منذ عام تقريباً قررت إصلاح حقائب الظهر خاصتي بعد أن اهترأت أجزاء منها أدّت لخروجها عن نطاق الخدمة. كنت قد استبعدت خيار شراء حقيبة جديدة لصعوبته في الوقت الراهن، كما أجّلت موضوع الإصلاح مراراً وتكراراً بسبب استغنائي عن حاسوبي المحمول الذي لم يعد محمولاً بعد خروج بطاريته عن الخدمة أيضاً، فأصبحت ساعات تشغيله محدودة ومرهونة بمجيء الكهرباء التي صارت أمراً نادراً بسبب سياسة التقنين التي تتّبعها وزارة الكهرباء السورية منذ بداية الحرب. لهذا لم أعد بحاجة لحقائب الظهر وعوضاً عنها اكتفيت بحقيبة صغيرة تُحمل على كتفٍ واحدٍ وتتسع فقط للأوراق الثبوتية والهامة وبعض المال إن وُجد.
لكنّ حدثاً طارئاً جعلني أقوم بتسريع عملية الإصلاح، وهو نشوب خلاف بيني وبين أفراد أسرتي اضطررت على أثره للخروج من المنزل ريثما تهدأ العاصفة العائلية. ولعدم امتلاكي سوى حقيبتي الصغيرة تلك ألغيتُ خطة النزوح المؤقت عند أحد الأصدقاء واكتفيتُ بالتسكّع حتى يهبط الليل ومن ثم العودة إلى المنزل بعد أن ينام الجميع.
بعد عدة ساعات حلّ المساء. كنت قد تعبت من المشي في شوارع التي أغلقت محالها وغاب زبائنها مع هبوط الليل الذي يُغرق المدينة في ظلام كامل لا تنيره سوى أضواء الليدات العشوائية من هنا وهناك، كما أن الجوع قد بدأ يتسرب إلى أمعائي، فقررت العودة إلى الحارة والاتصال بـ ثائر الذي يسكن قرب منزلي لقضاء بعض الوقت معه إلى حين انتصاف الليل لأعود إلى المنزل.
ثائر _ والذي يبلغ من العمر 26 عاماً _ صديقي منذ أكثر من عشر سنوات، نحن نسكن في نفس الحي تقريباً، وهو حاصل على شهادة في التعليم الأساسي لكنه لم يكمل تعليمه بعد ذلك، حاله حال الغالبية في منطقتي.
لمدة ثلاث سنوات عمل ثائر في صالون للحلاقة النسائية، كان صالوناً ضخماً ومشهوراً يقع مباشرةً على أوتوستراد المزة، أحد أحياء دمشق الراقية، إلا أنه ولأسباب دينية تتعلق بالحلال والحرام، قرر ترك الحلاقة النسائية والعمل في صناعة الحقائب المدرسية، وهو الآن بعد خمس سنوات من ممارسته المهنة ومعرفته جميع التفاصيل والخطوات التي تتعلق بمراحل التصنيع، أصبح وكما يقولون في اللهجة المحلية “معلّم” في الصنعة.
جلست رفقة ثائر على سطح منزله المطّل على سوق باب الجابية غربي دمشق، شربنا الشاي وتبادلنا الأحاديث، أخبرته عن مشاكلي العائلية ومشاكل الحياة عموماً، تحدثنا عن أوضاع البلد وتساءلنا متى سيفرجها الله علينا، ثم أخبرته عن نيتي زيارته غداً في ورشته لإصلاح الحقائب، قال لي بأنه لا يستطيع مساعدتي لأنه قد ترك العمل في الورشة منذ أسبوع.
آخر موسم الحقائب
هذه ليست المرة الأولى التي يقوم بها ثائر بترك العمل في الورشة فخلال خمس سنوات قام بترك عمله أكثر من سبع مرات ولأسباب مختلفة، معظمها يتعلق بالأجر الذي يتقاضاه والذي لا يتناسب مع المعيشة، أو أسباب ثانوية لها علاقة بالسلوك والالتزام بساعات الدوام والغياب المتكرر.
في المرّة قبل الأخيرة التي ترك فيها الورشة أي منذ حوالي السنة، كان ثائر قد اختلف مع رب العمل حول أجره الشهري (100 دولار تقريباً) والذي لم يعد يكفي ثمناً لطعام الغداء في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف في سوريا فما بالك بثمن السجائر، إلا أن المعلّم رفض الزيادة بحجة أن السوق “داقر” حيث لا بيع ولا شراء ولا من هم يحزنون.
عندها قام ثائر بترك العمل عند المعلّم وحلف بأنه لن يعود ولو أعطاه وزنه ذهباً، وجلس في منزله لمدة ستة أشهر أصبح خلالها محترفاً في لعبة PUBG mobile بمعدل قتل 5.8 في اللعبة الواحدة، لكن وبسبب جلوسه في منزل ذويه كفرد عاطل عن العمل وغير منتج، قام والده بطرده خارج المنزل وأخبره بألا يعود إليه حتى يقوم بالعثور على عمل.
خرج ثائر من منزله وأصبح نازحاً عند أصدقائه، لمدة شهرٍ كامل لم يجد أي عمل، أو بمعنى أصحّ لم يجد عملاً يستطيع من خلاله العيش كإنسان، وهذا ما دفعه في نهاية المطاف للعودة مجبراً مكرهاً إلى الورشة بعد أن كسر يمينه وقام بصيام ثلاثة أيام، وقد اتفق مع رب العمل في نهاية الأمر على أجر شهري قدره 120 دولار.
في بعض الأحيان، و بالأخص عند تعيين مسؤول جديد، تقرر لجان البلدية والمحافظة تطبيق القانون وتشكيل دوريات لملاحقة البسطات ذات المنظر غير الحضاري. عندها، تختفي الضوضاء والباعة والخضار والفواكه الموسمية ويصبح السوق مجرد طريق حجري عادي
سألته عن الأسباب التي دفعته لترك العمل هذه المرة، قال لي بأن المعلّم يتهمه بالتقصير في عمله ويطالبه بساعات عمل إضافية لأن موسم الحقائب المدرسية لم ينته بعد، إضافة إلى اعتقاد المعلّم بأن ثائر يقوم بتخريب “الشغّيلة” وتحريضهم عليه.
سألته عن قصة التحريض والتخريب، أخبرني بأنه في أحد الأيام، حوالي الساعة الخامسة مساءً وقبل انتهاء دوامه الذي يبدأ في التاسعة صباحاً قام بالذهاب رفقة اثنين من “الشغّيلة” إلى المسبح الذي يغلق أبوابه في الساعة الثامنة مساءً.
يقول ثائر: “في ذلك اليوم كانت درجات الحرارة قد تجاوزت الـ 44 درجة”، وفي صباح اليوم التالي غضب المعلّم من هذا التصرف على الرغم من أنهم قاموا بطلب إذن منه للذهاب، واتهم ثائر بأنه وراء مشروع المسبح وغيره من المشاريع المقترحة التي تضر بمصلحة العمل، فقام ثائر بترك العمل في الورشة قبل أن يطلب منه المعلّم ذلك.
يقول ثائر: “هاد كلو ملعوب من المعلم، كرمال يجيب شي حدا بدالي، بدو شغّيل يكون حمار شغل وما يفتح تمو بحرف”، ثم أضاف بأنه كان يستطيع البقاء في الورشة إن هو اعتذر للمعلّم وعبّر عن أسفه وندمه وعدم مطالبته بزيادة في الأجر، إلا أنه حلف بأنه لن يعود إلى الورشة لأنه وعلى حد قوله قد ضاق ذرعاً بهذه الحياة وبالمهنة وبالمعلّم، وأنهى كلامه بأن شتم المعلّم والمهنة والحياة، ثم أخذ نفساً عميقاً من السيجارة وأشاح بوجهه ناحية القمر، وقال والدخان يخرج من فمه: “لو إني لسا عم بشتغل كوافير نسواني كنت هلّق (الآن) قاعد بدبي”.
عدت إلى المنزل بعد أن نام الجميع، أشعلت ضوء الليد، وجلست إلى طاولة المطبخ أتناول صحن “الجظ مظ” الذي كانت أمي قد خبأته في حال قررت العودة للمنزل .. عبارة واحدة كانت تدور في ذهني طوال الوقت بعد حديثي مع ثائر، عبارة كنت قد صادفتها وقرأتها عشرات المرات وأنا في طريقي للذهاب يومياً إلى مكان دراستي بالقرب من ساحة الأمويين، عبارة منسية كُتبت على أحد الجدران إلا أنها ما زالت تُقرأ بشكل واضح بالنسبة لملايين السوريين “اليد العاملة هي اليد العليا في دولة البعث”.
باحة الورشة. تصوير: محمد علاء الدين عبيد
رحلة إلى الورشة
تبعد الورشة عن منزلي حوالي 500 متر. في الطريق إليها، ستضطر للمشي عبر شارع حجري يصل بين باب الجابية وباب السريجة، مشكلاً ما يُعرف بسوق باب سريجة الممتلئ بضجيج الباعة الذين يفترشون أرض السوق لبيع بضاعتهم من خضار وفواكه موسمية، منذ الصباح وحتى غياب الشمس.
في بعض الأحيان، وبالأخص عند تعيين مسؤول جديد، تقرر لجان البلدية والمحافظة تطبيق القانون وتشكيل دوريات لملاحقة البسطات ذات المنظر غير الحضاري. عندها، تختفي الضوضاء والباعة والخضار والفواكه الموسمية ويصبح السوق مجرد طريق حجري عادي يصل بين باب الجابية وباب السريجة. في اليوم التالي، يعود الباعة إلى السوق بعد أن يقوموا بجمع الأتاوات وإعطائها للجان المحافظة كي تغض النظر عنهم.
تقع الورشة داخل إحدى الحارات التي تتفرع من السوق، وهي عبارة عن منزل عربي قديم يتألف من ست غرف موزعة على طابقين. وللدقة، فإن المنزل يحوي ورشتين لصناعة الحقائب، الأولى في الطابق الأرضي يديرها المعلّم أبو عدنان (38 سنة) ، والثانية في الطابق العلوي يديرها المعلّم غالب (35 سنة) وهو الشقيق الأصغر لأبو عدنان، وعلى الرغم من صلة القرابة بين الاثنين، إلا أن الورشتين منفصلتان تماماً عن بعضهما في الأمور التي تخص العمل والإنتاج، لا يجمعهما سوى الباب الحديدي للمنزل وساعات العمل التي تصل إلى عشر ساعات يومياً من التاسعة صباحاً وحتى الساعة السابعة ليلاً.
عندما نقول بأن الورشة تقع في منزل عربي، قد تخطر في البال الكثير من الصور عن الورد الجوري المزروع في أحواض أرض الديار، والياسمين الدمشقي الذي يتسلق جدران البيت بعشوائية واستمرار، قد تخطر للذهن تخيلات عن بحرة كبيرة مملوءة بالماء تتوسط أرض الديار، يستطيع القاطن في المنزل الاستمتاع بشرب فنجان قهوة على ضفافها رفقة صوت العصافير، أو الاستمتاع بمراقبة المطر في الشتاء عبر شباك الليوان المطل على أرض الديار، بصحبة كأس ساخن من المليسة، أو مثلاً قد يخطر لك مشهد عقد قران لعروسين في صالون دمشقي يحتوي على طقم كراسي مشغول بالصدف ورسوم فسيفسائية إسلامية تملأ السقف والجدران، إلا أنه وبمجرد الدخول من باب الورشة الحديدي فإن جميع الخيالات والصور والمشاهد سيتم نسفها.
بما أن الحظ لم يحالف فارس في الحصول على شهادته فإن بقاءه في البلاد بعد أن يتجاوز سن الثامنة عشرة يعني أن عليه الذهاب للخدمة العسكرية الإلزامية، وإن حالفه الحظ في البقاء حياً، فإنه قد يظلّ مجنداً لست أو ثماني سنوات، وربما أكثر ..
هناك، لا شيء سوى الحقائب وأثواب القماش المسنودة على الجدران والكثير من المقّصات والسّحّابات المبعثرة في كل النواحي، وعوضاً عن صوت العصافير وأنت تحتسي فنجان قهوتك، ستسمع صوت المكنات وهي تجمع أجزاء القماش سوية، ولن تعرف إن كان المطر قد توقف عن الهطول أو إن كانت الشمس قد أطلت من خلف الغيوم، فالليل والنهار والصيف والشتاء متشابهون تماماً لأن الورشة بأكملها مغطّاة بشوادر كبيرة ماركة UN كانت الأمم المتحدة تعطيها للنازحين الذين خرجوا من بيوتهم أيام الحرب، واليوم أصبحت تحجب ضوء الشمس عن أرض الديار، وتبقي ضوء النيون الأبيض، الضوء الوحيد والمسيطر في هذا المكان.
فتحت الباب الحديدي للورشة، وهو باب بمفتاح سرّي لا يعرفه إلا أفراد الورشة، عبارة عن قطعة قماش رُبط أحد أطرافها بقفل الباب الداخلي بينما بقي الطرف الآخر متدلياً نحو الخارج. صُمم هذ المفتاح السري خصيصاً لمنع دخول الغرباء وغير المرغوب فيهم من جُباة الكهرباء وموظفي التأمينات والشؤون الاجتماعية، الذين إن شاءت الصدفة وفُتح لهم باب الورشة، يقومون بأخذ حصتهم من على باب الورشة دون الإحساس بالفضول لدخولها ورؤية ما بداخلها، ثم يعودون إلى مكاتبهم ليكتبوا بأن كل شيء يجري على ما يرام.
في باحة الورشة كان المعلّم مشغولاً كعادته في رسم موديل جديد للحقائب المدرسية، قطعت شروده ملقياً عليه التحية فبادرني بسلامٍ حار. أبو عدنان يحبني ويحترمني كثيراً لأنني على حد قوله: “دارس.. والدارس يا أخي غير”.
عملت في الورشة يومياً ولمدة ستة أشهر بين عامي 2020 و 2021، كانت جائحة كورونا قد استنزفت أموال الجيوب والحصالات، وهذا ما دفعني للعمل في الورشة وجني بعض النقود لأستطيع من خلالها دفع مصاريف مشروع التخرج.
كان حديثي مع المعلّم حديثاً ودياً، سألني عن أحوالي، كذبت عليه وأخبرته بأني أقوم بإخراج مسرحيةٍ عالمية، أبدى إعجابه وسألني إن كنت سأبيع مسلسلاً لرمضان القادم، أجبته بأن لا.
ظن أبو عدنان أني أتيت للتوسط بينه وبين ثائر لكي يعيده إلى العمل، إلا أنني قطعت شكوكه عندما رفعت يدي لأريه الحقائب مخبراً إياه بأني قد أتيت لزيارة صديقي أبو عماد في الطابق العلوي لإصلاح حقائبي. سألني عن ثائر فأبلغته أن ثائر يستعد للسفر إلى السعودية للعمل في مطعم شاورما يمتلكه عمه هناك. صمت أبو عدنان للحظات بدى فيها متأثراً ثم قال: “الله ييسرلو”. استأذنت منه للصعود إلى غرفة أبو عماد، دعاني لتناول كأسٍ من الشاي فوعدته بأني سأعود لشربه عندما أنتهي.
على أبواب المنفى
صعدت الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي. في نهاية الدرج توجد غرفةٌ صغيرة تحتوي على ماكينتين، أطلقنا عليها اسم المنفى لأنها تابعةُ إدارياً لورشة أبو عدنان، إلا أن موقعها بعيدٌ نسبياً عنها وأقرب إلى الورشة الأخرى.
كان باب المنفى مفتوحاً، وبداخل الغرفة كان فارس (17 سنة) يجلس خلف ماكينته وعلى مقربةٍ منه يجلس أخوه الأصغر غيث (14 سنة)، شخصٌ ثالث يجلس خلف الماكينة الأخرى لا أعرفه، أثناء فترة عملي في الورشة كان فارس “شغّيل دف”، إلا أن أبو عدنان رقّاه وقرر تعليمه وتدريبه ليعمل على الماكينة بسبب نقص في عدد العمال.
و”شغّيل الدف” هو العامل الذي يقوم بتحضير القطع وتقطيعها وصفها لتوضع أمام شغّيل المكنة، الذي يقوم بجمعها وصنع أجزاء متفرقة من الحقيبة، ليعود “شغّيل الدف” ويقوم بقص الزوائد وتحضير هذه الأجزاء ليتم جمعها من جديد بواسطة المكنة لصنع جزء أكبر من الحقيبة، وهكذا إلى أن يتم الانتهاء من صنع الحقيبة بشكل كامل، عندها يقوم شغّيلة الدف بتوضيب الحقائب وتغليفها بأكياس نايلون شفافة ثم وضعها في أكياس خيش كبيرة ونقلها إلى المستودع.
وقفت على باب المنفى، ألقيت التحية على فارس وسألته عن أحواله، أخبرني أنه مسافرٌ إلى مصر في نهاية الشهر القادم قبل أن يُساق إلى الخدمة العسكرية، وذلك بعد فشله للمرة الثالثة في الحصول على الشهادة الإعدادية والتي بدورها تسمح له بالتقدم للثانوية العامة، وهذا ما يسمح له بتأجيل موعد سوقه إلى الخدمة الإلزامية لعدة سنوات ويبقيه داخل البلاد قريباً من أهله.
سألته عما سيفعله في مصر فأجابني أنه سيذهب للعمل في معملٍ لصناعة الألبان، أحد أقربائه هناك أمّن له هذه الوظيفة، سألته بأي محافظةٍ سيعمل وكم سيكون راتبه، لم يكن يعرف أية تفاصيل، استفزني جهله وعدم مبالاته بالموضوع فقلت له: “ليش مسافر إذا مو عرفان لوين مسافر؟” فأجابني على الفور: ” لأنو أحسن من هون”
وبما أن الحظ لم يحالف فارس في الحصول على شهادته فإن بقاءه في البلاد بعد أن يتجاوز سن الثامنة عشرة يعني أن عليه الذهاب للخدمة العسكرية الإلزامية، وإن حالفه الحظ في البقاء حياً، فإنه قد يظلّ مجنداً لست أو ثماني سنوات، وربما أكثر .. ما يدفع معظم الشبان ممن لم تسمح لهم الفرصة في الحصول على تأجيل دراسي أو إعفاء صحي، للهرب خارج البلاد، سعياً لإنقاذ سنوات شبابهم والعودة إلى أهلهم بعد جمع بدل الخدمة العسكرية الذي يبلغ 8 آلاف دولار، وكثيرون منهم لا يفكّرون بالعودة.
فيما سبق كنت قد حاولت مساعدة فارس بإعطائه دروساً في اللغة العربية والرياضيات، لكنني فقدت الأمل حين عرفت أن فارس لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يستطيع حفظ جدول الضرب أبداً على الرغم من نجاحه في جميع صفوفه الدراسية. سألته عما سيفعله في مصر فأجابني أنه سيذهب للعمل في معملٍ لصناعة الألبان، أحد أقربائه هناك أمّن له هذه الوظيفة، سألته بأي محافظةٍ سيعمل وكم سيكون راتبه، لم يكن يعرف أية تفاصيل، استفزني جهله وعدم مبالاته بالموضوع فقلت له: “ليش مسافر إذا مو عرفان لوين مسافر؟” فأجابني على الفور: ” لأنو أحسن من هون”.
ساد الصمت في المنفى، كان الشخص المجهول يستمع لحديثنا دون أن يتدخل ولكنه كان يراقب كل ما يجري من خلف ماكينته، تجاهلت نظرات الرجل الغريب، ودّعت فارس وأكملت طريقي نحو غرفة أبو عماد.
أبو فهد والأولاد. تصوير: محمد علاء الدين عبيد
إجازة صيفية ممتعة
وقفت عند باب الغرفة التي يعمل أبو عماد بداخلها، في الغرفة ماكينتان، وثلاثة أطفالٍ يفترشون الأرض، وكلٌ منهم منهمك بقص وترتيب القطع التي بين يديه.
كان أبو عماد (25 سنة) يجلس خلف إحدى الماكينات، بينما بقيت الأخرى دون قبطان. نهض أبو عماد من خلف ماكينته واستقبلني استقبالاً حاراً، أمر أحد الأطفال بإحضار كرسيٍّ لي وطلب من الآخر أن يقدم لي كأساً من الشاي.
يضع طفل اسمه سعيد، فنجان الشاي أمامي على الطاولة. أثناء فترة عملي في الورشة جاء سعيد ذو العشرة أعوام ليعمل عند المعلّم أبو عدنان بتوصية من والده أبو سعيد الذي قرر أن على ابنه أن يتعلم مهنة خياطة الحقائب، ومنذ اليوم الأول لسعيد في الورشة قررنا إرساله إلى غرفة المنفى لأنه سيكون عبئاً علينا وعلى العمل لصغر سنه.
فيما بعد، كنا نقوم بإرساله لقضاء بعض المشاوير خارج الورشة كشراء الطعام وبعض الحاجيات، فيذهب سعيد ولا يعود إلا قبل انتهاء الدوام بساعة دون أن يلحظ أحد غيابه. كان سعيد يستغل فرصة خروجه من الورشة للذهاب إلى الحارة واللعب مع أقرانه.
تتجاوز نسبة الأطفال الذين يعملون في الورشة الخمسين في المئة من نسبة العمال، سبب ذلك أن موسم صناعة الحقائب المدرسية يبدأ مع بداية العطلة الصيفية، وينتهي بعد بدء العام الدراسي بشهر، وهذا ما يجعل الورشة إجازةً صيفيةً ممتازة للأطفال الذين أنهوا عامهم الدراسي وأبدوا رغبتهم طوعاً أو بشكل إجباريّ لتأمين ثمن حاجاتهم المدرسية للسنة القادمة، والحصول على حقيبةٍ مدرسيةٍ مجانية ساهم الطفل نفسه بصناعتها وصناعة آلاف الحقائب التي يحملها الأطفال يومياً على أكتافهم وهم ذاهبون إلى المدرسة كل صباح. كما أن تواجد هذا الكم من الأطفال الذين سيصبحون شغّيلة دف، يسمح لأولئك الذين قضوا ستة شهورٍ أو أكثر في الورشة كعمّال دفٍ، باستلام المكنة والارتقاء درجةً نحو الأعلى في سلمهم الوظيفي.
في الشتاء لن يبقى سوى الأطفال الذين يساعدون ذويهم، إلى جانب دراستهم، في مصروف المنزل، أما أغلبهم فلن يعود في الصيف القادم وسيحاول البحث عن مهنة جديدة يقضي خلالها إجازته الصيفية.
تعويض إصابة العمل
جلست إلى جانب أبو عماد مباشرةً خلف الماكينة. كان الأولاد يسترقون النظر إلينا بين الحين والآخر. أخرجت الحقائب وسألته عما إذا كان بالإمكان إصلاحها، قام أبو عماد بتقليب الحقائب بين يديه ثم ضرب بيده على صدره وقال: “محلولة”. سألني إن كنت قد التقيت بثائر مؤخراً، أخبرته بأني على علمٍ بكل ما جرى، شتم المعلّم وأخت الحياة وأخت الذل، وأخبرته بنيتي في الكتابة عن الورشة وثائر، وطلبت منه مساعدتي بالتقاط بعض الصور بكاميرا هاتفه.
وافق أبو عماد على الفور ودون تردد، وسألته عما إذا كان مرتاحاً في عمله فأجابني أنه بالطبع غير مرتاح لأن راتبه لا يكفيه إلا لشراء الحاجيات الأساسية جداً، ولولا الراتب التقاعدي الذي يناله من الجيش كمصاب حرب، لكان وضعه أكثر سوءاً من الآن، ثم أردف يقول بأنه ينوي إكمال نصف دِينه بأن يتزوج من قريبته، لذلك قرر ترك الورشة في نهاية الشهر الحالي والعمل حارساً ليلياً عند إحدى الشركات الخاصة براتب أعلى يصل لـ (200$) شهرياً. يختم أبو عماد حديثه قائلاً: “الشغل بهالورشة ما بطعمي خبز”.
رآني أبو كنعان أُمسك مسرحية “البرجوازي النبيل” لموليير، يومها سألني عن معنى كلمة برجوازي، وبدأت أحكي له عن البرجوازية والبروليتاريا وصراع الطبقات المسحوقة مع رؤوس الأموال، عندما انتهيت من الشرح قال أبو كنعان: “هلق البرجوازي اللي بالمسرحية نبيل، بس هاد اللي عنّا برجوازي انبطاحي قذر” ثم قام من ماكينته وسأل أبو عدنان: “معلّم هلق إنت ليش برجوازي؟”
قبل ست سنوات، أُصيب أبو عماد بشظايا قذيفة هاون في درعا البلد أثناء أدائه لخدمته الإلزامية هناك، انتشرت الشظايا في يديه وساقيه ولم يستطع معاودة المشي إلا بعد سنةٍ من العلاج الفيزيائي. يعمل أبو عماد في الورشة منذ خمس سنوات متواصلة دون أية مشكلةٍ تذكر مع صاحب الورشة، فهو عندما يريد التغيّب عن العمل لفترةٍ طويلة يقوم بوضع جبيرةٍ على إحدى أطرافه الأربعة، مدعياً أنه أُصيب بكسر في عظامه الهشة.
يستغل أبو عماد نقاهته الصحية الواهية للذهاب إلى البحر أو الاستمتاع بالسيران العائلي مع الأهل في بلودان أو الجلوس في المنزل ومشاهدة التلفاز بيدٍ أو قدمٍ مكسورة، ليعوّض ما فاته خلال الأيام التي يعمل بها على مدار السنة وبشكلٍ متواصل من التاسعة صباحاً وحتى السابعة مساءً.
قفزة نوعية من اللحم بعجين إلى الفلافل
في الغرفة المقابلة لغرفة أبو عماد تقع غرفة “المفصّل” وهي غرفة صغيرة تتسع لشخص واحد لا تحتوي إلا على لوح حديدي كبير مثبت إلى الحائط.
عملية التفصيل في هذه المهنة لا تحتاج لأكثر من شخص واحد ليقوم بفرد ثوب القماش على لوح حديدي، ومن ثم يقوم بقص القماش مستخدماً المشرط لصنع قطع مختلفة الأشكال، هذه القطع التي ستُجمع فيما بعد لصنع الحقيبة ووضعها فوق بعضها البعض.
أبو غالب “المفصّل”، رجل في العقد الخمسين من العمر، فلسطيني سوري يسكن في مخيم جرمانا، يمتلك ميزات كثيرة لا يمتلكها باقي العمال إذ لا توجد لديه ساعات دوام محددة، يأتي ويغادر كما يحلو له، وراتبه مرتبط بسرعته ومهارته وعدد الأثواب التي يقوم بقصها، كما أنه الوحيد الذي يحصل على وجبة طعام يومية، وعلى حساب المعلّم.
يدخل أبو غالب إلى غرفة أبو عماد حاملاً بيده كأس الشاي وسندويشة فلافل. فيما مضى كان أبو غالب سلطان زمانه، يأتي صباحاً إلى الورشة على متن دراجته الهوائية ويغادرها في الساعة الرابعة عصراً بعد أن يتناول طعامه، إلا أنه ومنذ عدة شهور اضطر للخروج من منزله ذي الإيجار القديم في المخيم لأن عقاراً جديداً من خمسة طوابق سيُبنى على أنقاض المنزل، واستئجار منزل جديد في المخيم يتسع له ولأولاده الخمسة، لذلك بدأت حالته المادية بالتدهور وأصبح مضطراً لزيادة ساعات دوامه.
يقول أبو غالب وهو يطحن الفلافل بين أسنانه: “زمان .. كان المعلّم يجبلنا شرحات بعجين أو لحمة بالصحن، أو عالقليلة وجبة شاورما أما هلق فلافل .. كل يوم فلافل وبعدين مع هالحالة؟”.
يطنّ جوال أبو غالب، يقرأ الرسالة التي وردته الآن فيكتسي وجهه بابتسامة عريضة، يمد هاتفه أمامنا ليرينا رسالة الراتب الذي يأتيه كل ثلاثة أشهر من الأمم المتحدة، يضحك أبو غالب وهو يفرك كفيه ببعضهما من فرط السعادة ثم يقول لي: “بتعرف لو إني بلبنان كنت قبضت 100 دولار عن كل ولد؟”. يقوم ببلع لقمته الأخيرة بسرعة ويهمّ بالخروج مسرعاً من الورشة قبل أن يطير الراتب.
سعيد. تصوير: محمد علاء الدين عبيد
الصبر مفتاح الأمل
انتهى أبو عماد من إصلاح الحقائب.. شكرته وغادرت الغرفة، عندها رآني جاري راجي والذي يعمل في الغرفة المجاورة لغرفة أبو عماد قام بدعوتي للدخول. لم يكن في الغرفة سوى راجي (32 سنة) وعمار (24 سنة) المعروف داخل الورشة بلقب “الحمار” والسبب في إطلاق اللقب عليه، هو عودته إلى أرض الوطن بعد سنتين من الاغتراب في أربيل والعمل هناك في صناعة الحقائب المدرسية أيضاً لكن براتب يصل إلى (600 $) شهرياً، إلا أنه وبسبب الحنين وأشياء أخرى قرر عمار الرجوع إلى البلد وإلى الورشة التي سبق وعمل بها لمدة خمس سنوات قبل سفره إلى أربيل، وهو الآن وبعد مضي عدة أشهر، نادمٌ على العودة وصرّح بأنه سيرحل في نهاية الموسم إلى تونس ليعمل مع قريب له هناك في معمل للمشروبات الغازية.
جلست بجانب راجي الذي يكبرني بعدة أعوام، عندما كنا صغاراً كان راجي بمثابة عكيد حارتنا، يدافع عنا ضد الغرباء، يقوم بتنظيم دور اللعب في الحارة والتخطيط لشن غارات صبيانية على الحارات الأخرى، كان يملك دراجة نارية ماركة Part نصعد خلفه لنرى أركان الشام السبعة، بينما تلاعب الريح وجوهنا الصغيرة ونحن نضحك في سرور.
جاءت الحرب وحملت معها راجي لترجعه بعد سنتين مصاباً بشظية استقرت في رأسه وأتلفت أعصاب قدمه اليمنى مخلفةً قدماً تعرج ورأساً تطنّ بشكل دائم كلما تزحزحت الشظية من مكانها.
بعد تسريحه من الجيش بسبب إصابته، تقلّب راجي بين مهنٍ كثيرة، تارة يبيع الدخان الأجنبي والبضاعة المهربة وتارة أخرى يقرر العمل في بيع الدراجات النارية المهربة أيضاً، وفي الكثير من الأحيان كان يقف في أزقة الحارة عاطلاً عن العمل إلا أنه وبعد أن تزوج وأنجب طفلته الأولى أراد راجي البحث عن عمل شريف يكسب من خلاله الرزق الحلال فقرر العمل في الورشة عند المعلّم غالب الذي هو صديق طفولته.
يقترب راجي من أذني ويهمس: “مرتي حامل بتوأم، أنا عندي ولد واحد ومو شبعانين اللقمة كيف وقت يصيرو تلاتة؟”، يصمت للحظات كي يرى ردة الفعل التي انطبعت على وجهي ثم يكمل: “وقت عرفت إنها حامل بتوأم خطرلي طلقها بس بعدين استغفرت ربي وحمدت الله على كلشي”. أسأله عما سيفعله حيال هذه المسألة ويجيبني بأنه ما باليد حيلة سوى انتظار الفرج وعطفِ المعلّم غالب الذي تكفل بمصاريف ولادة ابنته الأولى، وقام بصرف راتب شهري للفتاة الصغيرة وقدره 50 ألف ليرة سورية (ما يعادل 12 $).
يسألني راجي: “معقول بس يخلقو ولادي يعطيني المعلّم كل شهر خمسين ألف عالولد؟”.
اقتحم عدنان ابن أبو عدنان غرفة أبو ناجي، وقال موجهاً حديثه لي: “أبو كنعان عازمك عالغدا تحت”. تركت عكيدنا السابق راجي مع تساؤلاته التي ستبقى دون إجابة في الوقت الحالي، ومضيت ألبّي دعوة صديقي أبو كنعان في الورشة السفلية.
برجوازي قذر
هبطت إلى الأسفل، كان المعلم أبو عدنان قد ذهب لتناول الطعام في المنزل ووضع عوضاً عنه ابنه الصغير عدنان لمراقبة سير العمل في غيابه، بينما تبعثر باقي الشغّيلة هنا وهناك، وكلٌ منهم يتناول طعامه على حدى. حسب النظام الداخلي للورشة يحق لكل عامل استراحة طعام مدتها نصف ساعة يومياً.
دخلت غرفة أبو كنعان، كانت ماكينة صديقي ثائر وحيدة دون أن يقوم أحد بتشغيلها، وكان أبو كنعان (32 سنة) جالساً خلف ماكينته ينتظرني وقد وضع أمامه طبقاً مليئاً بـ “المجدّرة” التي طبختها زوجته في اليوم السابق ووعاءً مليئاً باللبن الرائب.
أخبرني بأن هذا الطعام بمناسبة قرار تسريحه من الجيش، والذي صدر منذ أيام بعد ثماني سنوات قضاها في الخدمة الاحتياطية، أسأله عن كيفية تلقيه للخبر، فيقول: “كنت قاعد ورا المكنة وقت رن موبايلي، وسمعت صوت ابني كنعان عم يقلي بابا إنت تسرحت.” الدموع المنسابة من عيني أبو كنعان اللامعتين أكملت الكلمات التي عجز لسانه عن النطق بها.
عرفت أبو كنعان خلال فترة عملي في الورشة، هو يعمل في صناعة الحقائب منذ كان طفلاً صغيراً وكان قد ورث المهنة عن أبيه وجده حيث كان يعمل ضمن ورشتهم الواقعة في حيّ ركن الدين قبل الحرب إلا أن الوضع الأمني هناك وذهابه للخدمة الاحتياطية فيما بعد، قد دفعاه لإغلاق ورشته والذهاب للالتحاق بالجيش، وعندما هدأت الأوضاع قليلاً استطاع تدبر أموره والقيام برشوة الضابط المسؤول عنه في الجيش، ليستطيع قضاء ما تبقى له من أيام خدمته الاحتياطية في العمل عند أبو عدنان.
نظر أبو كنعان باتجاه ماكينة ثائر وأخبرني بأنه يشتاق له، وأن العمل من دونه أصبح مملاً، وأنه حاول جاهداً مع المعلّم للسماح لثائر بالعودة إلى الورشة إلا أن رأس المعلّم على حد قوله كانت أقسى من الجدار، ثم أشار ناحية عدنان الذي كانت عيناه تراقباننا من بعيد وقال لي بأن أحدهم قد وشى بثائر، وأخبر المعلّم بأن ثائر لا يعجبه العمل في الورشة وأنه غير راضٍ عن سياسة أبو عدنان في إدارتها وهو _ أي المعلّم _ قد قرر تلقين ثائر درساً بسبب محاولته المتكررة تحسين حياته، ثم التفت أبو كنعان ناحيتي وأخبرني أن المعلّم قد اتفق مع عامل جديد سيبدأ العمل كبديل عن ثائر بداية الأسبوع القادم.
في إحدى المرات رآني أبو كنعان أُمسك مسرحية “البرجوازي النبيل” لموليير، يومها سألني عن معنى كلمة برجوازي، وبدأت أحكي له عن البرجوازية والبروليتاريا وصراع الطبقات المسحوقة مع رؤوس الأموال، عندما انتهيت من الشرح قال أبو كنعان: “هلق البرجوازي اللي بالمسرحية نبيل، بس هاد اللي عنّا برجوازي انبطاحي قذر” ثم قام من ماكينته وسأل أبو عدنان: “معلّم هلق إنت ليش برجوازي؟”. ضحكنا جميعاً وضحك المعلّم من هذا السؤال الذي لم يفهمه والذي ظل مثل الكثير من الأسئلة من دون إجابة.
بعد عدة أيام، عادت المشاكل العائلية للظهور من جديد، هذه المرة قررت توضيب أغراضي داخل الحقائب التي أصلحتها، حملت أمتعتي وخرجت من المنزل.. التقيت بثائر في الحارة، كان يجلس على رصيف العاطلين عن العمل واضعاً سيجارته في فمه وسانداً رأسه بيده، ساعدني على حمل الحقائب إلى الشارع العام، مشينا بصمت وكلٌ منا غارقٌ بأحلامه
انتهينا من تناول الطعام، قام أبو كنعان بمناداة عدنان ابن المعلّم، وطلب منه وضع إبريق الشاي على النار، رفض عدنان الطلب في البداية إلا أن أبو كنعان قام بتهديده إن هو لم يقم بوضع إبريق الشاي على النار، سيخبر المعلّم بأن عدنان يقوم بالتدخين على إسطوح الورشة، ثم قال وبأسلوب ساخر موجهاً حديثه لعدنان “نحنا كرمال مين عم نشتغل؟ مو كرمالك إنت واخواتك؟ كرمال تكبرو وتتعلمو وتصيرو بني آدمين؟ يلا روح حط إبريق الشاي”.
سألته ممازحاً إن كان يخاف من عدنان إن هو أخبر والده عن سلوكه في الورشة فقال لي: “هلق بعد ما اتسرحت ما عادت تفرق معي، قبل .. كنت بالجيش وكان عندي التزامات وهموم، أما هلق ألف ورشة بتتمنى اشتغل عندا”. ثم أضاف: “أنا ناوي اترك هالمصلحة بس ناطر حتى تنباع ورشتنا القديمة واشتري بحقها سوزوكي صغيرة اشتغل عليها على طريق الجبل”.
شربت الشاي مع أبو كنعان وقمت بالتقاط بعض الصور له، ثم ودّعته بعد أن وعدني بـ “سيران غير شكل” عندما يشتري السوزوكي وخرجت من باب الورشة عائداً إلى البيت.
بعد عدة أيام، عادت المشاكل العائلية للظهور من جديد، هذه المرة قررت توضيب أغراضي داخل الحقائب التي أصلحتها، حملت أمتعتي وخرجت من المنزل.. التقيت بثائر في الحارة، كان يجلس على رصيف العاطلين عن العمل واضعاً سيجارته في فمه وسانداً رأسه بيده، ساعدني على حمل الحقائب إلى الشارع العام، مشينا بصمت وكلٌ منا غارقٌ بأحلامه.
صادفنا سعيد الطفل الذي سبق وأرسلناه إلى المنفى، كانت عينه اليمنى منفوخة ووجهه وساعداه مليئان بالخدوش والكدمات، سألته عما جرى له وما الذي يفعله خارج الورشة في وقت الدوام، أخبرني أنه منذ يومين قرر الهرب من الورشة واللحاق بأهله الذين ذهبوا لقضاء بعض الوقت في مزرعة يمتلكها أحد أقربائه عند أطراف بلدة المليحة في غوطة دمشق، لذلك قام بالذهاب إلى شارع الثورة والركوب بإحدى سيارات السوزوكي التي تكون بديلاً للميكروباص أحياناً في ظل أزمة المحروقات، وعند الوصول إلى النقطة التي يريد سعيد النزول عندها، لم يتوقف سائق السوزوكي، فأدرك سعيد بأن سائق السيارة يحاول خطفه، فرمى بنفسه من السوزوكي باتجاه الشارع وبدأ الركض ناحية المزرعة، مبتعداً عن السيارة. ترك سعيد العمل في الورشة وقرر والده إعادته إلى المدرسة لينال حقه من التعليم المجاني في هذه البلاد.
ابتعد سعيد وهو يدندن لحناً في رأسه ويمشي مختالاً غير آبه بالكدمات التي على وجهه بينما مشيت رفقة ثائر إلى الشارع العام. أوقفت سيارة أجرة، وضعت حقائبي التي أصلحتها بداخل السيارة التي انطلقت تاركةً خلفها الحارة والورشة وثائر.