في سوق الطيور والحيوانات، أمام بلدية البيرة، صادفت صديقًا لم أره منذ سنوات واقفًا عند أقفاص بائع طيور الحساسين. فاجأته وسألته: هل تريد أن تشتري حسونًا؟ لم أحسب أن يصبح سؤالي بداية لجولة في السوق بين أقفاص الطيور والعصافير والكلاب، وأن يكون حديثنا الشاغل عن مصير الطائر الذهبي، أو كما قال صديقي “محنته، التي تتفاقم مع كل قرش يدفع لشراء حسون”.
بعد ربع قرن في المنفى، عاد صديقي إلى قريته ولم يجده، اختفى عصفور طفولته هكذا. تبخّر صوته الذي كان يملأ قطع السماء الصغيرة بين الأشجار. بالطبع لم يدرك ذلك على الفور، فمن منّا ينتبه إلى غياب العصافير أو إلى غياب نوعٍ محددٍ منها، لولا أن ذكريات متفرقة من طفولته كانت تحضر وتذكره بأنه لم يلمح الطائر حرًا مغردًا منذ أن عاد.
تاج وأعشاش من الشوك
“كانت الحساسين تبني أعشاشها بين أغصان اللوز أحيانًا”، بدا كأن صديقي يسترجع زمنًا من ألفة باتت مستحيلة اليوم، وأكمل “تتقافز على نباتات الخرفيش الشوكية الجافة التي تنتشر عبر الطريق المفضي إلى بيتنا، تأكل بذورها، بعضها كان يفضّل السيقان النحيلة لهذه النباتات على الأشجار العالية، فينسج عشه الصغير، الذي لا يزيد حجمه عن كشتبان الخياطة، عليها. وبينما نلعب نضع هذه الأعشاش التي غادرتها الفراخ على رؤوس إبهاماتنا، ربما لهذا كانوا يطلقون عليه حسون الشوك”.
“صرت خبير طيور؟ تحولت من السياسة إلى الطيور” مازحته، فأجاب بجدية “أحاول أن أفعل شيئًا لحماية القليل الذي تبقى من نسل هذا الطائر. ربما أشكل رأيًا عامًا يقف ضد صيده بقوة أكبر”، أضاف “لقد عشت حتى رأيت الحسون ينقرض أو يكاد. وهذا ما لم يخطر على بالي أبدًا”.
لم يرَ أحد الحسون الفلسطيني منذ سنوات إلا نادرًا، إنه في محنة كبرى بعد أن أصبح مصدر دخل حقيقي لصائديه، وقتلته المبيدات الزراعية والتلوث، وحاصره الزحف العمراني
أكمل صديقي محاولًا تغيير نمط الحديث: “أظن الحسون هو عصفور الشوك الذي حدثنا عنه الجاحظ. وإن كنت غير متأكدٍ من ذلك. ذكر أن بين الحمار وعصفور الشوك عداوة، وأنه متى نهق الحمار سقط بيض عصفور الشوك. لهذا يطير العصفور وراء الحمار وينقر رأسه. هكذا أخبرنا الجاحظ، مع أنني لم أر حسونًا يطارد حمارًا في حياتي”.
ولأن هذا الطائر يأكل بذور الشوك ويجمع عروقه وأغصانه ويبني من هشاشتها عشًا متينًا، اعتُبِر أنه يرمز إلى تاج الشوك على رأس المسيح. وفي معظم لوحات العصور الوسطى التي تجسد المسيح والعذراء، نلمح حضورًا للحسون الذهبي في زاوية ما من اللوحة. ثمة أسطورة أخرى أيضًا تقول إنه عندما كان يسوع يحمل صليبه إلى أعلى الجلجلة، رفرف الحسون فوق رأسه وانتزع برقّةٍ شوكةً من جبينه، فامتلأ ريش رأسه بدم المسيح، وهذا هو سر البقعة الحمراء التي توشّي رأسه.
لم يرَ أحد الحسون الفلسطيني منذ سنوات إلا نادرًا، إنه في محنة كبرى بعد أن أصبح مصدر دخل حقيقي لصائديه، وقتلته المبيدات الزراعية والتلوث، وحاصره الزحف العمراني على والحقول والكروم، فأصبح يتوالد في مناطق محدودة جدًا، لكنه حتى في مناطق لجوئه الأخيرة هذه تجري مطاردته بضراوة من قبل صياديه.
يعبر البحر منهكّا وجائعًا ويجد المصائد بانتظاره
طوله عشرة سنتمترات، ويمتد جناحاه ما أن يفردهما إلى ضعف هذا الطول، وزنه 14 غم كما لو أنه يقاس بالذهب، في طيرانه لا يحب التحليق بعيدًا عن الأرض، لا يتموج ولا يلعب في الجو، فقط يندفع بقوة ويتحرك إلى الأمام. ورغم صغر حجمه يملك جناحين قويتين لشق الهواء، غير أنهما لم يتمكنا من إنقاذه من شباك الصيد معظم الوقت. في زمن الحرية،كان للحسون ثلاث حضنات يرقد فيها على 3 إلى 6 بيضات، لكنه زمن أصبح خلفنا.
هناك فصائل مختلفة من هذا الطائر الصغير. والفصيلان الأساسيان في فلسطين هما البلدي والمهاجر. أما البلدي فأجمل صوتًا، وأشد تحملًا. وأما المهاجر فألوانه أزهى، لكنه ضعيف التحمل. والأصوات هنا عامل حاسم. فحسون الشوك يُطَارَد ويُصَاد ويُربّى من أجل صوته وألوانه. كلما كان صوته أجمل، وقدرته على تعلم بعض النغمات أعلى، كان هدفًا للصيادين والتجار والشراة. بذا يمكن القول إن الحسون ضحية جماله وجمال صوته. فلو كان طائرًا أغبر مثل عصفور الدوري لما جرت مطاردته. ولأن اللون المركزي على جسده هو الأصفر الذهبي، فقد دُعي باسم “الحسون الذهبي” أيضًا، مقارنة ببعض الحساسين المستوردة، والتي تكون بيضاء أو بنية أو ذهبية.
في قطاع غزة قضي على النوع البلدي نهائيًا. لم يعد يُرى هناك إلا في مصادفات نادرة. لذا يصاد الحسون المهاجر فقط، وهو يعبر البحر إلينا في الخريف. يصل إلى الشاطئ جائعًا ومنهك الجناح بعد رحلته الطويلة فوق البحر، فتكون المصائد المتنوعة بانتظاره لتمسك به.
أما في الضفة الغربية، فقد تبقت جيوب هنا وهناك للحسون البلدي. وهي هدف الصيادين. وتبذل جهودٌ لحمايته لكنها ضعيفة وغير مؤثرة أمام الطلب المتزايد في السوقين المحلي والإسرائيلي، والذي يجعل المطاردين كُثر والمخاطر عالية جدًا على الطائر المسكين.
الأقفاص قبل الصيادين
في العقدين الأخيرين، اتسعت عادة تربية طيور الزينة والطيور المغردة في البيوت، مثلما اتسعت عادة تربية الكلاب البيتية. وهذا ضاعف من محلات بيعها، وضاعف من العناصر التي تطارد الحسون في المناطق التي بقيت له فرصة النجاة فيها.
ألا يبدو بديهيًا أن يمنع القانون اقتناء الطيور التي يمنع في الأساس صيدها وتهريبها، وبالخصوص لأنها مهددة بالانقراض. فطالما لم يمنع وضع هذا الطائر في الأقفاص سيكون هناك طلب عليه، وما دام هناك طلب فلن يتوقف الصيد والتهريب. يجب منع الأقفاص قبل الصيادين.
حرب الحسون الذهبي في معبر الكرامة
لكن الحرب الأشد ضراوة ضد الحساسين تدور على معبر الكرامة (جسر الملك حسين، جسر اللنبي). نعم، هناك تدور الحرب المحزنة، حيث بدأت عملية ضارية لـ تهريب الحساسين من الأردن إلى فلسطين. فالأردن لا يمنع التجارة بالحساسين، أي لا يمنع استيرادها وتصديرها، ما جعل المهربين يسافرون من الضفة الغربية لشراءها وتهريبها عبر الجسر. تحول الطائر الحلو الضئيل إلى سلعة مهرّبة مثل كروزات الدخان الأجنبي.
في السوق سألنا بائع حساسين آخر يضع حساسينه في عدة أقفاص: “بكم الحسون؟”
– الزوج بـ 1000 شيكل (أكثر من 250 دولار). أما الفرد فبـ 350 شيكل.
– ليش الزوج أغلى من الفرد؟
– لأنه ليس سهلًا تزويج الحساسين في الأقفاص.
– وشو نوعه هذا الحسون؟ بلدي ولا مستورد؟
– هذا بلدي وبيغرد.
– وبأي لهجة بيغني؟
– بلهجة أبو خليل
– مين أبو خليل هذا؟
– هاي لهجة حسون فلسطين. بيسموها هيك.
وهكذا، للحساسين لهجات حسب مواطنها.
أما عملية تهريب الحسون الذهبي عبر الجسر فتجري بسبب فرق السعر الضخم بين السوقين الأردنية والفلسطينية. إذ يبلغ سعر طائر الحسون الفرد في الأردن حوالي 5 دنانير (7 دولارات تقريبًا). أما أقل سعر لهذا الطائر فهو 250 شيكل (76 دولار تقريبًا). لهذا تتصاعد حمى التهريب على معبر الكرامة، ويجازف بها محتاجون ومغامرون من كل نوع.
التهريب يمثل في الواقع رحلة تعذيب لهذا الطائر الذي جنى عليه جماله، فما أن تُشترى الحساسين يتم تخديرها، بمادة تباع في الصيدليات في ما يبدو، لمنعه من إصدار أي صوت أثناء عبور الجسر. وقبل العبور يجري وضعه في مكان محدد. فأحيانا يوضع ملفوفًا بقطة قماش داخل الأحذية، أو توضع عدة طيور في ما يشبه الحزام وتربط على البطن.
وتتراوح أعداد الطيور المهربة من قبل شخص واحد في المرة الواحدة ما بين 15 إلى 25 عصفوراً. أما النساء المهرّبات فيحملن أعدادًا أكثر من ذلك لأن أحزمتهن أعرض. ولا تجري عملية التهريب عبر المهرّب/التاجر وحده فقط، بل يجري اصطياد المسافرين الأبرياء من قبل المهربين للمشاركة في العملية، والضحك عليهم لحمل الطيور في ملابسهم. يغرى بعضهم يغرى بالنقود، وبعضهم يجري الاحتيال عليه لتهريبها مجانًا. وقد أُخبرنا أن عددًا لا بأس به من هذه الطيور يموت في الطريق عبر الجسر. وهذا ما يزيد من أسعار الطيور التي نجت؛ بذا لا يشكّل موت الحساسين خسارة بالنسبة للمهرب.
أما المشترون فيبتاعونه للمتعة. ومنهم من يشتريه للتفريخ بقصد التجارة، حيث تجري عمليه التفريخ في البيوت أو في أماكن خاصة تتبع لمحلات بيع الطيور. وحين تفقس الصغار، وتكبر قليلًا، يصار بالتدريج إلى تعليمها على النغمة المختارة.
أبيض وأوكراني وتعلّم ألحان جديدة
على الجسر أيضًا، يجري تهريب الحسون الأبيض والحسون الأوكراني. والأخير مطلوب جدًا، ويياع في الأردن بسعر يتراوح ما بين 6 إلى 8 دولارات، أي بعشرة دولارت أو أكثر قليلًا. في حين يُباع في الضفة الغربية بـ 300 إلى 350 شيكلًا، أي بمائة دولار أو يزيد.
أما الحسون الأبيض فيأتي من روسيا، ويُعتبر نوعا نادراً جدًا، كونه قادرًا على تعلّم الألحان بسرعة أكبر. وقد يصل سعر الواحد منه إلى 1500 دولار. أما الأنثى والذكر اللذين جرى تزويجهما فقد يبلغ سعرهما 5000 آلاف دولار. أي أننا نتحدث عن مبالغ كبيرة وأرباح ضخمة.
عند تدريب الطيور على الغناء بألحان محددة، توضع في مكان مقفل ويجري تشغيل تسجيل للحن يبث عبر جهاز كمبيوتر لعدة أشهر يوميًا إلى أن تلتقطه. يبدأ تعليم الصغار على الغناء وهم في عمر أسبوع تقريبًا، ويوضع كل طائر وحده في هذه المرحلة، إذ لا ينجح تعليم الطيور وهي مجتمعة في مكان واحد. ولهذا السبب ترتفع أسعار الحساسين المغردة. نحن في الواقع نتحدث عن صناعة لا بأس بحجمها، هي الواقع صناعة تُذيب طائر الحسون ونسله.
مئة مهرب يفشل وخمسمائة يمرّون
بحسب السلطات الفلسطينية، يجري سنويًا الإمساك بمائة مهرّب طيور. غير أن عمليات التهريب الناجحة تصل إلى خمس أو عشرة أضعاف العمليات المحبطة. بالطبع فإن الإسرائيليين هم من يسيطر على الجسر، وهم يملكون معدات متطورة تستطيع الكشف عن المواد المخفيّة تحت الملابس، وهذا ما لا يملكه الأمن الفلسطيني. وهذا لا يعني أنه يمكن الوثوق تمامًا في إجراءات الإسرائيليين، لأن لغايات التفتيش الأمني أساسًا. كذلك لا يُعرف إن كان المهربون يستطيعون رشوة الأمن الإسرائيلي على الجسور.
الأخطر من ذلك، أنه يمكن للمهرِّب أن ينزل من الباص قبل الوصول إلى المحطة حيث الأمن الفلسطيني. وهذا يعني أنه يستطيع أن يؤجر سيارة تاكسي ويضع فيها حمله المهرَّب، ثم يمضي لختم جوازه لدى الأمن الفلسطيني. الإسرائيليون يمنعون تجارة الطيور المهددة بالانقراض كما هو الحال مع الفلسطينيين. لكن الغرامات التي يضعها الإسرائيليون أشدّ، وقد تصل إلى 1200 دولار، إضافة إلى حبس ستة أشهر. أما الغرامة الفلسطينية فلا تزيد عن 200 دينار (280 دولار) وحبس عشرة أيام في الحد الأعلى.
وفي سوق الطيور، رأينا رجلًا يدخل الساحة حاملّا خمسة حساسين في قفص. أوقفناه وسألناه مستفزين:
– موش حرام عليكم تعملوا هيك في هالطيور المسكينة؟ ليش ما تخلوها تغرد في البرية زي ما الله خلقها؟
دافع الرجل بصوت عال:
– إذا بدكم إياها تغرد في البرية لازم يكون عنّا إحنا أكل كمان. أما إذا ما لقينا أكل، فهيي كمان ما راح تغني. تمام؟