كل ما هو صلب يتلاشى بلا أثر، وكل ما هو مقدس يدنس، وفى النهاية يُرغم الإنسان على أن يواجه بحواس واعية شروطه الواقعية للحياة..
كارل ماركس، بتصرف..
أكتب هذه السطور في الوقت الذي تتم فيه تصفية شركة الحديد والصلب المصرية (تأسست 1954)، ويُفصل العمال تعسفيًا من شركة الإسكندرية للغزل والنسيج (تأسست 1946)، ومعها شركة العامرية للغزل (تأسست 1983) التي ستقوم بتصفية نهائية لكل العاملين فيها مع نهاية العام الحالي. وكاد مصنع سماد طلخا (تأسس 1969 من شركة أم منشأة في 1947) أن يلقى نفس المصير، بعد أن قدم محافظ الدقهلية مشروعًا لهدم المصنع مما أدى إلى اعتصام مفتوح للعمال، إلى أن صدر قرار بتطوير المصنع على أرضه وإلغاء قرار إغلاقه.
أما في العالم من حولنا، فالعاملون بشركة أمازون، في مستودعات ولاية ألاباما، يواجهون أغنى رجل في العالم، جيف بيزوس مالك الشركة. وذلك من أجل إقامة نقابة للعاملين في ظل رفض بيزوس، ومحاولات عديدة لمنعهم من التصويت تتراوح بين الترغيب والترهيب.
إضافة إلى إجبار الشركة لعمال مخزن شيكاجو على العمل لورديات تزيد عن العشر ساعات، وهو ما يعني إجمالا عدد أيام عمل أقل وراتب أقل، وخيّرتهم إما الموافقة على نظام الورديات الجديد أو الإغلاق وخسارة الوظائف في غمار وباء عالمي.
وفي مارس الماضي، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية تقريرًا يكشف أن أكثر من 6500 عامل مهاجر من الهند وباكستان ونيبال وبنجلاديش وسريلانكا لقوا حتفهم في قطر خلال العقد الفائت، منذ أن فازت قطر بحق تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022.
وطالبت منظمة العفو الدولية قطر بإجراء تحقيق مستقل في وفاة العمال المهاجرين، إذ من المرجح وفاتهم في أعمال البنية التحتية والمنشآت الخاصة بالبطولة.
ربما أتحدث فيما بعد عما تمثله تلك الأخبار بالنسبة لي. أما الآن فيجب أن نحدد لون الياقة التي كنتها.
ياقة بين بين
يطلق مصطلح عمال “الياقات البيضاء” على من يقومون بالعمل الذهني أو المكتبي، أما “الياقات الزرقاء” فيطلق على الذين يقومن بعمل يدوي وميداني.
وفقًا لتلك التفرقة كنت ياقة تمزج بين اللونين. ياقة سماوية اللون، إن جاز التعبير.
كان عملي يجمع بين إجراء الاختبارات المعملية في إدارة الرقابة الميكروبيولوجية بشركة أدوية كبيرة، وبين إتمام العمل الورقي، إصدار الشهادات، وتسجيل ومراجعة البيانات. كما تطلب العمل متابعة ورقابة بيئة المصنع من حيث التعقيم وسير العملية الإنتاجية ذاتها.
لم أحصر نفسي في شريحة المعامل “المخملية” مقارنة بالإدارات الأخرى. تضمن العمل بعض التقاطعات مع إدارات مثل الإنتاج والمخازن والإدارة الهندسية. ولم أتبرم منها رغبة في المزيد من الراحة، بل حاولت استغلال تلك التقاطعات في الإلمام بـ”مجتمع المصنع”.
طريق “التحرر” يتطلب “كارير شيفت”، بمصطلحات الاستشارة المهنية والتنمية الذاتية، أما طريق تحرير العمل نفسه فتلزمه “كوميونة”
رأيت البروليتاريا في شقها الصناعي، الكلاسيكي، عن قرب، بلا سحر خفي، مع إدراك الانفصام بين الحياة والعمل. هذا الانفصام الذي يخلقه الاستلاب أو ربما الوعي به.
أعرض تجاربي الشخصية مع العمل، ليس لأنني أعتقد بأن هناك أي شيء خاص أو فريد بشأنها، لكن لاعتقادي أن معنى “العمل” –وربما أي موضوع- لا يمكن سبره إلا بتضافر الذاتي مع النظري.
وجدت أمامي سؤالًا وجوديًا، أو ربما طرحته على نفسي. كان سؤالي على طريقة هاملت..
التحرر من العمل المستلب أم تحرير العمل المستلب؟.. تلك هي المسألة.
المسار الأول فردي، يستلزم قدرًا من الشجاعة بالطبع وبعضًا من المقامرة ومعها مزيد من الإرادة. أما الطريق الثاني، فما يحتاجه لا يقل عن ثورة عالمية. إضراب عام مطول ونقابات واحتلال ميادين العمل.
طريق “التحرر” يتطلب “كارير شيفت”، بمصطلحات الاستشارة المهنية والتنمية الذاتية، أما طريق تحرير العمل نفسه فتلزمه “كوميونة”.
وبين الـ “كارير شيفت” و”الكوميونة” ترحال مضن في صحراء كبرى.
ربما استطعت صياغة السؤال السابق عن علاقتي بالعمل بعد أن ابتعدت عنه، وكذلك كونت ردي عليه فيما بعد. لكن وقت عملي، كانت مشاعري ملتبسة، وتمثلت حركتي تجاه تلك المشاعر في محاولة جلب الثورة إلى العمل.
أردت إحضار الثورة من الشارع/الميدان إلى مكان عملي.
نقل الثورة
في الشهور الأولى التالية للثورة (2011)، نجحت مع الكثير من العاملين، في تحقيق بعض الأحلام المتعلقة بتغيير أوضاع العمل المجحفة بالشركة عن طريق الإضراب.
سرت التعديلات في غالبية الشركات الكبيرة، وكانت الاستجابات سريعة من أصحاب الشركات للمطالب العمالية عقب تنحي مبارك وما تلاه من حرية نسبية.
تكرر الإضراب قبل نهاية العام عقب محاولة المالك والإدارة العليا الإخلال بالتعهدات والتعديلات الجديدة الخاصة بهيكلة الرواتب الأساسية وتوزيع الأرباح.. ومرة أخرى وبعد اعتصام استمر لأيام نجحت جموع العاملين في فرض إرادتها.
كنت مقتنعًا بأن لثورة يناير جانبا أقل فرجة وشهرة من المظاهرات الحاشدة وصور ميدان التحرير. ويتمثل في الإضرابات والاحتجاجات العمالية.
في 30 يناير 2011، أُعلن عن تشكيل الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، أول مؤسسة جديدة تخرج من رحم الثورة. ثم دعا الاتحاد في الثامن من فبراير إلى إضراب عام يطالب حسني مبارك بالتنحي عن السلطة.
استجاب عشرات الآلاف من العمال في أماكن العمل الكبيرة والاستراتيجية مثل هيئة النقل العام بالقاهرة، وهيئة السكك الحديدية، والشركات التابعة لهيئة قناة السويس، والشركة العامة للكهرباء، وشركة غزل المحلة، إلى الدعوة، وشاركوا في حوالى 60 إضراباً واحتجاجاً في الأيام الأخيرة قبل سقوط مبارك في 11 فبراير.
وفقًا لأكثر من تقرير.. “كان الشلل الاقتصادي الناجم عن هذه الموجة من الإضرابات، واحداً من أهم العوامل التي أدّت إلى تسريع قرار مبارك بالرحيل“.
لم تكن تعنيني سلفة الأرباح أو البدلات، وإنما آمنت بـ”الحق في الإضراب” كوسيلة لاستكمال الثورة.
لكن الفشل كان هو نهاية تلك الغاية.
كنت مقتنعًا بأن لثورة يناير جانبا أقل فرجة وشهرة من المظاهرات الحاشدة وصور ميدان التحرير. ويتمثل في الإضرابات والاحتجاجات العمالية
مع نهاية عام 2013، صدرت قرارات بتجريد العمال من غالبية الحقوق والامتيازات التي انتزعوها خلال عامين سابقين.
أقمنا اعتصامًا يطالب بتلك الحقوق. وقبل ذلك، خلال فترة الإغلاق الإجباري بدعوى الصيانة، نظمنا وقفات احتجاجية ولقاءات مع المحافظ ومديرين من مكتب العمل، ووكلاء وزارة القوى العاملة. شاركنا في اجتماعات بنقابة الصحفيين ومقرات بعض الأحزاب والمبادرات الحقوقية.
هتفت.. “يا عمال الشركة اتحدوا.. ضد إدارة بتدبَحكوا” والعدالة الاجتماعية عايزة ثورة عمالية” هتفت حتى بح صوتي.
هتفت.. حتى فُصلت أنا وبعض أعضاء النقابة من العمل.
وكمقاومة أخيرة، أشرفنا -نحن الموقوفون عن العمل- على اعتصام للعمال داخل الشركة غايته الضغط على مُلاكها. وتابعنا وصول الإعاشة لمن هم بالداخل، ومحاولة الدعم المادي والإعلامي للاعتصام الذي استمر حتى تحلل ذاتيًا.
منحني الخروج من الوظيفة التفكير فيما أود أن أفعله في حياتي. كانت ابنتي في شهورها الأولى وقتها. كنت أشارك في الندوات الثقافية، أكتب وأناقش وأنشر قصصًا على استحياء. كان حلمي أن أصير كاتبًا، وكنت أتعامل مع وظيفتي كأنها أمر مؤقت وعابر.
كآبة ترك الرفاق
جاءني خبر الفوز في منحة أدبية وأنا أعمل في وظيفة جديدة لا تختلف كثيرًا عن عملي الأول. كنت قد رأيت بعض العلامات التي تشجع على تغيير مساري، ومحاولة إقامة حياتي حول الكتابة.
استقلت من وظيفتي وتفرغت للكتابة.
ومنذ ذلك اليوم، وكلما طالعت خبرًا، مثل تلك الأخبار في سطور البداية، عن اعتصام للعمال أو وقفة احتجاجية ضد قرارات تصفية، داخل مصر وخارجها، يواجهني شعور بالذنب. كمن ترك رفاقه بمفردهم في ميدان المعركة. إحساس بأنني قد بنيت ذلك التحرر من بؤس الوظيفة على أنقاض قضية كبيرة، مثل النضال البروليتاري.
كلما قرأت خبرًا عن الفصل التعسفي للعاملين بإحدى الشركات تظللني الكآبة، وأشعر بحزن يماثل ذلك الذي يصيبنا عندما نعلم بنزول مكروه على أخ أو صديق.
ربما يسري ذلك الهم، ذلك الحس بالأخوية، في رباط غير مرئي. كأن كل عمال العالم في رباط من شقاء أبدي.
الجنة مكانٌ بلا عمل.. وكذلك الجحيم
في سكتش كوميدي من برنامج SNL بالعربي، تقوم المفارقة الكوميدية على الآتي.. مهندس مدني يأمل في إيجاد ناجين بعد اصطدام نيزك بكوكب الأرض. يتحدث المهندس عن إعادة إعمار الأرض لكن حظه العاثر يوقعه مع “سايس جراج” و”فاشونيستا”. هما فقط من نجيا معه. يتيقن من استحالة تقسيم العمل بينهم أو قدرتهما على معاونته.
ربما نحتاج إلى مجاز نهاية العالم، الأبوكاليبس، كي ندرك تفاهة بعض الوظائف كونها لا تقدم قيمة إنسانية حقيقية.
إذا انتقلنا من المجاز إلى الواقع، فإن الوباء يؤكد لنا على المعنى نفسه بشكل مختلف. إذ اكتست بعض الأعمال بسمات البطولة. كما هو الحال مع الأطقم الطبية في مختلف دول العالم.
ربما نحتاج إلى مجاز نهاية العالم، الأبوكاليبس، كي ندرك تفاهة بعض الوظائف كونها لا تقدم قيمة إنسانية حقيقية
في كتابه الشهير “وظائف تافهة”، يبين عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ديفيد جريبر آثار انخفاض العمالة بالقطاعات الإنتاجية نتيجة الأتمتة والتكنولوجيا، وتضخم منظومة الإدارة وقطاع الاقتصاد الخدمي في المقابل. وبدلًا من خفض ساعات العمل أو توزيعها على جموع أكثر من العاملين تذويبًا للبطالة، توسعت الرأسمالية في إنشاء مجالات عمل حديثة مثل.. العلاقات العامة واللوجستيات والموارد البشرية.
ويوضح جريبر أن الوظائف التافهة قد تكون أعمالا هامشية برواتب ضئيلة أو تحت مسميات حديثة رنانة وبامتيازات مادية كبيرة. لكن في الحالتين تنعدم المساهمة أو المنفعة الاجتماعية. ويفرق كذلك بينها وبين الوظائف “المقرفة” التي غالبا ما تُمارس في ظروف صعبة ومرهقة وبعائد مادي لا يتناسب مع مخاطرها لكنها في الوقت نفسه شديدة الأهمية.
ويوضح الكاتب الأمريكي دان ليونز الأسباب وراء بؤس وتعاسة الموظفين في العمل المعاصر منها ضعف الرواتب، التغيير المستمر وتفشي السخافة، التجريد من الإنسانية وانعدام الأمان الوظيفي.
منظرو التعاسة
ونحن نقرأ تاريخ النضال ضد الاستغلال الرأسمالي، علينا أن لا نكتفي بتذكر من عملوا على كشف طبيعة الاستغلال في نظرياتهم وبياناتهم، أو من صمدوا في المطالبة بتكوين النقابات وتحديد ساعات العمل، أو غيرهم ممن لقوا حتفهم في إضرابات وتظاهرات عمالية. وإنما ينبغي، في المقابل، أن نطالع إرثًا من التاريخ النظري العملي للثورة المضادة، إن جاز التعبير.
يشترك في ذلك الإرث علماء إدارة وأساتذة اقتصاد ومدراء تنفيذين وأصحاب مشروعات.
من التايلورية، نسبة إلى فردريك تايلور (1856- 1915) صاحب كتاب مبادئ علم الإدارة، مرورًا بأستاذ الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل ميلتون فريدمان (1912- 2006) والذي حصر في السبعينيات، وظيفة المدير الناجح في تحقيق أعلى أرباح للمستثمرين وما يفرضه من خفض للأجور والمعاشات والتأمينات، ومعه انتقلت الرأسمالية إلى طورها الذي لا يرى سوى أصحاب الأسهم ويتجاهل أصحاب المنفعة بصفة عامة، من عاملين وموظفين ومدراء.
إلى الألفية الجديدة، مع مانيفستو خبراء وادي السيليكون، وكذلك إعلان باتي ماكوورد الصريح عن ضرورة التقليص المستمر للعمالة وشرعية الفصل التعسفي للموظفين.
وهنا لا نعقد مقابلة أخلاقية بين الخير والشر، بل نوضح مآلات سياق العمل. وهي ليست خافية على أحد، إلى درجة طرحها من أحد صناع المحتوى المتميزين على برنامجه باليوتيوب.
مع فريدمان انتقلت الرأسمالية إلى طورها الذي لا يرى سوى أصحاب الأسهم ويتجاهل أصحاب المنفعة بصفة عامة، من عاملين وموظفين ومدراء
إن تطور الرأسمالية لا يكشف فقط تطور نمط الإنتاج وعلوم الإدارة وسياسات التشغيل، وإنما يكشف أيضا تاريخًا من تطور البؤس وتحور أشكاله في العلاقة مع العمل.
ربما كان مصدر البؤس والتعاسة قديمًا، مع العمل اليدوي و”مجتمع المصنع” أو مع نمط الإنتاج الفوردي، يتلخص في ممارسات كالتمييز أو التنمر والتحرش، بجانب الإخضاع التام للجسد في سبيل مراكمة الإنتاج.
أما الآن فالشركات الحديثة، أنبياء وادي السيليكون ورواد الـ Start ups، ورغم التشدق بتوفير بيئات عمل آمنة وتخصيص إدارات للسعادة والاحتفاء بالمشاركة والجماعية، فإنها تتسابق في إنتاج التعاسة والبؤس. إذ تضع دائما على سلم أولوياتها الضرورات الآتية.. التقليص الدائم للعمالة، وخفض التكلفة (المادية والبشرية)، وسرعة تدوير العمالة، وخلق حالة من “الضغط المستمر” كضمانة لاستمرارية الإبداع.
تحللت العلاقة طويلة المدى مع العمل. أصبحت مجموعة من العلاقات العابرة. نزوات مؤسسية، خلالها توظف مؤسسة ما مجموعة من العاملين ثم لا تلبث أن تفيق من نزوتها، فتفصلهم.
أوهام العمل المستقر
قد يبدو للبعض أن السؤال الذي يجب أن يطرحه كلٌ منّا على عمله يتعلق بالنظر إلى طبيعة وظيفته.. هل هي مستقرة أم لا؟ ولا أريد أن أكون مبعوثًا للتشاؤم لكنني أعتقد في ما أسميته “وهم الوظيفة المستقرة/ الآمنة”. واعتقادي مُفاده أن الوظيفة المستقرة قيدٌ في عنق صاحبها.
من خلال ما رأيته من منظومة العمل، فإنه كلما كانت وظيفتك في مجال أو نشاط أكثر أهمية أو استراتيجية، حيث يُصعب تصفيته أو إيقافه بغض النظر عن التقلبات الاقتصادية والاجتماعية، كلما أمعن أصحاب تلك الأنشطة الاستراتيجية الهامة في إخضاع العاملين والنيل من مكتسباتهم وقتما شاؤوا، لأنهم يستفيدون من العمل “المقلقل” والوظائف المؤقتة والهامشية كأوراق ضغط.
أي أن العامل بـ”الوظيفة المستقرة” في حالة من الإذعان الدائم لأن وجود الوظائف غير المستقرة والأعمال المؤقتة تضغط على شروط عمله ذاته. إنه يخاف من المصائر المأساوية للعاملين من حوله. والرأسمالي يستثمر في ذلك الخوف.
خلال عام من الوباء، قامت بعض الشركات الخاصة إما بتصفية أعمالها أو وقف نشاطها أو تسريح عدد من العاملين بها.
العامل بـ”الوظيفة المستقرة” في حالة من الإذعان الدائم لأن وجود الوظائف غير المستقرة والأعمال المؤقتة تضغط على شروط عمله ذاته
قابلت مؤخرا زميلا قديمًا من إحدى شركات المجموعة التي كنت أعمل بها. في وسط حديثه، قال إنه لم يعمل في الشركة طيلة خمسة عشر عامًا مثلما عمل العام الماضي. كانت الشركة تعمل بطاقتها الإنتاجية القصوى حتى توفر طلبيات التصدير خارج مصر. واضطر الزميل إلى العمل ورديات إضافية معظم الوقت. وهذا يعني دخل إضافي بالطبع. ربما يبدو ذلك أحد الجوانب الإيجابية للوظيفة المستقرة.
لكن المفارقة تكمن في صدور قرار بعد شهور من العمل المضني بالتوقف من أجل عمل صيانة لخطوط الإنتاج، مع إعطاء العاملين إجازة إجبارية لمدة شهر أو يزيد. وبالطبع، فإن الراتب سيقتصر على الراتب الأساسي فقط بدون حوافز أو رباح أو بدلات.
ثمن العظمة
يرى ديفيد جريبر أن “الوظائف التافهة” تخلق لدى ممارسيها نوعًا من “العنف النفسي”، فشعور الشخص أن عمله بلا جدوى لا يفرض فقط شعورًا بانعدام الأهمية وغياب أي تأثير في العالم، وإنما يدمر آدمية الإنسان أيضا.
***
بعد انتشار أحد تطبيقات النقل الجماعي في مصر، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي تدوينات من عاملين في هذا الـ start up “الطموح”، تفيد بحدوث العديد من حالات الفصل التعسفي وزيادة ساعات العمل بشكل غير آدمي، إلى جانب تعنت المدراء وتهديدهم للمبرمجين، والعاملين في تكنولوجيا المعلومات، بفصلهم والإتيان بطاقم مبرمجين من باكستان في صباح اليوم التالي.
انتشر بعدها على السوشيال ميديا فيديو لأحد العاملين بالشركة يدافع فيه عن سياسيات أصحاب العمل والمديرين. يمكن رؤية الفيديو في جوهره كوصلة من النفاق لكن بمصطلحات أجنبية عصرية.
ما لفت نظري هو حديث هذا الموظف السعيد عن “ثمن العظمة”، قالها بالإنجليزية: Cost of Greatness، وهذه العظمة التي يفعلها هذا الموظف، وتفعلها معه الشركة، تتضاءل بجوارها أية صعوبات أو تضحيات بالحياة الاجتماعية والأسرية. التضحية ثمن طبيعي للعظمة.
استغلت الدولة المصرية تلك الفانتازيا في خدمة البروباجندا. قدمت الأسر أطفالا صغارا إلى شاشات الإعلام يهدمون النظريات العلمية ويستحدثون الطاقة من العدم
وبعيدا عن صعوبة إيجاد العظمة في مشروع للنقل التشاركي، يمكننا القول إن إضفاء نوع من العظمة المتوهمة يمثل رد فعل على تزايد الشعور بغياب المعنى وجدوى العمل المعاصر.
إلا أن فكرة العظمة لها جذور قوية عند بعض شرائح الطبقة الوسطى. إنها حلم الانتلجنسيا منها بالتحديد.
العظمة هي قرينة العمل، وغايته. هكذا تجد داخل غالبية بيوت الأسر متوسطة مشروع عالم ذرة، نابغة ستترصد له قوى شريرة من أجل تدميره. ورغم أن نموذج النجم، سواء كلاعب كرة أو فنان، قد بدأ يزاحم نموذج العالم الفذ، ويحظى بمزيد من الاحترام، فإن أصداء ذلك الحلم الأسري تداوي جرحًا لا يندمل، أحدثته منظومة العمل. وهكذا يمكن مقاومة غياب التأثير في العالم.
تحلم كل أسرة بخروج عالم من بين ضلوعها في بيئة معادية للتفكير العلمي والجدلي. واستغلت الدولة المصرية تلك الفانتازيا في خدمة البروباجندا. قدمت الأسر أطفالا صغارا إلى شاشات الإعلام يهدمون النظريات العلمية ويستحدثون الطاقة من العدم.
***
يحدث أن تضيق أمامك سُبل الخلاص. أنت تكره عملك لكنك مجبر على أكل العيش، والحياة بالنسبة لك مجرد استمرار. وفي لحظة صفاء، لا تجد ما تفعله سوى عتاب آدم، لو أنه لم يأكل من الشجرة كنا بقينا في الجنة. والأهم أنك تدرك ضرورة الإرجاء اللانهائي للإشباع تكفيرا عن خطيئة آدم، وأملا في الرجوع مرة أخرى إلى الفردوس.
العمل والأبوة
لا يجب أن يُنظر إلى غياب المعنى بوصفه مصيرًا محتومًا أو قدرًا إغريقيًا مكتوبًا سلفًا على العمل. لبعض الأعمال صفة الضرورة وسمت الرسالة العليا، إن جاز التعبير. الطب والقضاء مثلا. جوهر المهنة نفسه يقوم على طبيعة رسالية، لكن الشيء نفسه لا يمكن أن يُقال على منظومة الصحة أو منظومة العدالة، لأنهما تتحددان بالسياقات السياسية والاقتصادية للسلطة.
لكني أود الحديث الآن عن صفة يمكنها أن تُضفي القداسة على أتفه الأعمال، أو تُهون أصعبها وأشقاها. إنها “الأبوة”.
منذ أن صرت أبًا، عرفت عدة معانٍ. أولها الخوف، ثم سرت في الخوف نبضات السعادة.
أما العمل فإنه اكتسب أبعادًا أخرى. صار “ضرورة” في أحد وجوهه، “رسالة”، وصليبًا أحمله على ظهري راضيًا أغلب الوقت. لا أتحدث عن المسؤولية بمعناها الأسري أو التربوي. ولا أعتقد في أن الأبوة يمكنها أن تُغير كل الرجال. زيارة خاطفة إلى أي محكمة أسرة يمكنها أن تؤكد كلامي.
لكن خلقت فيّ الأبوة عمقًا للحياة بشكل عام. لقد فعلت فعلتي التي فعلت، وجئت إلى هذا العالم بأطفال لا ذنب لهم. إذا، لا يمكن لهذا العالم أن يظل على تلك الحال المخزية. يجب أن يتغير. كيف؟ لا أعرف بالطبع.
هناك لحظة أحبها بشكل خاص في علاقة العمل بالأبوة. لحظة دخولك من باب البيت، وهرولة طفلك الصغير إليك بعد سماع “تكة” المفتاح. يجرى ابنك أو ابنتك نحوك فاتحًا ذراعيه لاحتضانك، فتحضنه وترفعه عاليًا.
لحظة بسيطة عظيمة ربما تستطيع أن تمحو كل متاعب اليوم. وهي اللحظة التي حُرمنا منها بسبب الوباء، إما بسبب العمل من البيت أو تجنبًا للعدوى، أوعلى الأقل صارت محفوفة بالذنب.
خلقت فيّ الأبوة عمقًا للحياة بشكل عام. لقد فعلت فعلتي التي فعلت، وجئت إلى هذا العالم بأطفال لا ذنب لهم. إذا، لا يمكن لهذا العالم أن يظل على تلك الحال المخزية. يجب أن يتغير. كيف؟ لا أعرف بالطبع
أتذكر الآن ورشة أبي. ورشة الميكانيكا الصغيرة التي كدح أبي فيها لثلاثة عقود. كانت علاقتي بتلك الورشة ملتبسة على الدوام. من الفرح الطفولي بمكان عمل والدك، مرورًا بحرج المراهقة منها والخجل من تواضعها، ثم إجلالي لها الآن كحرمٍ مقدس. للأسف، لم أتعلم الميكانيكا. كنت بعيدا عن الورشة، أو أبعدت عنها من أجل تهيئتي، أنا وأخي، لحياة “أرقى”. أقدر الصفة البروليتارية لأبي، هذا النوع من الشقاء النبيل، المهارة اليدوية، والاعتماد على الذات.
أفتخر أن أبي ميكانيكيًا، لا واحدًا من المنتمين إلى عالم البيروقراطية مثلا أو البطالة المُقنَعة.
لكني أعلم أن ذلك الفخر يكدره نفاقي أو تناقضي. نفاق الابن المُتمسح بـ “عفريتة” الأب الزرقاء (الأفرول)، في الوقت الذي لا تتخطى فيه زياراته إلى ورشة أبيه، طوال أعوام، أصابع اليد الواحدة.
***
أمام ورشة أبي تقع شركة “سباهي” أو “السيوف للغزل والنسيج”. أسسها سباهي باشا منذ ما يقرب من 80 عام، وتم تأميمها في عام 1967. وعلى مدار سنوات، جرى عليها ما جرى على معظم شركات قطاع الغزل والنسيج. والآن، تم بيع الأرض والآلات وتفكيك العنابر. ومن المفترض أنها ضمن خطة الدمج في شركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار.
طوال سنوات وأبي يشاهد احتضار “سباهي” الطويل، والمخطط له بعناية. وطوال سنوات، يحاول أبي، وبعض أصحاب الورش في المنطقة، الحفاظ على ورشهم، وبقاءها مفتوحة في وجه التقلبات العديدة، وعزوف الشباب الصغار عن تعلم الحرف وتوجهم إلى قيادة التوك توك أفواجًا. لعلهم ينجحون فيما أخفقت فيه الدولة.
رأيت في أبي دليلًا على أن العامل لا يحتاج إلى من يُثوِر له وعيه. أتذكر في يوم من أيام حكومة أحمد نظيف في عقد الألفية الأول، وبعد رجوع أبي إلى بيت، تطرق الحديث إلى شائعة وفاة حسني مبارك، تقريبا في عام 2007، أو ربما قبلها بثلاثة أعوام. لحظتها قال أبي بصوت عالٍ إن مبارك بالنسبة للشعب قد مات لأنه لا يُحرك ساكنًا أمام أزمات البلد الطاحنة ..”زعلانين ليه من إشاعة موته.. طب أنا هأقوم أمشي في الشوارع وأخطب في الناس وأقولهم يا قوم، مبارك مات واتدفن”.
حتى الأفكار القدرية عن الفوارق الطبقية أو أن الرزق مكتوب سلفًا ولا يمكن للبشر التحكم فيه، لا تعدو كونها أوراق توت يابسة تلوكها الألسنة بعد الاستسلام، أو كمجرد تعابير جوفاء، لكن ساعة الصراع تختفي تلك المقولات
في يناير 2011، لم أسمع من أبي كلامًا على غرار “اعتبره أبوك” أو البلد هتضيع”. كان يطلب فقط أن ننتبه إلى أنفسنا. لم يدفعه خوفه علينا كأب إلى منعنا من النزول إلى الشارع.
هناك تصور قديم عند أعضاء الأحزاب اليسارية التقليدية، أن وعي جماهير العمال مستلب، أو تحت تأثير التزييف البرجوازي. وكثوريين/ طليعة، هم المخول إليهم نقض الوعي الزائف للعامل. الحزب الثوري يعمل على ضم الأقلية الواعية سياسيًا ويشكل منها القاعدة.
في ظني أن وعي العامل ليس في حاجة إلى تثوير، وحتى الأفكار القدرية عن الفوارق الطبقية أو أن الرزق مكتوب سلفًا ولا يمكن للبشر التحكم فيه، لا تعدو كونها أوراق توت يابسة تلوكها الألسنة بعد الاستسلام، أو كمجرد تعابير جوفاء، لكن ساعة الصراع تختفي تلك المقولات.
يوضح الكاتب البريطاني والقيادي في حزب العمال الاشتراكي جون مولينيو أنه من الخطأ الاعتقاد أن جماهير العمال بلا عقل. ويقول إن التجارب التي مرت عليهم من استغلال وقمع وفقر وبطالة علمتهم الكثير من الأفكار النقدية للمجتمع والرأسمالية. أفكار نابعة من خبرة العمال الخاصة.
لكن مولينيو يؤكد أن وعي الطبقة العاملة هو مزيج من تركيبة متناقضة من الأفكار، حيث تتواجد تلك الأفكار النقدية جنبا إلى جنب مع أفكار رجعية. أي أنه قد نجد العديد من العمال مدركين لحقيقة الأوضاع والقوانين بين الأغنياء والفقراء، ومع ذلك يظل عند ذات العمال أفكارًا عنصرية تجاه المرأة أو الأقليات والأجناس الأخرى مثلا.
واستدراك مولينيو السابق يسوقه سببًا وراء ضرورة وجود “حزب ثوري” في سجاله مع الأناركية النقابية. ويقوم على ملاحظة دقيقة بالفعل. إلا أن فكرة التركيب المتناقض للوعي لا يرتبط بالطبقة العاملة وحدها. في الحالة المصرية، نجد أن مثل ذلك التناقض، أو مزيج الرجعية/التقدمية، ليس موقوفا على العمال وحدهم وإنما يسكن أيضًا مثقفين وأكادميين وقيادات يسارية أيضا.
الكتابة بوصفها عملًا
مع بداية عام 2014، واجهت المصاعب المترتبة على دعوى الفصل التي أقامتها ضدي الشركة. ومن أجل تحقيق حلم الكتابة وتغيير مسار حياتي، بدأت في النشر. كانت البداية مع بعض المقالات النقدية عن أعمال أدبية مغايرة، وجدتها تستحق القراءة والتحليل.
كان العديد من الأصدقاء في الوسط الأدبي، ومن قبل النشر، يعتبرونني ناقدًا. سألت المعارف والأصدقاء كيف يمكن للواحد منا أن يعيش ككاتب، ما الذي يجب فعله عمليًا من أجل ذلك؟
تعددت الإجابات، وكانت بعضها تنصحني بالتقديم في المنح الثقافية المختلفة. قدمت في منحة ثقافية بعد أن تبلورت لدي الأفكار عن مشروع رواية. كان موضوع الرواية همًا قائمًا في ذهني دومًا، وكنت أؤخر لحظة مواجهته، وأقول إن الوقت لا زال مبكرًا.
جاءني خبر الفوز كما قلت وأنا في عملي الجديد. وكان مثل الذي قبله من حيث مكان العمل، في مدينة برج العرب، المنطقة الصناعية الصحراوية النائية.
في الوظيفة الجديدة، كنت كمن فقد القدرة على الانضباط نهائيًا. كأنني أصبحت إنسانًا آخر.
يسير مجتمع المصنع وفق نظام محدد. لو تأخرت دقيقة لن تلحق بأتوبيس الشركة. فشلت في أن أكون الموظف الذي كنته سابقًا. كأن تجربة الفصل من العمل قد نزعت معها الخوف كما نزعت الاستقرار المادي.
حاولت الاستمرار في الوظيفة بعد فوزي في المنحة، لكن لم استطع.. قدمت استقالتي بعدما ظللت أمرر الوقت طيلة عامين.
وجوه متعددة
الوظيفة استحواذ على العمل، تسكين للمهنة أو الحرفة أو المهارة. فمثلًا، فني التكييف/الكهرباء يمكنه أن يمُارس حرفته داخل وظيفة بشركة أو خارجها بشكل حر. في كلتا الحالتين يظل حاملا صفته الفنية.
أما موظفو شؤون العاملين أو العلاقات العامة أو مسؤول المشتريات لا يمكنهم ممارسة مهام العمل خارج نطاق وظيفتهم بالشركة أو المؤسسة، هم في حاجة دائمة إلى الشكل الوظيفي. الكاتب، مثل الطبيب أو النجار أو المعماري، يبقى كاتبًا سواء عمل في مؤسسة صحفية أو جامعة أو لم يعمل، لأن الوظيفة مجرد شكل من أشكال العمل.
للجلوس من أجل الكتابة مشقة الصعود إلى قمة جبل، مشقة رفع ثقل من على الأرض. الكتابة غير ممكنة والجسد في حالة تراخي
انطلاقًا من هذا، يمكن للكتابة أن تمنحك دخلًا معقولًا. أي أنها يمكن أن تكون عملا أو احترافا بالطبع. لكنها لا يمكن، في رأيي، أن تختزل إلى وظيفة.
من ناحية أخرى، الكتابة بأشكالها المختلقة، نقدية أو بحثية أو إبداعية، لا يمكن اختزالها أيضًا إلى مجرد عمل إدراكي أو ذهني. هي ليست عملا ذهنيًا فقط لأن بها جانبًا حسيًا أو جسمانيًا.
للجلوس من أجل الكتابة مشقة الصعود إلى قمة جبل، مشقة رفع ثقل من على الأرض. الكتابة غير ممكنة والجسد في حالة تراخي.
يتحدث المفكر الإيطالي فرانكو بيراردي عن ما يسميه “الكوجنيتاريا”. وهو تعبير مقابل لـ “البروليتاريا”. الكوجنيتاريا هي “الجسمانية الاجتماعية للعمل الإداركي”. والوجود الاجتماعي للعمال الإدراكيين لا يمكن اختزاله إلى الذكاء أو الإبداع فقط. فـ”في وجودها العيني، تمثل الكوجنيتاريا أيضا جسدًا، وأعصابًا تتصلب نتيجة الإجهاد المستمر للانتباه”.
عن العمل واقتصاد البروزاك
بشكل فردي، انتقلت من المناطق الصناعية النائية إلى صالون بيتي. أي انتقلت من المصنع إلى العمل الإداركي. وإن كان لهذا الانتقال طابعًا فرديا في حالتي، فإنه السمة الطاغية والتطور الأبرز الذي حدث في بنية الرأسمالية العالمية.
يتعقب فرانكو -بيفو- بيراردي في كتابه “الروح في العمل” تلك التطورات التي حدثت في العقود الأخيرة مع انتقال العمل من المصنع إلى العمل الإدراكي، أي بدلا من كونه بدنيًا فإنه تم إضفاء الطابع الذهني على العمل نتيجة التطور التكنولوجي والرقمي.
لم يعد العمل يُخضع الجسد فحسب من أجل الإنتاج لكنه صار يُخضع الروح وكافة الملكات الواعية للفرد.
بعد أن كان العامل ينتظر بنفاد صبر جرس انتهاء الوردية، صار الآن يتقبل ساعات عمل إضافية بصدر رحب ونزعة استشهادية
يكشف بيراردي كيف يتسبب إخضاع الروح في العمل في “انتشار القلق/التقلقل، والمعاناة العقلية، وفي الأشكال الجديدة من الاستلاب: الإجهاد، الهلع، الاكتئاب، والتباعد عن الآخر”.
يقول في كلمات دالة عن طبيعة الاقتصاد النيوليبرالي.. “كانت المنافسة هي العقيدة الكونية للعقود النيوليبرالية الأخيرة. ومن أجل حفز المنافسة، أصبح من الضروري إجراء حقن قوي للطاقة العدوانية.. الذي ينتج استنفارًا مستمرًا للطاقة النفسية. كانت التسعينات هي عقد الفارماكولوجيا النفسية، عقد اقتصاد البروزاك”.
يوضح بيفو أن البنية المراتبية لنموذج المصنع قد انهارت. وأصبح التطلع إلى تحقيق الذات أساسيًا في إعادة بناء نموذج اجتماعي جديد يناسب أنماط الإنتاج الرقمية الجديدة. وبعد أن كان العامل ينتظر بنفاد صبر جرس انتهاء الوردية، صار الآن يتقبل ساعات عمل إضافية بصدر رحب ونزعة استشهادية.
ربما بحثًا عن عظمة منشودة كما قال الموظف السعيد في Start up النقل التشاركي.
إذن، هل هناك أسباب سيسيولوجية ( اجتماعية ) للاكتئاب؟
أنت المخطئ
يحاول مارك فيشر في كتابه “الواقعية الرأسمالية” أن يكشف ما تعمل أنطولوجيا المرض الذهني على إغفاله، ويثير أسئلة هامة حول طبيعة المرض الذهني. وإن كان من قبيل الحقيقة إرجاع أسباب الاكتئاب لانخفاض معدلات السيرتونين، فإن ما هو بحاجة إلى تفسير: لماذا لدى بعض الأفراد بصفة خاصة معدلات منخفضة من السيرتونين؟ يقول فيشر إننا نعاني من الاكتئاب النيوليبرالي.
يقول فيشر إن أحد.. “أنجح التكتيكات التي استخدمتها الطبقة الحاكمة لفترة من زمن هي تحميلنا بالمسؤولية بحيث يصبح كل فرد من الطبقات الخاضعة لديه شعور داخلي بأن الفقر وقلة الفرص والبطالة أخطاؤهم الفردية وهم وحدهم المسؤولون عنها”.
نلوم أنفسنا بدلا من توجيه النقد إلى البنى الاجتماعية الحاكمة.
ويتحدث فيشر عن مفهوم “الإرادية السحرية” الذي ينقده الطبيب النفسي ديفيد سمايل في كتابه “جذور التعاسة“. والإرادية السحرية هي “الإيمان بأن كل الأفراد لديهم القدرة على جعل أنفسهم ما يريدون”.
وتلك الفكرة هي “الأيديولوجيا المسيطرة والديانة غير الرسمية للمجتمع الرأسمالي المعاصر”. ديانة يروج لها خبراء التنمية الذاتية ورجال الأعمال، والسياسيون من قبلهم. وهي “الجانب الآخر من الاكتئاب الذي باطنه أننا جميعًا مسؤولون وحدنا عن تعاستنا”.
تحول إلى حشرة، ووقتها لن تذهب إلى العمل
ذات صباح، صحا جريجور سامسا من نومه ليجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة. كان سامسا يعمل مندوب مبيعات. ورغم انمساخه، وعدم قدرته على الوقوف أو الكلام، فإنه قد أخذ يتساءل عن موعد القطار المناسب للوصول إلى العمل. وكان يريد أن يستعيد قوته حتى يعتذر لمديره عن التأخير.
تكمن المفارقة الكافكاوية في أن تدفق المعلومات الجديدة إلى عقل سامسا عن حالته الرهيبة، تلك المعلومات التي تفوق طاقة أي عقل على الاستيعاب، لم تولد بداخله الهلع، أو الانهيار، وإنما أراد التكيف معها ومواصلة حياته. وتلك الرغبة في النهوض والذهاب إلى العمل، حتى بعد تحولك إلى صرصار أو خنفسة، في رأيي، هي منتهى الجحيم.
ذات صباح، أفقت من نومي بعد حلم غريب. قمت بتدوينه فور استيقاظي. كنت في الأيام التي سبقت الحلم أعمل واقفًا لفترة طويلة. ومع استمرار قلة النوم، بدأ الألم يضرب ساقيّ.
حلمت أن ساقي قد بُترت. ساقي اليسرى حسب ما أتذكر. كنت أعمل على ماكينة، ربما تشبه المكبس، لها حواف مسننة وتنبعث منها حرارة عالية. كان بترًا نظيفا، لم يُخلف وراءه دماءً أو فوضى. لا أتذكر تحديدًا ما الخطأ الذي ارتكبته في الحلم والذي جعل الآلة تلتهم ساقي. أذكر أن موضع البتر كان أسفل مفصل الركبة قليلا. لكنى لم أشعر بأي ألم طوال الحلم. كنت مشغولا بالتفكير في غياب الألم.
تلك الرغبة في النهوض والذهاب إلى العمل، حتى بعد تحولك إلى صرصار أو خنفسة، في رأيي، هي منتهى الجحيم
فكرت.. لو أن كل الفقد هكذا فلا بأس. جاء من يحقق في الحادثة، لا أتذكر من. ربما كنت أنا. طالع بروحين في الحلم. أتذكر أن المحقق أعاد تشغيل هذا المكبس أو المرجل ثم أمر بإيقافه. لاحظنا، أنا والمحقق وآخرون لم أتبينهم، أن على صفائحها المعدنية لطخات حمراء تشبه الطلاء الجاف. ربما كانت تلك اللطخات هي الآثار الوحيدة للدماء. لاحظت لطخات بيضاء. قلت في نفسي إنها الدهون بالتأكيد. “بهاريز الكوارع”. أذكر أني ابتسمت في الحلم. أو ربما لم أبتسم لحظتها، لكنني ابتسم الآن. بُترت الساق في حزم وتكفلت الحرارة بكي الجرح.. تمام.
الغريب أني حين فتحت عيني كنت أفكر في طبيعة الطرف الصناعي الذي أريده. طرف معدني متحرك كالذي أشاهده في الإعلانات التحفيزية العالمية حيث يمكن الركض به، ويمكن للقدم المقوسة أن تنثني، طرف تعويضي حقيقي، وليس ذلك البلاستيكي الصلب، ناعم الملمس كالسيراميك، وله لون يشبه البيض الأحمر، لكنه ليس أحمر، لون “سن الفيل” كما تُظهره الأفلام القديمة.
ذلك هو الجحيم الحقيقي.
لم أشعر بألم في ساقي فور استيقاظي غير أني تذكرت فيلم عماد حمدي والطفلة فيروز، عندما تتسبب فيروز بخطأ يُفقد أباها ذراعه بعدما اصطحبها معه إلى مصنعه، وتحت وطأة الذنب والصدمة، تهيم في الأرض خوفًا حتى تسوقها الظروف إلي بيت رجل طيب لكن امرأته قاسية القلب. أتذكر أن تلك المرأة كانت نجمة إبراهيم، صاحبة دور “ريا” من قبل، سفاحة النساء الشهيرة. تجز ربة الشر شعر الطفلة المقيمة عندها، تعذبها وتُلبسها ملابس الأولاد. لا أتذكر عنوان الفيلم بعد كل تلك التفاصيل..
لكني أتذكر كم كانت نظرات نجمة إبراهيم مُرعبةً.