“لا تفتش عن السعادة خارج نفسك”
ليس هذا مثلًا، ولا حكمة، أكثر منه مبدأ يقود عمليات التفكير في حقول الفكر والفلسفة والإبداع والدراسات الدينية، وهو متواصل فيما اتصل إلينا من أقدم العلوم وإلى لحظتنا الحالية، ومتفق عليه تاريخيًا من علوم الظاهر والباطن، ما يجعله بمثابة القاعدة لمئات من النظريات وعدد لا نهائي من شروحاتها المؤلفة تلبية لرغبة أصيلة عند البشر في العثور على السعادة.
ومع تباين الأعمال المقدمة في هذا الإطار إلا أنها تلتقي في مركزها على مفهوم الـ “نفس” كطريق وحيد نحو الهدف المنشود، ولأنه لا نفس تشبه الأخرى فخرائط هذا الطريق ونتائج الرحلة ليست متقاربة لتكوين نمط سلوكي نهتدي به والثابت الوحيد الذي يؤكد عليه العائدون أنها متاهة معقدة يستلزم عبورها التحلي بدرجة مطلقة من الصدق.
السعادة مفهوم مرن، تباع تحت ظلها المنتجات التافهة وذات القيمة، من يدعو على باب سيرك أو على باب دار عبادة يروجان للمنتج ذاته، والدفوع تتساوى وتبدو حقيقية لتابعي قول أن السعادة في الدنيا وحدها، ولمثلهم من تابعي القول بأنها بالذات في التخلي عن هذه الدنيا، والمفارقة الملفتة أن المناظرات بين أصحاب التيارات المختلفة في سعيهم إلى السعادة تسبب في صراعات أفنت مليارات البشر وأوصلت الأرض إلى حافة نهاية فيما السعادة المتنازع عليها، وكما كان حالها دومًا، تتفرج من دون انفعالات ما.
تنتج السعادة عن إثارة للغدة النخامية المسؤولة عن تحفيز الأندروفين والذي بدوره يطلق الدوبامين المعزز للإحساس بالسعادة. عملية كميائية بالغة الحيوية لأن توقفها أو تعطلها يعني تعاسة قد تقود إلى الاكتئاب، أو إلى أمراض تطال الجهاز العصبي، وفي الحالات الصعبة تنتج مشاكل في الحركة، هكذا يمكننا تفسير الرغبة في ملازمة أماكننا عندما تتوقف الوسائل المعتادة في مدنا بالسعادة، منتجات تحفيز الأندروفين تفشل بعد فترة في إعطاء التأثير المطلوب ما يقود إلى حالة من اثنتين: إما عبودية للجرعات المسكنة من أعمال فنية خفيفة ومنتجات غذائية متخمة بالألوان والنكهات الصناعية المسموح لها بالقتل لكن على مدى طويل. أو الإفاقة من البرمجة المسبقة التي تُسير بها الشركات والأنظمة قطعان البشر من لحظة ميلادهم إلى تكفينهم.
هدف هذا الكتيب الإرشادي المبسط الكشف عن الطريق إلى نفسك باعتبارها المدخل إلى سعادة أصيلة، وبيان أن الصور المرتبطة بها في ذهنك، مع اختلاف قيمها، ليست إلا جزءًا من برمجة مسبقة لعقلك هدفها إلهاءك عن الالتفات إلى ذاتك لأن تلك الالتفاتة كفيلة بنزع رقمك من على لائحة المستهلكين وعودتك لإنسانيتك وهي خسارة غير محتملة للمنتجين
يحتاج الوصول إلى هدف ما تحديد طبيعته أولًا، ما يعني أنه وقبل الاختيار بين قطعة الشيكولاتة أو رحلة داخل الذات، أو الموت في سبيل قضية ما، أن نحدد ما تعنيه السعادة؟ ولأنها مهمة معقدة يمكن تيسيرها بالتفرقة بينها وبين حالات أخرى: الرضا، الحب، الإيمان، وغيرها مما يتم الخلط عادة بينه وبين السعادة والتي يصعب فصلها كوحدة معيارية وبالتالي انتقاء منهج ما لتحقيقها، فيما الأكثر عملية السعي لإيجاد ما يفتقده الغالبية من الناس كالأمان والثقة بالنفس وغيره من حالات شعورية يؤدي غيابها إلى عسر اكتمال الذات.
وعلى هذا إن تمكنت من فصل الحالات الشعورية المختلفة عن بعضها وأوجدت ما ينقصك منها ثم رأيت أنك ما زلت تسعى إلى ما هو أكبر منها، وإن توقفت الأنماط الاستهلاكية في إطلاق الجرعات المطلوبة من السعادة، ونما لديك استعداد جاد لمعرفة ما تعنيه السعادة حقًا.. ساعتها قد تجد في هذا الكتيب الإرشادي بغيتك مع التأكيد على أن تنفيذه يقع على مسؤوليتك.
سين. عين. ألف. دال. تاء مربوطة. سعادة!
تمتاز هذه المفردة من حيث الشكل بقدر كبير من المرح. تأمل شكل الحروف المندمجة في تكوينها، رددها مرات بصمت، وإذا لم تصلك خفتها فانطقها بصوت عال، بإيقاعات وسرعات مختلفة.. ما النتيجة؟ ألم يداهمك شعور بمقدار ما فيها من خفة! أنت في حاجة لتفتح فمك لنطقها، حركاتها لا ضم فيها أو كسر، كلها فتحات!
ساعاداة.
هكذا كان عليهم أن يكتبوها، كما ننطقها لكن التخفف من الحروف في كتابتها قد يكون مقصودًا ليتم تعويضه والتركيز على الناقص من الحروف عند نطقه. ستجد أنك على وشك الابتسام عند نطقها ولهذا فإن ترديدها من التدريبات الجيدة للإحساس بمعناها.
تدريب رقم 1:
قف أمام مرأة وتهلل بينما تردد.. “أنا سعيد.. أنا سعيد”
بضع محاولات، ومع تنويع الإيقاعات والسرعات، وستتلبسك حالتها لأن حركاتها المفتوحة شكلت عضلات فكيك ووجهك بالكامل، أجبرتك على رسم ابتسامة في ظني أنها مصطنعة لأن مصدرها العضلات لا القلب لهذا لن تبقى طويلًا لكن لا بأس التدريب المتواصل سينقلها إلى روحك.
هذا التدريب العضلي البسيط ما تعتمد عليه حياتنا، مداعبة الغدة النخامية بغرض الوصول إلى أورجازم السعادة اللحظي، ومختلف أنواع الدعاية لأشكال العيش المختلفة لا طموح لديها سوى جر الزبائن للوقوف أمام المرأة للهتاف بالكلمة السحرية “أنا سعيد” والمنافسة حامية ولا تتوقف بين منتجات العالم المتنوعة لاحتلال ذهنك في تلك اللحظة لأن الصورة المستدعاة مع الهتاف ستصحبك لفترة كتعريف للسعادة.. حضن امرأة. قصيدة شعر. مشهد من فيلم. مخدر ما. بيان سياسي. مواد إباحية.
هدف هذا الكتيب الإرشادي المبسط الكشف عن الطريق إلى نفسك باعتبارها المدخل إلى سعادة أصيلة، وبيان أن الصور المرتبطة بها في ذهنك، مع اختلاف قيمها، ليست إلا جزءًا من برمجة مسبقة لعقلك هدفها إلهاءك عن الالتفات إلى ذاتك لأن تلك الالتفاتة كفيلة بنزع رقمك من على لائحة المستهلكين وعودتك لإنسانيتك وهي خسارة غير محتملة للمنتجين.
ومع الاعتراف بأن هذا الكتيب قد لا يكون أفضل من كتالوج آخر يروج للسعادة، فإن تنفيذه يتطلب تصديقه بشكل مطلق والنظر بعين الشك والريبة إلى جميع المحاولات المبذولة منذ أول رجل وامرأة على الأرض في البحث عن السعادة، واللذين تركا نتاج خبراتهما في هذا الإطار لذريتهما من بعدهما أملًا في تجنيبها مشقة الرحلة من دون إدراك حجم ما يتسببا فيه من إرباك، فعلى على عاتق ما ظناه محبة تقع مسؤولية تحويل السعادة إلى “مشكلة” تفاقمت إلى أن حوصرنا بكم هائل من الإنتاج البشري تراكم من نصائح آباء محبين.
خشبة مسرح عليها مجموعة من الأسرة يتدلى منها أربطة محاليل تنزل إلى رجال ونساء تصدر عنهم تأوهات مكتومة وبجوار الأسرة أولاد وبنات من أعمار مختلفة.
صوت من سرير رقم 1: السعادة يا أولادي في اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
صوت من سرير رقم 2: أوصيكم بالحفاظ على ما تركت لكم من مال ففيه سعادتكم.
صوت من سرير رقم 3: ليس سوى الحب طريق إلى السعادة.
صوت من سرير رقم 4: يومًا بيوم ولحظة بلحظة تكون الحياة وسعادتها.
هذا الكتيب يطالب من ينوي الإقدام على تنفيذه بالتنازل طواعية عما ورث وما اكتسب من خبرات ومعارف يتباهى بها، لن يعوزه إلا الأساسيات: كتاب وأغنية، وفي مراحل متقدمة سيتم الاستغناء عنهما. وهذه المطالبة أساسها أنه عادة في رحلاتك السابقة داخل نفسك استعنت بخرائط رسمها غيرك بلا إدراك أن لكل فرد خريطة مخصوصة، وأن السعادة التي نخرج في إثرها تجيد التلاعب بالمشتتين والحيارى وعلى هذا فالقناعات المسبقة، المستمدة من القراءات والسماع، ليس لها من تأثير سوى التشويش على حقل الفراغ الذي هو محطة الوصول النهائية لرحلتنا حيث تتواجد السعادة.
المصطلح المتعارف عليه لإسقاط الصور والبرمجة المسبقة اسمه: التخلي. الخطوة الأولى نحو الداخل، ترك كل شيء سعيًا لاسترداد هيئتك القديمة الأولى. إذا وافق هذا هواك ووجدت عندك مللًا مما خبرته يدفعك للتخلي لكنك لا تهتدي إلى كيفية التخلى فالتمرين التالي سيساعدك.
تدريب رقم 2: ابتعد عن مرآتك وفكر في التخلص من الزهو
الزهو هو المانع الأساسي بيننا وبين حقيقتنا، كل ما نزهو به ليس نحن. ضع افتراضًا بأنك لا تملك ولم تحقق شيئًا، هل يمكنك تلبس هذا التصور؟ هل تستطيع الإجابة عن سؤال: من أنت بخلاف ما تملكه؟ هل تذكر قصة جحا وتيمور لنك؟
سأل تيمور المزهو بنفسه جحا: كم أساوي في تقديرك؟ فرد جحا: ليس أقل من 1000 دينار. فقال له تيمور ساخرًا: هذا فقط ثمن ملابسي. فابتسم جحا: إذا فقد كان تقديري صحيحًا.
وفق القصة فأن هدف التدريب الذي نحن بصدده تقدير قيمة أنفسنا، كم نساوي حقًا؟ من دون ألقاب أو ثروات؟ هنا نوشك الدخول بكامل إرادتنا إلى غرفة العمليات حيث نقوم ومن غير استخدام مخدر وبلا أي خبرة طبية بعملية كشط للزوائد إلى أن تعود النفس بلا حمولات تثقلها. لماذا؟ لأن نفسك ليست مالك ولا وظيفتك ولا مهاراتك ولا أي شيء مما تملك. وكي نكون واضحين فهذه ليست دعوة للتبرع بشيء ما، أو لتهب ما لديك للآخرين، لأن هناك من يبالغ في مسألة التخلي لتقوده إلى العيش على حافة الدنيا بلا إدراك أنه تخلى عن نوع من الزهو وسقط في آخر، من زهو الامتلاك إلى زهو التخلي! فيما التخلي وإن كان يعني عدم الامتلاك فأنه كذلك يعني عدم الفقد، والأقرب لهذا سلوك ماركوس أوريليوس أحد فلاسفة الرواقية، الإمبراطور الروماني الذي دانت له الدنيا وكان يفضل بعد الانتهاء من أعمال إدارة مملكته البقاء في غرفة صغيرة ليدون ما نعرفه اليوم باسم “التأملات” تعاليم الهدف منها أن يبقي ذاته حرة من زهو التملك.
“تمادي في إيذاء ذاتك أيتها النفس.. إن هي إلا لحظة ولن يعود لديكِ متسع لاعتبار ذاتكِ. الحياة لحظة، ولحظتكِ الخاصة توشك على النهاية. والسعادة تتعلق على تقدير الذات لذاتها، ومازلتِ تحرمينها من ذلك وتعلقين سعادتكِ على الآخرين: ذواتهم وآرائهم وتقديراتهم” (“التأملات” ماركوس أوريليوس. ترجمة عادل مصطفى)
من الضروري التذكير بالهدف من هذا الكتيب، أنا هنا لا أحبب إليك الزهد بقدر ما أدلك على باب مفض إلى طريق يقودك إلى اكتشاف نفسك من دون ضمانات ما أو توقعات بما ستجده هناك، هذا رهن بك، وصدقني لو قلت بأنه ليس من سبيل آخر إلى السعادة إلا هذا، وعليه ونظرًا للصعوبات والمخاطر المحتملة فهنا بالذات التوقيت الملائم تمامًا لترك هذا الكتيب والاكتفاء منه بهذا القدر والعودة إلى قطعتك من الشيكولاتة مع ضمان أنك ستجدها اكتسبت تأثيرًا أقوى فالقدر القليل من المجهود الذي قمت به في التدريب السابق نحو التخلي يكفي لشحن هرمون الإندروفين مجددًا، لأنك قمت بإسقاط بعض ما يثقلك من هموم وشواغل الدنيا وهو ما يماثل اللجوء إلى الطبيعة للاستشفاء.. ولهذا فهو تمرين يمكن استخدامه من حين لآخر وسط العادات الاستهلاكية المعتادة: التظاهر بالتخلي، السير خطوات على الطريق ثم الرجوع ومن يدري ربما يومًا يتزين لك الطريق لتقطع المزيد فيه نحو نفسك التي أنكرتها طويلًا.
السعادة مفهوم مرن، تباع تحت ظلها المنتجات التافهة وذات القيمة، من يدعو على باب سيرك أو على باب دار عبادة يروجان للمنتج ذاته، والدفوع تتساوى وتبدو حقيقية لتابعي قول أن السعادة في الدنيا وحدها، ولمثلهم من تابعي القول بأنها بالذات في التخلي عن هذه الدنيا
الهدف الرئيسي من اكتشاف الذات يماثل قرارًا بإزالة السيستم من على جهاز إلكتروني ما من دون الاحتفاظ بنسخة احتياطية من الـ”داتا”، الأمر بالفعل ببساطة الضغط على زر إعادة ضبط المصنع، لكن المشكلة في التوصل إلى مكان هذا الزر لأنه من الصغر بحيث لا يمكن تمييزه وسط أزرارًا أخرى ضخمة وبألوان مبهجة وكل واحد منها يغري بالاستخدام إلى أن تمتليء الذاكرة ولا يكون الجهاز، الذي هو في هذه الحالة أنت وأنا، بقادر على أداء الوظائف المطلوبة، أعطال في الاتصال، مشاكل في الاستقبال، تأخر في الاستجابة للأوامر، كلها علامات على ضرورة الحل الصعب.. مسح الذاكرة، تفريغ البيانات، العودة إلى نقطة البداية، إلى اليوم الذي ابتعت فيه الجهاز أول مرة، أو إلى عهد طفولتك إن اقتنعت بأن الجهاز هو أنت وأن البيانات التي تثقله هي ذاكرتك وقناعاتك وأفكارك، فإن اتخذت قرار الـ”فورمات” لن يبقى إلا الوصول إلى الزر السحري ومنح الأمر بمسح البيانات.
ليس فيما سبق استعارة ما وإن بدت هكذا، المسألة بالغة الواقعية، نحن مصممون على نحو يسمح لنا بإلغاء البيانات من فترة لأخرى وهو ما نفعله تلقائيًا من الطفولة وحتى البلوغ وعندها نتوقف عن ذلك ونستعجل أن نكون ناضجين، ثم بسبب الخوف والطمع نتمسك بما عرفناه وحققناه باعتباره جزء أساسي من ذواتنا، لأنه ما الذي سيكون عندنا إن فقدنا هذا؟ للإجابة ضع نفسك مكان تيمور لنك في مواجهة جحا واطرح عليه السؤال: كم أساوي في تقديرك يا جحا؟ وانتظر إجابتك وسوف تأتيك.
تدريب رقم 3: لا تقم بنصف رحلة
إن كنت قد بلغت هذا الجزء من الكتيب فتناسى ما قرأت وعد إلى مشاغلك المعتادة لأن المرحلة المقبلة من الطريق لا مجال فيها للنكوص، هنا تكثر المنحنيات والمنعطفات وتتشابه ومعظم الفشل في ملايين التجارب التي استهدفت معرفة النفس وقع بالتحديد عند هذه النقطة عندما يواصل أحدهم مشوار بحثه عن السعادة داخله من غير قناعة كاملة بالتجربة وباستهانة بالمغامرة، ليجد مع كل خطوة إضافية متاهته تتسع وهو يتخبط فيها نادمًا على ما تخلى عنه ويترافق مع هذا عجز عن إتمام اكتشاف الذات بل ويتحول إلى بغضها عندما يتبين له ما عليه من خواء وضعف.
نصف رحلة لاكتشاف النفس لا تنتج إلا النموذج السائد من البشر: فقدان القدرة على التفرقة ما بين الخطأ والصواب، ازدواج المعايير. الشفقة على الذات. الإحساس بعدم التحقق. الجهل بالكون وقوانينه.
يقع زر إعادة ضبط المصنع تحديدًا في المسافة ما بين العقل والقلب. ما بين الجهة اليسرى واليمنى. ما بين الشك واليقين. ما بين الحب والكراهية. عند حالة الإدراك المتكونة من تمازج الوعي واللا وعي. اختصارًا في النقطة التي تتوازن فيها سائرًا على خط وهمي، وعمليًا يمكن إيجاده خلال رقصة تتسم بالرشاقة، يتبدى ساعتها واضحًا بين الأزرار الأخرى، لن ينقصك ساعتها إلا امتلاك الشجاعة للضغط عليه.
على سبيل التحفيز:
في لقاء له عبر المؤرخ والأستاذ الجامعي الإسرائيلي نوح يوفال هراري (صاحب الكتاب الأشهر”تاريخ مختصر للجنس البشري”) عن قناعته بأن الذكاء الاصطناعي سيكون مسؤولًا في القريب العاجل عن مزاجنا، أو عن سعادتنا. هذا نراه منذ الآن، من دون هاتفك يتغير مزاجك، الموسيقى، مشاهد الفيديو القصيرة، التواصل مع الآخرين، اللايكات. لن يمر وقت طويل، بحسب هراري، قبل تولي الذكاء الاصطناعي اختيار ما يناسبك لتعديل مزاجك إلى الدرجة الملائمة، ولن يمر وقت طويل آخر قبل تقلده مهمة تعريفك على نفسك، ميولك الجنسية سيقوم بتخمينها مما تتابعه، والأزياء المناسبة يختارها طبقًا لمواصفاتك الجسدية.
هل تدرك ما يعنيه هذا؟ عهد آخر من العبودية أكثر شراسة من ذي قبل، لن تملك حرية اختيار ما أنت عليه، الأخطاء والهفوات غير قابلة للغفران لأنها وسيلة التكنولوجيا في رسم شخصيتك وعليها يتم منحك رقمك المسلسل كمستهلك.
ألا يكفي هذا وبعد أن وصلت إلى آخر حدود نفسك للضغط على الزر الذي تقف في مواجهته مترددًا. هل فعلت! مبروك. لديك الآن نسخة فارغة منك نتاج ما يطلق عليه البعض عملية إعادة الولادة، يبدو العالم الآن غريبًا، الصور تتسم بالوضوح الزائد، هذا لأنه بعد مسح سجلات التعريفات التي راكمتها الخبرات تسترد قدرتك على رؤية الموجودات ولا يكون لأي شيء إلا مسمى واحد ينطبق عليه، لن تخلط ثانية ما بين الحب والصداقة، ولن تحتاج الكثير من الوقت للتفرقة بين الظلم والعدل، لا يعني هذا بأي شكل أنك ستكون طيبًا أو بريئًا أو ساذجًا، ما الذي تغير في جهازك عندما عاد إلى حالة المصنع سوى استرداد طاقته كاملة، وهكذا أنت وطاقتك المستردة ستمكنك من رؤية: الكون، وما فيه، وما هو عليه، وموقعك منه.
تدريب أخير:
ينصح بعد الضغط على زر إعادة ضبط المصنع، وبعد أن تمل من تأمل ذاتك التي عادت لك فارغة من البرامج والفيروسات، أن تعمل مباشرة على استعادة ما له قيمة من الملفات المحذوفة. ليست الاستعادة الهدف من التمرين فلم تفقد شيئًا جوهريًا لكنك ستجد أن ما تحقق من خفة مغرٍ للغاية باستكماله عبر المزيد من عمليات الحذف فيما أن الزر مصمم لاستخدامه مرة واحدة ومواصلة الضغط عليه من شأنها إنتاج آثارًا لا يمكن توقع نتائجها لكنها بشكل عام تفضي إلى عدم التأقلم مع أشكال الحياة اليومية.
يكفي بعد حذف الملفات القديمة كلها إعادة تهيئة النظام، وتحميل عدد محدد من برامج التشغيل القادرة على التعامل مع متطلبات الحياة اليومية، ومن بينها مجاراة الناس في بحثهم الدائم عن شيء ما مفقود وناقص فيما تجاهد لمنع ابتسامة تتشكل في قلبك من أن ترتسم على وجهك، هي ذاتها الابتسامة التي تبادلتها مع السعادة عندما لاعبتك بخفة فيما كنت على الطريق إلى ذاتك!