لطالما كانت الخيوط والأقمشة حاضرة في ذاكرتي، فهي لا تغيب عن كل البيوت التي أزورها. في طفولتي كان النسج والحياكة هما الأبرز في أوساط خالاتي، ومع الوقت أصبحت الخياطة، مُجسدّة في الآلة، هي الأكثر حضوراً. لا أذكر أنه سبق أن دخلت عند أقاربي أو أصدقائي إلا ولاحظت آلة الخياطة في البيت، سواء كانت مركونة أو مستخدمة، إن لم تكن للترقيع والتقصير فإنها أيضاً سبيل لمواجهة الظروف المادية للكثيرات.
تخبرني إحدى الصديقات عن خياطة بمدينة سكيكدة شمال شرقي البلاد متخرجة في كلية الصيدلة، عملت في صيدلية ثم تم تسريحها بسبب أدوية ممنوعة بيعت في المحل، فوجدت نفسها تمارس مهنة الخياطة الأمر الذي لم تفكر فيه من قبل. تبدو لي الخياطة كأنها السبيل الآخر المتاح إذا ضاق ما دونها، كنوع من المقاومة لكل ربات البيوت.
صديقة أخرى حدثتني عن شقيقتها الصغرى التي قضت بدايات طفولتها لدى جارتهم الخيّاطة، وكانت تعطيها بقايا الأقمشة وتعلمها كيف تصمم ثياباً للدمى، وكبر فيها هذا الشغف لتجمع المال وهي طالبة لأجل شراء ماكينة خياطة. تصمم تفاصيل صغيرة للزينة وتبيعها عن طريق الإنستغرام بأسعار تجعلها مكتفية.
تقول: “أختي لم تطلب أي دينار من أمي منذ ثلاث سنوات، بل أصبحتُ أحياناً أساعدها في تركيب بعض الأقفال أو المهام البسيطة وتعطيني 50 دينار للمهمة”.
أين الدانتيل؟
حين اقترب عرس أخي اقترحت أمي أن نتوجه نحو خياطة تعرفها إحدى قريباتها لتجهز لي فستاناً على ذوقي، فقد بدا لنا التوجه نحو منتجات السوق خياراً محدوداً، وكانت أولى تجاربي في هذا العالم.
كنت حينها في الرابعة عشر من عمري وكان في مخيلتي فستان جميل من الساتان الأحمر اللماع تعلوه قطعة دانتيل بلون أسود شفاف وتزينه عقدة أعلى الصدر، رأيته عند شابة قريبتي في أحد أعراس العائلة.
في ورشة منزلية صغيرة استقبلتنا الخياطة في غرفة تكتظ بالخزائن المليئة بأكياس أقمشة الزبونات وبعض الطلبات الجاهزة، مصابيح ثابتة ومتحركة، طاولة بعثرت على سطحها كبب الخيوط بمختلف الألوان، مقص، إبر، دبابيس وفي الزاوية آلة خياطة وكرسي خشبي عتيق.
شرحتُ للسيدة الأربعينية ووصفت لها ما أردته شفهياً، لأنني لا أملك أي صورة عن فستاني المتخيل. بدت وكأنها قد فهمت ما أريده وراحت تعبر لي بحركة من يديها كيف ستبدو العقدة التي أريدها وهي تأخذ مقاساتي.
مرّت الأسابيع وحين عدنا إليها وبينما هي تتحدث مع أمي وتسأل عن أخبارها كانت عيناي تتجولان في الورشة. رأيت فستاناً أحمر معلقاً لكنني لم أتوقع أنه نفس الفستان الذي صممته لأجلي. تساءلت حين أحضرته لي: “أين قماش الدانتيل؟ أين العقدة؟” فتحججت بأن الدانتيل غير متوفر في السوق حالياً لذا غيرته بالتول، أما العقدة فشرحت لي أنها غير مناسبة مع تصميمها ووعدتني أن أرى جمال الفستان بشكل أفضل حين أرتديه.
قماش لا يتحرك.. وقماش يطير
نقلت تجربتي الفاشلة مع الخياطة لفاطمة، وهي شابة جامعية في بداية العشرينات، من ولاية غليزان غربي الجزائر، كانت لها مثلي تجارب سيئة مع الخياطات، لكن بدل الاستسلام للسوق، فضلت تعلم الخياطة بنفسها فسجلت في مركز التكوين لتتعلم وبعد عدة أسابيع اضطرت بسبب الجائحة الصحية للبقاء في المنزل لتجد نفسها تتعلم من اليوتيوب والتجريب الذاتي.
كان تعليقها أنني لست الوحيدة التي تشتكي من عدم قدرة الخياطات على استنساخ التصميم المتخيل في الواقع، وأردفت أن الخيّاطة الناجحة هي من تخبرك إن كانت قادرة على تصميم هذا الموديل أو لا. تقول: “أنا لا أصمم ولا أخيط للجميع، ولا أنكر أو أخفي عن الزبون أن تصميماً ما يصعُب عليَّ”.
أضافت قائلة: “لا توجد خيّاطة تريد أن تفسد لك قطعة قماش أبداًǃ”، وشرحت لي كيف أن الخِياطة كمهنة متعِبة جداً، خاصة حين تكون الطلبية كبيرة فهي تقصم الظهر وتقلل قدرات الرؤية بسبب التركيز الشديد.
لم تنكر فاطمة وجود خياطات يعملن بلا إتقان، وأكدت كيف أن الإتقان والصرامة هما أهم سلاحين في يد أي خياطة، بل أن الصرامة قد تكون أهم، لأن الخياطة الصارمة تعرف كيف تقنعك بعملها وإن لم تتقنه، ولا ترضى إلا بأخذ حسابها كاملاً، بينما تشير لنفسها كشخصية خجولة جداً، فكثيراً ما أخذت الزبونات تصميماتهن المتقنة دون أن يدفعن أي دينار لأجل ذلك، فقط لأنهن جارات أو صديقات.
تشتري فاطمة الأقمشة من أحد أشهر المحالّ في مدينتها واد رِهيُو، وفي كل مرة تنهي تصميم وخياطة القطعة في نفس الليلة ترتديها في الغد وتعود لتشتري قطعة قماش جديدة، الأمر الذي لاحظه صاحب المحل فطلب منها أن تقوم بتصوير ما تخيطه لينشره على صفحة الفايسبوك. وافقت فاطمة دون تردد وصارت تأخذ الأقمشة بسعر خاص لأنها زبونة دائمة أولاً، ولأنها تساهم في بيع الأقمشة بإعلانها عن صور ما تصممه.
تخبرني عن مرة طلب منها صاحب المحل أن تشتري قماشاً “لم يتحرك من مكانه”، ولا أحد من الزبائن اشتراه من قبل، وأخبرها أن القماش المروكي الذي صممت به آخر فستان “طار سما سما ” أي بيع بسرعة، لكنها لم تكن تملك سعر شرائه ولم يعجبها نوع القماش. أصر صاحب المحل وأعطاها القطعة مجاناً، وبالفعل صممت فستانها ونُشرت الصورة في الصفحة وبيع منه كمية معتبرة بعدما ظل مركوناً مدةً طويلة.
ليس هناك سوق واحد
في سنة 2008 حين أردت شراء فستان العرس أذكر أن ما نسمّيه ملابس السهرة لم تكن متوفرة بكثرة في الأسواق، خصوصا في المدن الصغرى والداخلية. لكن يختلف الأمر حالياً مع ذهاب أغلب التجار لتركيا، فقد صار من الممكن أن نجد العديد من المحلات تبيع مختلف أنواع الفساتين.
أسعار الثياب غير ثابتة بين مدينة وأخرى، بل في مدينة واحدة كمدينة باتنة (شرقي البلاد) قد نجد نفس الفستان بأحد محلات الشوارع الكبرى للمدينة معروضاً على الواجهة الزجاجية بسعر باهظ وفي محل آخر بالسوق الشعبية بنصف المبلغ. في أحد هذه الأحياء الشعبية المعروف بوعقال نجد قرابة المئة محل على طول شارع واحد، تتوفر فيه مختلف أنواع المنتجات من الملابس والأواني والأفرشة والذهب، وغيره من لوازم العروس للتجهيز.
أما في المدن الكبرى كالعاصمة، قسنطينة وسطيف، فقد افتتحت في السنوات العشر الأخيرة مولات كبرى لمن يفضل الشراء من المحلات الفاخرة أو الماركة كما يقال، وهي الثياب المصنعة في جنوب شرق آسيا، والقادمة من أسواق فرنسية أو إيطالية. في تلك المحلات القليلة تُعرض الأسعار موحدةً.
في تساؤل طرحته على مجموعة من البنات عمّا يجعلهن يلجأن للخياطة بدل اقتناء الجاهز من السوق، كانت الإجابات في أغلبها تدور حول الخيار الأكثر اقتصادية، لكن الأهم من ذلك هو الرغبة في التفرد.
فمازال لدى كل واحدة منهن تصور مختلف عما تريد أن ترتديه سواء في المناسبة أو في الحياة اليومية، خصوصاً مع تزايد العرض على وسائل التواصل الاجتماعي، فتفضل الواحدة منهن الحصول على فستان أو ثوب استثنائي على حسب ذوقها الخاص بدل شراء الجاهز.
تحدثت مع أمال من مدينة ميلة وسط الجزائر، هي تعلمت الخياطة في سن الحادية عشر، وقبل أن يصبح الأمر متعة كان حاجة للتغيير، فقد كان وضع والدها المادي صعباً وغير قادر على توفير ثياب عديدة أو مناسبة لها، فكانت تأخذ ملابس قديمة من قريباتها الأكبر منها وتعيد تدويرها لتحصل على شيءٍ مناسب لها.
بعدها بسنوات وحين تمكنت من الصنعة أصبحت تذهب إلى سوق الشيفون (الملابس المستخدمة) وزادت خياراتها المتاحة، لكنها ظلت تفضل الثياب الأكبر منها لتعيد تصميمها كما تحب، وفي كل مرة كانت تدهش صاحب طاولة الملابس حين تعود له بالثوب الذي حصلت عليه لأنه يستغرب من نوع الثياب العادية أو حتى القبيحة التي تختارها.
في قسنطينة شرق الجزائر، تحدثني أمال عن خيار آخر متاح وهو محل بيع الأٌقمشة بأسعار زهيدة. تقول إنه معروف لدى غالبية المبتدئات اللائي يتعلمن الخياطة ولم يبدأن الاسترزاق منها بعد، كما تلجأ إليه طالبات التكوين المهني.
لا تختلف كثيراً أقمشة هذا المحل في جودتها عن أقمشة المحلات الأخرى لكن كلها بسعر موحد (100 دج للمتر) أي ما لا يزيد عن نصف دولار، والسبب أن صاحب المحل يبيع لفائف الأقمشة التي جاء فيها أخطاء تصنيعية، فلا يشتريها عادة الباعة من المصانع.
تؤكد لي وهي التي تزور المحل باستمرار أن تلك الأخطاء التصنيعية قد تكون في بعض أمتار فقط من اللفافات، أو قد يكون مجرد تدريج لوني مختلف، وليست بالفعل أخطاء فادحة.
خِياطة للخروج من العزلة
يتم تدريس الخياطة في الجزائر سواء في مدارس خاصة وهي بأعداد قليلة جداً موزعة على بعض الولايات، أو في مراكز التكوين المهني المجانية والمنتشرة بكثرة، حيث يلتحق بالتخصصات المتاحة أغلب الذين لم يحصلوا على شهادة البكالوريا المؤهلة للجامعة، وقلة من طلبة الجامعة ممن اخترن تعلم حرفة أو هواية جديدة، بالإضافة لنساء متقاعدات لأجل ملء فراغ أيامهن.
بالرغم من قلة معاهد التكوين التي تسمح بإدماج الذكور ضمن تخصصات الخياطة، بل وإن وجدت فإن عدد الذكور فيها يمثل النسبة الأصغر، إذ يفضلون اختيار الفروع التقنية كتركيب وصيانة أجهزة الخياطة، إلا أن هذا المجال الفني بالدرجة الأولى كان ومازال يستهوي بعضهم وعادة ما يبدعون فيه.
فؤاد قرفي أحد أشهر مصممي الأزياء في مدينة باتنة، والمتخرج في إحدى المدارس الخاصة، افتتح ورشته وسط المدينة في سن الثانية والعشرين سنة 1990 ولم يغير محله حتى الآن وإن أضاف له ورشة أخرى بالعاصمة.
شارك فؤاد في عدة فعاليات لعروض الأزياء داخل وخارج الجزائر في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ويمكن ملاحظة اللمسة الإبداعية والمتقنة في عمله بسهولة. وهو يملك مجموعة كاملة لملابس تقليدية في منطقة الأوراس (المنطقة الجبلية شرقي الجزائر التي تمتاز بالملحفة الشاوية) والتي يصممها بشكل عصري. كما أن ورشته مفتوحة للجميع، وليست حكراً على المشاهير والفنانين، بأسعار تناسب الطبقة ميسورة الحال لمن ترغب في الحصول على تصميم حصري منه.
أخبرني صديق عن أشهر خياط في مدينته خنشلة والتي لا تبعد عن باتنة إلا ببعض كيلومترات، وحين تواصلت مع الخياط شوقي وهو من الصم والبكم بمساعدة صديقي روى لنا كيف انتقل إلى مدينة وهران غربي الجزائر في تسعينات القرن الماضي لأنه عرف من خاله بمدرِّسة خياطة قادمة من فرنسا تعلم خصيصاً الصم والبكم لتسهّل ادماجهم في عالم العمل.
انتقل إذاً شوقي نحو المدينة وأقام هناك لأربع سنوات تعلّم فيها الحرفة. لم يتعلم فقط الخياطة لكنه خرج أخيراً من عزلته نحو عالم جديد أدرك فيه ضرورة التخلي عن “الحشمة” لمواجهته.
عاد شوقي بعد ذلك لمنطقته وافتتح ورشة خياطة خاصة به، كما ركّب آلة سمع تساعده في التعامل مع الزبائن، وبهذا الخصوص أكد لي أنه لم يواجه أي صعوبات في التواصل. لم يكتفِ بذلك بل علّم خلال مشواره أكثر من 30 فتاة الخياطة بسعر 700 دينار (3,5 دولار) شهرياً، وساعد أيضاً جاره الأصم بما تعلمه في المهنة وصارت له هو الآخر ورشته في ذات المدينة.
باب لمواكبة الموضة
أتاحت مساحات التواصل الاجتماعي الفرصة للكثير من الشابات لدخول عالم الخياطة وبيع الملابس عبر الأنترنيت، فرغم انعدام طُرق الدفع الإلكتروني في بلد كالجزائر، واضطرار الناس للالتفاف والدفع بطرق “بدائية” عبر مراكز البريد بسبب سوء الخدمات البنكية، إلا أن هذا لم يقف حاجزاً لدخولهم هذا المجال.
حسابات انستغرام وفيسبوك، والاستعانة بالمؤثرات والمؤثرين الذين ينشرون يومياتهم و”نصائحهم” للمشتريات على يوتيوب وانستغرام وتيك توك، سهّل من مهنة الخياطة التي تتوارثها النساء في الجزائر، وجعل الخيّاطة تخرج من دائرة الحي والعائلة.
هذا من جهة التسويق أما من جهة التصميمات فالأنترنت فتحت منذ سنوات باباً للتعلّم عبر الفيديوهات والمواقع المتخصّصة، ولكن أيضاً باباً لمواكبة الموضة.
ولن يكون صعباً اليوم على الفتيات وعلى الشبان خياطة “فستان سهرة” على الطلب، فحتى وإن غاب الدانتيل، سيجد الخياطون والخياطات عشرات الموديلات الأخرى لاقتراحها.