريت بنفس الوتيرة سأصل إلى 200 فيلم عند نهاية هذا العام! أتمنى أن تكون هنا لحضور حفل تتويجي بالجائزة الكبرى.
هذا الشتاء كأنه ربيع. لم تثلج كثيرًا في فاريا ليكون هناك موسم تزلج جيد. هذا من حظك. يعني لم يفتك أي شيء. لكن في الصيف، إن استطعت المجيء إلى لبنان، سأكون وحيدًا بينكم. أنت لديك حبيبة، وإيلي لديه حبيبة. لذلك ليس هناك من مكان لي. الحل الوحيد هو أن أجد فتاة بسرعة قبل الصيف!
يوم أمس وقبل ان أعود إلى بيروت الغربية، مررت بمنزل عليا لأن أهلها يريدون إرسال بعض الأغراض معي. سألني والدها عنك. أخبرته أنك في أفضل أحوالك! لكن هل أحوالك فعلًا جيدة؟
منذ أسبوعين، قلت لأختك: أشعر أنك ستبقى عامًا واحد في الولايات المتحدة، ثم تعود وتستكمل دراستك في لبنان. قالت لي ربما إحساسي صحيح، لأنها تظن أنك لست سعيدًا. سمحت لي بقراءة رسالتين منك، مؤرختين في 7 و29 كانون الأول (وصلتها الأولى في 16 كانون الأول أما الثانية في 10 كانون الثاني).
للمرة الأولى، أراك تصف أحاسيسك بهذه الاستفاضة، لدرجة أنني بكيت خلال القراءة. رالف، لا أعرف إن كان ظني في محله، لكني أشعر أنك تتكلم عن شيء، أما في الباطن فتقصد شيئًا آخر. أنا متأكد أن هناك أشياء تحدث منذ وصولك إلى الولايات المتحدة، لكن لا تريد أن تخبرنا إياها. ربما أستطيع المساعدة رالف. من فضلك. أشعر بالقلق عليك. ألا تعتقد أن والديك لديهم الحق بمعرفة ما يحصل معك؟ وكيف تعيش؟ لماذا لا تقول ما تشعر به بصراحة؟
يجب أن أتوقف عن الكتابة الآن. سيمر عليّ داني كي يأخذني إلى حفلة لمغني يؤدي بالعربية إسمه مارسيل خليفة. أعرف أنك لا تحب العربية لكن هذا المغني وضعه مختلف.
من فضلك اكتب أي شيء وابعثه بالبريد. أريد ان أعرف أخبارك، بدأت أحس بأنني أكلم نفسي. ما تنسى تحط طابع وكتوب بالحبر الأسود العنوان على المغلف. هيني القصة والله.
تصبح على خير رالف. قبل أن أنام، سأقرأ بعض الصفحات في كتاب الاقتصاد. أحلى دوا للقلق بالليل. بكفي تقرا صفحتين وبتروح خرا سمك…
من فضلك أكتب
كل الحب
رامي
الأشرفية 9 أيلول 2020
كل فترة أحاول التمرد على الوحدة. قبل أشهر انتقلت للسكن في فندق، قلت فرصة لأصبح شخصًا اجتماعيًا. تخيلتُ نفسي سائحًا غريبًا يتعرّف كل يوم على غرباء مثله. أغراني أيضًا العرض الذي وضعه الفندق، تستأجر غرفة بمبلغ أقرب لإيجارات الغرف في البيوت المشتركة. وضعت الإدارة العرض لاستعادة حركة الزبائن بعد إغلاق المطار بسبب انتشار كورونا.
حين انتقلت إلى الغرفة، لم يكن هناك سوى فتاة فرنسية في الطابق، تعيش وحيدة منذ أشهر. بحوزتها معدات تصوير تكفي لتأسيس شركة إنتاج. حين سألتها ماذا تفعل في بيروت قالت إنها “تصور فيلمًا عن الثورة”. كانت تزور لبنان للمرة الأولى حين اندلعت التظاهرات. فتنتها أعمال الشغب والحرائق والأجساد العارية على الدراجات النارية. صارت تضع الماسك المضاد للغاز المسيل للدموع، وتلحق بالثوار حتى الجبهات الأمامية. أحبت الثورة لدرجة أنها حفرتها تاتو على يدها.
المشكلة الوحيدة أنها لم تدرس السينما أو تحوز خبرة كافية لصناعة فيلم. في المقابل امتلكت عشرات الساعات من المشاهد للتظاهرات من دون موضوع محدّد تركز عليه أو مادة تعطي شخصية أو شخصيتين حقها. بقيت مأخوذة بالحركة والإثارة التي ولدتها المجموعات في الساحات.
بعد أيام بدأ الوافدون الجدد إلى الفندق يظهرون تدريجيًا. جميعهم لبنانيون جذبهم عرض الإدارة الرخيص. موظف شركة كمبيوتر يعمل من المنزل منذ انتشار الوباء، عارضة أزياء بعمر التاسعة عشر تدرس السينما، ناشطة مدنية لا تزال تعيش أحلام الثورة، ولبنانية برازيلية تعمل موظفةً في مصرفٍ لم يسمع به أحد. بسرعة أصبحوا أصدقاء كأنهم يعرفون بعضهم منذ سنوات. بعد أيام قليلة من وصولهم سيتحول الطابق إلى مكان ممتلئ بالناس دائمًا، أشبه بالبيوت العائلية.
بسبب ذلك، صرت بمجرد دخولي إلى الفندق أسرع كي أحبس نفسي في الغرفة. لا أعرف لم فعلت ذلك رغم أني كنت أرغب في العكس. مع الوقت توقفت عن الجلوس في الكافيتريا أيضًا، أصبحت الحديقة مكاني المفضل. ثم حين خفّفت الدولة إجراءات كورونا بدأت ارتياد أحد المقاهي القريبة في الجميزة. هناك أنا غريب وسط غرباء مثلي.
يوم 4 آب، استيقظت باكرًا، وحملت قهوتي واللابتوب وجلست في الحديقة. كان كل شيء مثاليًا؛ الموظفون يشربون القهوة قبل دخولهم إلى الدوام، عامل الحديقة يسقي النباتات والأشجار، الشمس لا تزال منعشة والجو هادئ.
ثم انقلب كل شيء…
منذ أيام قمت بزيارة الفندق. وجدت غرفتي على حالها، مدمرة بالكامل ومتروكة لمصيرها. لمحت أجزاء من ثيابي لا تزال ظاهرة تحت الحطام. كانت متسخة وممزقة وقد أرعبني مشهدها. كأني رأيت أجزاء من جثتي تتحلل تحت الدمار. لم يجرؤ أحد على تحريك شيء في الغرفة، كأن تحريك أي شيء سيهدّ ما تبقّى. فقد وقع جزء من المبنى حين حصل الإنفجار واختفت الواجهة المطلة على المرفأ التي تضم غرفة وحمامين، لم يتبقَ سوى غرفتي وغرفة الفتاة اللبنانية البرازيلية.
لحسن الحظ أني كنت في أحد مقاهي الجميزة القريبة خلال الإنفجار. لم أتعرض سوى لجروح بسيطة. لكن حين رأيت غرفتي والغرف الأخرى شعرت بالرعب. وقعت أغلب جدرانها في الداخل وهناك غرفة اختفت من مكانها. كانوا يشاهدون الحريق الذي سبق الإنفجار من غرفة الجلوس حين طار السقف من مكانه، ودفعهم الضغط من أول المنزل إلى آخره. وقفوا وخرجوا إلى الطريق باستثناء عارضة الأزياء التي بقيت بأرضها إلى أن أتى أحدهم وحملها إلى الخارج.
صاحبة الغرفة التي اختفت من مكانها، خرجت ثم عادت لإنقاذ اللابتوب. ما زلت أتخيلها وهي تدخل المكان المدمر لتصل إلى باب غرفتها، تنظر إلى الداخل لكنها ترى الخارج. بعد أيام عادت إلى الفندق وبحثت عن اللابتوب مرة ثانية ووجدته. أخذت صورة سيلفي معه ووضعتها على فايسبوك ثم غادرت.
حين وصلت إلى الفندق بعد دقائق من الانفجار، كانت الفتاة البرازيلية اللبنانية تدخن سيجارة على الطريق بينما الدماء تغطي وجهها بالكامل. بدت هادئة جدًا، كأنها لم تشهد نهاية العالم للتو، حين انتهت من سيجارتها وضعت الكمامة التي أصبح لونها أحمر.
الأشرفية 1 حزيران 1979
العزيز رالف،
أعتذر يا سيد رالف إن كنت أزعجك بهذه الرسائل الكثيرة التي لا ترد عليها. هذه الرسالة الثالثة بدون جواب. هل قلت شيئًا أزعجك؟ حاولت البحث في الرسائل لكني لم أحصل على جواب. لا أعرف ماذا أقول لك…
انظر، أريد منك أن تكتب لي في رسالتك القادمة :”أيري فيك يا رامي إنت ورسايلك المأيرين أكتر منك”. بهذه الكلمات الجميلة سأكون أكثر من سعيد. أحب أن أختار بعناية الكلمات التي سأشتم بها. لا أريدك أن تقلق من هبورتك الكبيرة. مش رح تلقط سيفليس لأني نظيف. إن قرأت عليا هذه الكلمات ستعلقني بالمشنقة!
كل شخص هنا يعيش حياته الخاصة ولا أحد يأبه بالذين يعانون وحدهم. ربما كانت رسائلي السابقة مؤذية لك؟ أطلب منك أن تسامحني. لم أقصد ذلك. أنا أعيش بالشك. وأحاول التفكير في سبب يجعلني أفهم لماذا لم تعد تكتب لي. لا تخف، أرسلت رسالة بنفس المعنى لإيلي الذي توقف أيضًا عن الكتابة.
بالمناسبة كان يفترض البارحة أن ألتقي بعليا وداني كي نشاهد حفلة Jean Manson في الكازينو (التي تغني Avant De Nous Dire Adieu). لكنها اتصلت بي واعتذرت مع أني كنت اشتريت لها البطاقة. رالف أنا أشعر بالحزن الشديد. إذا استمر الحال على ما هو عليه، سأصبح وحدي في لبنان. أنا أخسركم واحدًا تلو الآخر، مثلما تفقد الشجرة أغصانها في العاصفة.
أشعر أن عليا أيضًا لم تعد تريد رؤيتي مثل السابق. هل السبب توقفك عن إرسال الرسائل لها؟ كانت حزينة حين رأيتها في الجامعة. من الصعب أن ترى هذا الوجه الجميل يبكي. أيضا فريد ونيلّى، أشعر أنهم بعيدون عني كثيرًا. للمرة الأولى منذ عامين أجد نفسي وحيدًا تمامًا.
رالف لا أعرف ما الذي يحصل معهم؟ أو ما الذي يحصل معي؟ هل أنا الخطأ أم أنتم؟ حين أنظر إليهم وأرى وجوههم التي أعرفها من سنين، أجدهم ينظرون إليّ بعيون فارغة. أراهم من بعيد يضحكون، فحين أصل إليهم يستبدلون الضحكة بالعبوس. لا أفهم ما الذي يحصل؟ أناس كنت أعز الأصدقاء معهم لسنوات طويلة، فجأة أصبحت بالنسبة لهم كالغريب.
أما بالنسبة إليك… تستكثر أن تسألني كيفك؟! أعرف أن لديك همومك لأنك بعيد عن من تحب، لكن أنا أيضًا متضايق أكثر منك لأنني لم أعد أعني لأصحابي الذين أحبهم أي شيء. لو أنهم يشرحوا لي لماذا يتصرفون هكذا كان الأمر أسهل. عندها سأتلافى الأمور التي تزعجهم. مستعد أن أقوم بتغيير وجهي إن كان وجهي يزعجهم!
أعتذر رالف. أعرف أن كلامي محزن جدًا. سأتوقف الآن عن الكتابة، وأكمل غدا. أختي قادمة كي تأخذني معها إلى بيروت الغربية.
صباح الخير، الساعة الآن السابعة والنصف. أنهيت فصلين من كتاب صف المحاسبة وأصابني الملل. لذلك، قررت إكمال الرسالة. سأكتب أيضا لإبن الشرموطة إيلي الذي لا يراسلني، ولإبن الشرموطة الثاني ابن عمك، مع إنه لا يكتب لي أيضًا. إن قرأ أحدهم هذه الرسالة، سيظن أنكم عائلة تعمل في بورديل! لكن كما تلاحظ، أنا لا أنتظر تلقي رسائل منكم حتى أكتب. لأني أحب إخوتي وأعرف أنها الطريقة الوحيدة للإبقاء على التواصل معهم.
كان يوم أمس صعبًا جدًا. عندما يصل المكتوب ستكون قد عرفت بما حصل في الأشرفية. حاولوا اغتيال الشيخ بشير الجميل. لم يصب بأذى لأنه لم يكن في السيارة، لكن كانت ابنته التي تبلغ من العمر 18 شهراً معه، هل تتخيل الإجرام؟ ماتت هي وسبعة أشخاص بالقرب من وزارة الخارجية. على بعد 15 مترًا من بيت عليا. الحمدلله عليا لم تصب بأذى. لا هي ولا أحد من أفراد عائلتها. فقط خسائر في زجاج المنزل.
من المحزن أن ترى صور الطفلة على التلفزيون… اسمها مايا و عيونها كانت تلاحقني كل الليل.
لم أستطع أن أنام بشكل جيد يوم أمس. مرّ 15 يومًا على هذه الحال. عندما أنظر إلى الضوء يصبح كل شيء فجأة أسود. أنا محبط جدًا رالف.
سألت نفسي منذ أيام لماذا ما أزال على قيد الحياة؟ ما الذي أفعله في هذا العالم؟ أوكي. ربما أعرف الجواب: “كي أحب”. لكن أحب من؟ وكيف؟ الوحيدون الذين أشعر بالتعلق بهم، هم أصدقائي. لكن للأسف اليوم لم أعد قادرًا على رؤية أحد منهم. خاصة عندما أشعر بالحاجة إليهم. صرتُ وحيدُا يا رالف. رميت كل آمالي في المياه. وكما تعلم، آمالي مثلي لا تعرف السباحة.
المضحك أن اللبنانيين جميعهم تغيروا وأصبحوا أكثر قسوة خلال أربع سنوات من الحرب باستثنائي. أمس، كانت المرة الأولى التي أسأل نفسي فيها من أكون؟ والمرة الأولى التي أقتنع فيها بأني لست أحدًا. لا تحاول أن تقول لي بأني فعلًا أحد ما. أعرف قدرتك على الإقناع، لكن لا تحاول فعل ذلك في رسالتك القادمة. أنا مقتنع، ولدي أسبابي الكافية. أعجز عن السباحة أو ممارسة الرياضة. حتى أني غير قادر على الحب مثلكم. بدأت أنسى كيف أحب رالف. ربما يجب أن أضع حدًا لذلك، وأعثر على فتاة. لكن ليس أي فتاة. يجب أن تكون مميزة. تعرفني رالف… ما أحتاج إليه، نادر جدًا.
ربما أزعجك بكلامي الفارغ. لن أقوم بتمزيق الصفحة. إفعل أنت ذلك. وقلو لفيليب المنيوك كس أمك وأيري فيك… هيك بلا سبب. بركي ساعتا بيحس عدمّو وبيكتبلي حتى يعرف ليش عم سبلو.
صديقك رامي
لماذا انقطع رالف عن الإجابة؟ لماذا تغير أصدقاء رامي؟ هل للأمر علاقة بالحرب؟هل له علاقة بمن ينتمي إلى ماذا؟ انتهيت من قراءة الرسائل ووجدت نفسي أصبحت جزءًا من حياة رامي. بدا لي أن الرسائل أقرب إلى اليوميات، تدور بين مكان سكنه في التباريس بالأشرفية، حيث المقاهي والمطاعم الموزعة قرب ساحة ساسين، ومكان جامعته في رأس بيروت، حيث الأندية الليلية وصالات السينما التي يرتادها تلاميذ الجامعتين الأميركية AUB واللبنانية الأميركية كانت تسمى BUC.
أثارت الرسائل فيّ شيئًا من الأسى على رامي، لقد تحولت رسائله التي لا يستجيب لها أحد إلى شكل من الاعترافات التي تظهره في أكثر أوضاعه هشاشة، وعدت لسؤال نفسي لماذا لا يتحدث عن الحرب التي كانت قد دخلت سنتها الرابعة حين بدأ رامي في الكتابة. عدت إلى الأرشيف أستكشف تلك الفترة أكثر، وجدت أن بيروت كانت تشهد هدنة بين الأحزاب المتقاتلة استمرت حتى دخول الجيش الإسرائيلي عام 1982 (الحرب لم تتوقف في مناطق أخرى من لبنان). لكن الأشرفية شهدت في 1978 أي قبل عام فقط من كتابة الرسائل معارك طاحنة بين الأحزاب المسيحية والجيش السوري سميت بـ حرب المئة يوم. هل كانت الهدنة سببًا في غياب الحرب من الرسائل؟ لا أظن ذلك سببًا كافيًا..
شعرت برغبة في التعرف على الشاب الذي أصبح عجوزًا اليوم، كنت أريد أن أسأله عنه وعن رالف وعليا وداني، وأقول له إن رسائلة جميلة جدًا وأنني لوهلة رأيت نفسي فيها، وأن الوقت فيها وكأنه الآن نفسه، وكأنه لم يمر ولا يمر، وأن اللبنانيين اليوم مثلما كانوا دائمًا إما أنهم يفكرون بالسفر أو يسافرون فعلًا ويتركون عائلاتهم وحبيباتهم وأصحابهم وحيوات كان من الممكن أن تعاش، هنا.
فتحت الفيسبوك ووضعت اسم رامي أفتش عنه ووجدته، آخر منشور له كان قبل شهر ونصف فقط. قلبت في صفحته ووجدته يعيش في لبنان بعكس ما توقعت. أرسلت له طلب صداقة مع رسالة وانتظرت أيامًا ولم يقبل صداقتي. حاولت البحث عن حسابات أخرى، الى أن وجدت منشورًا طويلًا يتحدث عن شخص بنفس الاسم مرفقًا بإعلان نعي، فاتصلت بالرقم المخصص بالتعازي.
على الطرف الآخر ترد امرأة، فاسألها عن رامي، أحاول التحقق من أننا نتحدث عن الشخص نفسه، هل كان لديكم منزلًا في التباريس؟ هل كان يدرس في الغربية ويتنقل معك خلال الحرب؟ تأكدت أنه فعلا هو، وبأنه توفي قبل أسابيع فقط بفيروس كورونا. كان بعمر الرابعة والستين. حين سألتني أين عثرت على الرسائل، خفت إخبارها بدخولي منزلًا مهجورًا بلا إذن. فاختلقت قصة بأنني أعمل مع جمعية وظيفتها الكشف عن مباني بيروت القديمة للتأكد من كم الأضرار التي تعرضت لها بسبب انفجار المرفأ. طلبت مني أن أرسل الرسائل بالبريد! استغربت. وفي النهاية، أعطيتها لناطور البناية التي تسكن فيها.
اتصلت بها مجددًا بعد أيام، وفاجئتني بصوتها العاتب، قالت إن الرسائل فتحت جروحًا كثيرة كانت مغلقة، وإن والدتها ما تزال على قيد الحياة، وبالرغم من بكائها حين رأت خط رامي، إلا أنها رأت في ظهورها بعد أسابيع على وفاته تلويحة وداع منه. لم توافق السيدة على نشر الرسائل بأسماء أصحابها، ورفضت الإجابة عن أسئلتي عن رامي وعن حياته وكيف عاشها.