التدريب الأول.. طوعي
أول تدريب عملي تلقيته في ممارسة الطب كان في استقبال مستشفى “شرق المدينة” بالإسكندرية. ذهبت طوعًا في إجازة السنة الثالثة من الكلية. وفي ليلة من ليالي اغسطس السمجة دخلت مصيفة وجهها مصبوغ بأشعة الشمس، مع تقشير خفيف للجلد حول الأنف. تضع مكياج كامل من كحل ثقيل وروج أحمر، تستند على كتف ابنتها المراهقة التي تبدو نسخة مصغرة منها، حتى في لون الشفاة المصبوغة.
ألقى النائب النبطشي سؤالًا بدا لي دراميًا.. أنتِ جايه دلوقتي ليه؟ بدون تحيات ولا تعريف شخصية، وبلا دعوة للجلوس. ارتبكت السيدة وأجابت متلعثمة.. عشان اقيس الضغط. زفر النائب بضيق وقال.. بتشتكي من إيه دلوقتي؟ ذكرت أعراضها.. دايخة ومش مظبوطة، وشخصها النائب.. ممحونة، صرفها للحجرة المجاورة وأمر الممرضة أن تعلق لها محلول.
كان الرجل ودودًا معي يريد حقًا أن يعلمني ما يعرفه، لكن في ظنه ممارسة الطب في حجرة الاستقبال هذه تنسيه ما تعلمه.
أخبرته بصراحة أنني أجد سؤالًا مثل “انتِ جاية ليه دلوقتي؟ غير ملائم، ولم يعترض لكنه برر أنه يطبق فقط أركان الشيت الطبي، حيث أن السؤال الأول الذي لابد أن يلقيه الطبيب على المريض هو عن العرض الأساسي الذي دفعه لترك سريره والقدوم الآن.
في عالم مثالي، يتدرب الأطباء على استعمال لسان بديل، يتعلمون أن ينحوا شخصياتهم جانبًا ويتبعون تقنية استجواب مثبت فعاليتها بالأبحاث العلمية، تقنية مصنعة تمكنهم من فك شفرة الألغاز التي يتحدث بها المرضى وتحويلها إلى أعراض تصل بهم إلى التشخيص الصحيح، لكن لأننا لسنا في عالم مثالي مازال الكثير من الأطباء يستعملون لسانًا هجينا تختلط فيه ذواتهم بالعناصر التي لابد من ملئها في تذكرة المريض.
شرح لي أن مرضى استقبال “شرق المدينة” موسميين. في الصيف يتكرر معه نمط هذه السيدة، يدعي أنه يعرفهم بمجرد النظر، يقضون نهارهم أسفل أشعة الشمس الحارقة وليلهم في أكل الآيس كريم وقياس الضغط كواحد من الأنشطة الصيفية الرخيصة.
العمل في أروقة المستشفيات يطور لدى الأطباء مفهومًا مختلفًا عن الطوارئ، طالما المريض تام الإفاقة وليس لديه مصدر مفتوح لخروج الدماء، فلا داعي لوجوده في هذه الحجرة.
كان عدائه لهذا النمط عداء مهنيًا وشخصيًا. في الأصل هو نائب جراحة موطنه الأصلي حجرة العمليات، ويفضل التعامل مع البشر وهم تحت تأثير البنج حيث لا مجال للحديث. مع زيادة كثافة الكشف في الصيف يجبر مدير المستشفى جميع التخصصات على نوبات عمل إضافية في الاستقبال المخصص أساسا للحالات الطارئة.
العمل في أروقة المستشفيات يطور لدى الأطباء مفهومًا مختلفًا عن الطوارئ، طالما المريض تام الإفاقة وليس لديه مصدر مفتوح لخروج الدماء، فلا داعي لوجوده في هذه الحجرة.
هو الآخر لم يكن من أبناء الإسكندرية، مغتربًا من المنصورة ألقته وزارة الصحة بعيدًا عن أسرته لسد العجز، كان يشعر بالغضاضة لأنها أفسدت عليه الإسكندرية كمصيف وحولتها إلى منفى.
لاحقًا بعدما تحولت علاقتي بالنائب من مدرب إلى صديق، أضاف أنه يكره نمط هذه السيدة تحديدًا، لأنها تتعامل مع استقبال المستشفيات معاملة الخاطبة، تأتي ببناتها للبحث عن عريس دكتور، يراهم جميعًا رايتشل جرين، يحلمن بإيقاع الطبيب الوسيم في شباكهن.
بقدر ما كانت كلماته معارضة للفكرة، خرجت نبرة صوته فخورة، وبمرور الأعوام ومع تنوع النواب والمستشفيات وحجرات الاستقبال، عرفت أن هذا التفكير متجذر في مخيلة الأطباء الشباب، أقول تفكير في محاولة مني للابتعاد عن وصمهم بالوهم\ بالضلال.
التدريب الثاني.. قهري
بعدها بثلاثة أعوام عدت مجددًا للتدريب العملي، لكن هذه المرة مجبرة. التحقت بالتدريب الإلزامي والذي يعرف بسنة الامتياز. يتحول طالب الطب خلال ذلك العام إلى “ميزو”.. الاسم الحركي للمتدرب استعدادًا ليصبح طبيبًا.
مرحلة الميزو هي مرحلة انتقالية يتوقف فيها الطالب عن حفظ المعلومات ليتقيأها في الامتحان النهائي، لكن ذلك لا يعني أنه أصبح مؤهلًا ليحصل على لقب دكتور وما يرافقه من برستيج، هو اختصارًا ميزو.
تُدرب كلية طب الإسكندرية طلابها لعام في المستشفى الميري التعليمي الملحق بالجامعة. تاريخيًا سبقت المستشفى الكلية إلى الوجود. ولديها تاريخ طويل مع الأمراض المعدية.
فقد بنيت في منطقة الأزاريطة، التي بنى فيها محمد علي باشا (حكم مصر بين 1805- 1848) أول حجر صحي لفحص الأمراض المعدية بين الوافدين إلى مصر عبر ميناء الإسكندرية.
في عام 1880 تم بناء المبني الذي يعرف حاليا بالميري، واكتشف روبرت كوخ في معامله الميكروب الذي كان يحصد أرواح المصريين بالآلاف وسماه الكوليرا. من حينها حتى اليوم تخدم تلك المستشفى سكان الإسكندرية وقطاع كبير من المرضى القادمين من المحافظات المجاورة .
كل من مر على استقبال مستشفى الميري، تعلم شيئًا أو اثنين عن ساحات الحرب. تنبعث من الأركان دومًا رائحة عميقة للدماء، الوقوف قريبًا من جرح مفتوح له رائحة فريدة لا يشبهها شئ، ولا تنساها أنفك.
وفي فجر الأيام الهادئة تتدفق أنهارًا من مياه مسح الأرض، ممزوجة باللون الأحمر، لتفضح كثافة العمل في الليلة المنقضية . تختلط رائحة الكلور الطموحة برائحة الجراح المفتوحة، تحاول جاهدة أن تغلب عليها وتفشل في كل مرة.
كل من مر على استقبال مستشفى الميري، تعلم شيئًا أو اثنين عن ساحات الحرب. تنبعث من الأركان دومًا رائحة عميقة للدماء، الوقوف قريبًا من جرح مفتوح له رائحة فريدة لا يشبهها شئ، ولا تنساها أنفك.
بالطبع هناك معايير عالمية يتبعها الباحثون لدراسة كثافة العمل في المستشفيات، منها نسبة الأسرة لعدد المواطنين. وفقا لما نشرته منظمة الصحة العالمية عبر موقعها الإلكتروني فأنه يوجد سرير ونصف لكل ألف مواطن مصري. أما عن نسبة الأطباء للمواطنين، ففي مصر نصيب الألف مواطن هو نصف طبيب.
تراهم في النوبات الليلة يسيرون حاملين أكواب من قهوة رخيصة، زومبي في معاطف بيضاء وعيون تلاعب بها الكافيين والأدرينالين. قد يظن البعض أن محفز الأدرينالين هنا هو الخوف من مقدار المآسي التي تنتهي بأصحابها على أسرة الميري القذرة، لكن الأكيد أن من يخاف ليس له مكانًا هناك.
يتدفق الهرمون دومًا بفعل الغضب، يحفزه رفقاء المأساة.. أقارب المرضى، يزورون مرضاهم في العنابر حاملين أكياس البرتقال وزجاجات المياه الغازية، ويرافقون جرحاهم إلى الطوارئ محملين بالغضب وسب الأطباء على الإهمال. هكذا يشعر المريض أن في ضهره رجاله، ويتفاخر الصديق أنه وجّب مع صديقه.
بالرغم من الحضور القوي لمشاعر مثل الغضب والتحفز والخوف في العيادات والعنابر واستقبال المستشفيات، لا تهتم كلية الطب بتعليم طلابها دروسا كافية عن الصحة النفسية. وبالرغم من دور هذه المشاعر الفعال في تحديد العلاقة بين الطبيب والمريض، وفي استجابة المريض للعلاج، وفي كونها مؤثر محوري في جودة الخدمة الطبية، يدرس طلاب الطب منهج بدائي للغاية عن الأمراض النفسية، وطوال الستة أعوام هي عمر دراستهم للطب نجد أن نصيب الأمراض النفسية من المحاضرات هو 4 ساعات معتمدة لا غير. ينتج عن هذا خرافات لدى الأطباء عن المرض النفسي أعمق وأشد خطورة من خرافات غيرهم.
أولها أن المرض النفسي تشخيص واحد كبير، سندرة تضم كل الأعراض التي لا يريدون التعامل معها، أو يفشلون، إن كنت تفهم قصدي.
ثانيًا أنه أكثر شيوعًا في النساء منه في الرجال. وبالطبع تختلف النسب باختلاف التشخيص. تشير الدراسات أن نسب الإصابة متساوية بين الرجال والنساء في أمراض مثل الفصام وثنائي القطب بينما نسب الرجال المشخصين بأمراض مثل التعاطي والوسواس القهري تفوق النساء.
تتجلى آثار الخرافات كلها فوق أجساد النساء، عندما يتوقف الطبيب عن ممارسة الطب وينتقل إلى لعب دور وكيل نيابة. فيقرر أن مجموع الأعراض المتناثرة والتي لا يمكن تشخصيها وفقا لمرض باطني واضح، هي دلع مريء لا مكان له في المستشفى وبالتالي تتحول كل الفتيات القادمات بألم مبرح من احتمالية “التهاب حاد في الزائدة الدودية” إلى “سايكوتك”..
أما عن الخرافة المدمرة بحق فهي أن المرض النفسي ليس عضويًا، وهذا الاعتقاد في ألطف وصف له هو جريمة لابد أن يعاقب عليها القانون يومًا.
تتجلى آثار تلك الخرافات كلها فوق أجساد النساء في استقبال الميري، عندما يتوقف الطبيب عن ممارسة الطب وينتقل إلى لعب دور وكيل نيابة. فيقرر أن مجموع الأعراض المتناثرة والتي لا يمكن تشخصيها وفقا لمرض باطني واضح، هي دلع مريء لا مكان له في الميري وبالتالي تتحول كل الفتيات القادمات بألم مبرح من احتمالية “التهاب حاد في الزائدة الدودية” إلى “سايكوتك”.
وتنتقل كل الزوجات من “اشتباه ذبحة صدرية” إلى “اتنشين هور” تعاقب زوجها لأنه لا يظهر الاهتمام الكافي بها.
بروتوكول الأذى.. كيف يكون من تحت لتحت
تقول الأسطورة، أن أول من أطلق وصف سايكوتك بين الأطباء، كمصطلح لوصف دلع السيدات في حجرات الاستقبال، كان نائب جراحة أو عظام -لن يختلف الحال كثيرًا- خلقه ضيق و ازداد ضيقه عندما أجبره مدير المستشفى على أن يعمل شيفت طوارئ قهرًا.
ولحظها العثر، جاءت مريضته الأولى مراهقة في حالة إغماء. وليكتمل بؤسها، خرجت علاماتها الحيوية كلها سليمة. وفي محاولة من النائب لتجنب الانتحار شنقًا، قرر أن يملأها أنفها بالكحول، ويضع فوق جبينها ملصق سايكوتك كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس تعرف بـ Passive Aggression.
هذا النوع من العدوان المقنع يستخدمه العاملون عادة في المطاعم عندما يكون الزبون سليط اللسان فيبصقون فوق طعامه خلسة. أذى مستتر لا يعاقب عليه القانون، هو فقط غير أخلاقي ودوري يا حكومة.
على الناحية المقابلة كنت أذهب إلى الاستقبال وفي حقيبتي كتاب لا يمت للطب بصلة، اختلس قراءته في لحظات خفوت العمل، أشعر به كحبل يربطني بالعالم خارج أروقة الميري، يذكرني بأنني لا أنتمي ولا أريد.
أجلس بمفردي أقرأ بعين وأراقب زملاء العمل بالآخرى، يأتون بإبر وخيوط من بيوت أمهاتهم ويقفون إلى جوار الطبيب المقيم ليتعلموا غرزًا في الشاش يطبقونها لاحقًا على الجلد.
كنت أذهب إلى الاستقبال وفي حقيبتي كتاب لا يمت للطب بصلة، اختلس قراءته في لحظات خفوت العمل، أشعر به كحبل يربطني بالعالم خارج أروقة الميري، يذكرني بأنني لا أنتمي ولا أريد.
لم أكن يوما خياطة ماهرة. وازددت نفورًا من الفعل في واحدة من التجمعات العائلية، عندما قررت ابنة خالتي أخصائية النساء والتوليد التي تكبرني بعدة أعوام أن تعلمني الغرزة الأكثر شيوعًا، وهي تخيط البط المحشي التي ستتشارك العائلة التهامه بعد قليل.
بدت الفكرة كلها عبثية ومقززة، لكنني اضطررت لتطبيقها يومًا على ساق مراهق تعرض لحادث بشع أثناء رقصه بالموتوسيكل في شارع البحر.
عادة ما يتنافس أطباء الامتياز على فرص كهذه، خياطة جرح كبير تعني تعليم أكثر، وبعده عن الوجه واليد يعني مساحة أكبر للتجربة والتعلم، فالوجه واليد مكانهم حجرة التجميل، حيث الخيوط الغالية وأيادي الخياطين الثابتة.
قرر زميل يومها أن الخياطة بالدور، كان يحاول أن يقتنص لنفسه حالات، في مواجهة عتاولة الخياطة الذين ينقضون على الجروح فور دخولها دون أن يسمحوا للآخرين بالمحاولة.
يحملون في جيوبهم الإبر والخيوط الطبية اللازمة، إما يشترونها بأموالهم الخاصة أو عبر حياكة شبكة علاقات معقدة مع الممرضات، تبدأ من اللحظة الأولى لدخولهم ساحة الاستقبال.
تلعب الممرضات هناك دور رضوان، حراس على جنة من الأدوات الرخيصة، لكنها شحيحة للغاية. على الميزو الصغير أن يشق لنفسه طريقًا إلى قلوبهن، بالنكات التي تحاول أن تكون بذيئة، وبالتعليقات السخية على أوزانهن التي في نزول مستمر، إن كان يريد أن يحصل على الأدوات اللازمة، حيث لا مجال لتخطيهم ولا قيمة لأوامر الطبيب المقيم والذي يعرف بالنائب.
في مواقف استثنائية كهذه يحدث خلل مؤقت ونادر في التراتبية الوظيفية للعاملين في المستشفيات الجامعية. لكن يبقى دومًا في الأعلى آلهة الأوليمب، حيث أساتذة الجامعة الذين لديهم وفرة في الألقاب وقلة في الوقت.
يليهم الأساتذة المساعدون وهم من نراهم في قاعات الدروس وفي المرور الصباحي على المرضى بالعنابر، ثم أوائل الدفعة الذين يكفل لهم تفوقهم الدراسي وظيفة طبيب مقيم بالمستشفيات الجامعية، ليتلقوا من خلال إقامتهم في الميري التدريب اللازم لاتمام التخصص، وأخيرا يسكن قاعدة الهرم الممرضات لكن ذلك لا يعني وفرتهم العددية. ولا مكان لطلبة الامتياز أصلا في ذلك المثلث لكنهم يتشعبطون في رضا ربنا.
عندما رأى زميلي طول الجرح في ساق المراهق انفتحت شهيته على اتساعها، نظر إليه الجميع في انتظار أن تغلب عليه شهوته وينقض على دوري، وفي استسلام ذليل اعترف أنه دوري ولابد أن نحترم جميعًا ذلك، ابتلعت ريقي من القلق، كان وجه الشاب المتألم واندفاع السباب من حنجرته، يزيد من ارتعاشة يدي.
رأيت الجميع يجري رجال ونساء في لحظات فوران الغضب. وحدهم من اللامنتمين أمثالي، أصحاب الملامح الحيادية، يخلعون البالطو الأبيض في هدوء وينتقلون من خانة الطبيب المحتمل إلى خانة المريض المحتمل
أشار زميلي.. اتفضلي. أخبرته أنني لا أملك ولا إبرة ولا خيوط، قال.. من عند ميس فاطمة، أجبت.. ما أعرفهاش، مين فيهم؟ رد باستهزاء.. أصلا! لكنه قرر أن يلعب دور النائب الذي يتمنى أن يكونه يومًا، وتبرع لي بإبرته وخيوطه ورافقني ليعلمني.
كان المراهق المتألم يصرخ طالبًا أقوى تخدير لدينا حيث ألمه لا يحتمل. عادة ما يحتاج زوار الميري إلى جرعات من المخدر أعلى من المرضى في أي مكان آخر، حيث كثيرا ما تسير في دمائهم أقراص الترامادول الشهيرة بالفراولة مسرى الكرات الحمراء.
عندما يبدأون بالسباب و مناوشة النواب، يقرر النواب أن يقللوا من جرعة التخدير الموضعي حول الجرح، كنوع من التربية والمزيد من الباسف أجريشن. وأقترح زميلي أن نربي المراهق، وشعرت فورا أنني في ورطة.
عندما اقتربت من المراهق مرتدية القفازات اللاتكس، نظر إليّ يقيمني سريعًا. لا أملك ملامح تقنع الآخرين بأنني طبيبة، لا تظهر الثقة على وجهي مهما حاولت، تتنوع ردود الأفعال على ملامحي، أحيانا يرفضني المريض تماما ويطلب “حد كبير يتكلم معاه”، أو يصمت بدافع من الفضول ويراقبني مراقبته لقرد يؤدي نمرته.
وضعني المراهق في القفص وألقى لي بموزة. ابتلع صراخه وصمت رغم ألمه. وقبل أن أبدأ بحقن المخدر الموضعي في الجلد حول الجرح، عرفته بنفسي، وشرحت له ما سأفعله وطلبت موافقته، رد متأثرًا.. ماشي يا أبلة.
وضحك زميلي ليس من وصف أبله لكن من لساني المستعار، سألني.. أنتِ بتتكلمي كده ليه؟ لم أرد، قررت الاختباء خلف بروتوكول التواصل مع المريض الذي قرأنا عنه في الكتب.
كانت الأجواء من حولنا مشتعلة كالعادة، شجارات بين الجميع وتهديدات لا تتوقف من الجانبين. أول معلومة يتجاهلها زوار الميري أنه مستشفى تعليمي، وفي مقابل الخدمة الطبية شبه المجانية، يتحولون إلى أداة تعليم.
بينما الأطباء هناك يتعاملون مع المرضي تعاملهم مع المراجع الطبية الضخمة وبريزنتيشن الباور بوينت. اتبعت تعليمات زميلي في الخياطة. صبر المراهق على إيقاعي البطئ. ودعا لي بالنجاح ظنًّا منه أنني في امتحان عملي.
بهذه الفرضية أصبح هو مقدم الخدمة وعلي أن أشكره. وشكرته فعلا على هدوئه، حيث أنني لا أراه كثيرا هناك.
كان لدي زميلى تفسير أخر للهدوء الناشز الذي تمت به الخياطة. بعدما انتهينا أخبرني أنه يكره العنصرية الموجهة نحو الأطباء الذكور، فهم عرضة دومًا للعنف، في حين إذا تعامل المريض مع طبيبة تهدأ حدة المعاملة فورًا.
لا نملك أرقام فعلية توضح حجم العنف الموجه ضد الأطباء عموما في استقبال المستشفيات المصرية، وبالتالي لا أملك إثبات لصحة نظريته من عدمها. لكنني رأيت الجميع يجري رجال ونساء في لحظات فوران الغضب. وحدهم من اللامنتمين أمثالي، أصحاب الملامح الحيادية، يخلعون البالطو الأبيض في هدوء وينتقلون من خانة الطبيب المحتمل إلى خانة المريض المحتمل.
الميري أو كيف بدأ الخلق
في الميري هناك محاكاة دورية لقصة الخلق. كل تاريخ علاقة آدم بحواء يُبعث من جديد في شهر مارس مع بداية سنة الامتياز، والتي تعرف من الباطن باسم موسم تزاوج كائن الميزو.
تلتحق الدفعات الجديدة بالتدريب ويتم توزيعهم في مجموعات على العنابر. يدخلون العام فرادى و بالتدريج تمتلأ صفحاتهم الشخصية على الفيسبوك بأخبار الخطوبة وفي بعض الحالات الجامحة بأخبار الزواج. الأولوية دومًا لأبناء الدفعة الواحدة، ليكون زيتنا في دقيقنا، ويبقى النائب السينيور السينجل هو الألفا ميل الذي تفوز به الفتاة الأوفر حظًا.
هنا قد يبدو وصفي تدخلًا سافرًا في أمورهم الشخصية غير متعلق بالمنظومة الصحية وسير العمل في المستشفيات المصرية، حتى تأتي لحظة تقسيم الجدول، نرى الخطيب الميزو يختار الشفتات الليلية حسب مناوبات خطيبته.
والتي حددت موعد زفافها تريد من زميلتها السينجل أن تشيل الشيفتات بدلًا منها حيث أنها عروسة ولديها ما يكفي من الضغوط. أما النائب اللي عليه العين يسمح للجميلة أن تتعقم وتدخل معه العمليات، ويسمح لها أن تقفل جرح العملية وراه، والممرضات ينفذن تعليمات الامتياز الميل ابن الناس/ أساتذة الجامعة الذي يركن سيارته داخل الكلية.
أما عن فك شفرة خطة العلاج أثناء المرور الصباحي فتكون حسب نوعية المجموعة ومدى توافقها، وتتناسب جودة المعلومات تناسبا طرديًا مع مقدار ما تقوم به المجموعة من المهام القذرة، والتي تنحصر في دور عمال توصيل العينات للمعمل وسكرتارية حجز للأشعة ومرافقين للمرضى أثناء عرضهم على قسم أخر، وجامع تبرعات للحالات غير المقتدرة. مهارات ومرونة لا تتطلب من منفذها دراسة لستة أعوام متتالية.
مع غياب نظام مركزي للتدريب، تتحول سنة الامتياز إلى غابة ومنتزه، يضع المتدربون الأكثر نشاطًا معايير للترند الذي سيسود الدفعة، فور أن يتعلم أحدهم مهارة جديدة، تصيب باقي الدفعة حمى تعلمها، ومقدرة كل متدرب تتحدد بكل العوامل الخارجية التي لا تمت للطب بصلة.
في حجرة عمليات جراحة الوجه والفكين، وقفت إلى جوار نائب التخدير في كامل أناقتي، جاون كحلي واسع ومن تحته بادى كارينه يستر ذراعي المحجبة، وماسك طبي يخفي معالم وجهي، سألني الاستشاري عن اسمي، وعندما علم أنني من عائلة الشيخ، استنتج قرابتي لأحد أشهر جراحي الوجه والفكين في الإسكندرية، لم أنكر أو أثبت تلك القرابة. كان الجراح من عائلة الشيخ فعلًا، لكن علاقتي به هي بمقدار قرابتي للمخرج كمال الشيخ، ومقدار قرابتي لشرم الشيخ وكفر الشيخ. كفل لي هذا الصيت معاملة مميزة في القسم.
مع غياب نظام مركزي للتدريب، تتحول سنة الامتياز إلى غابة ومنتزه، يضع المتدربون الأكثر نشاطًا معايير للترند الذي سيسود الدفعة، فور أن يتعلم أحدهم مهارة جديدة، تصيب باقي الدفعة حمى تعلمها، ومقدرة كل متدرب تتحدد بكل العوامل الخارجية التي لا تمت للطب بصلة.
في دفعتي تعلم أحدهم تركيب أنبوب التنفس، وليصل بالتحدي لأعلى مستوياته، كانت الحالة طفل صغير لا يتخطى عمره العاشرة. تناقلت الدفعة الحدث تناقلها لأسطورة يونانية.
وعلى حساب اللوتري الجيني المزيف الذي ربحته، علمني نائب التخدير كيفية تركيب أنبوب التنفس، على أمل أن أزكيه لدى نابغة عائلة الشيخ وجراحي الوجه والفكين، والذي سيزكيه بدوره لدى الاستشاري. وحتى أنه سمح لي بتطبيق ما تعلمته على طفل، وهكذا في لمح البصر تمكنت من معايشة أسطورة يونانية لايف وحصري في حجرة العمليات.
ومع حلول شهر مارس في العام التالي، يرحل المتدربون جميعًا بشهادة تخرج مؤقتة وبما تمكنوا من حمله من خواتم الخطوبة والمهارات العشوائية ويبقى حرفيًا.. التعليم في الراس مش في الكراس.