قبل أن تقلع الطائرة بدقائق قام الجالس إلى جواري بمكالمة أخيرة لوالدته، طمأنها أن كل شيء سار على ما يرام عدا أن زوجته نسيت أن تضع “الجبن التركي” الذي أكد عليها مرات ألا تنساه، وظلت تؤجل إخراجه من الثلاجة حتى لا يفسد. عرفت فورًا أنه من الإسكندرية لأنه وصف الجبن “الأصفر الصلب” بالتركي وليس الرومي كما يوصف في القاهرة مثلًا. لم أكن أعرف حينها أن مثل ذلك الاختلاف البسيط في المسميات سيشكل تحديًا. كمسافرة إلى الكويت، ظننت أن أخر التحديات التي ستواجهني هي اللغة على اعتبار أننا جميعًا نقع تحت مظلة اللغة العربية، حتى بدأت رحلة البحث عن العيش البلدي في البلد العربي الشقيق، وغرقت في بحر من سوء الفهم.
لا وعد ولا إنكار
عام 2006 صدرت ترجمة كتاب “حكايات عن إساءة الفهم”، لأومبرتو إيكو وترجمه عن الإنجليزية ياسر شعبان. يبدأ إيكو كتابه بالحديث عن حلم الوصول إلى لغة مثالية. أول سؤال تبادر إلى ذهني وبدا لي منطقيًا حينها هو “ما هو تعريف اللغة المثالية أساسًا حتى يمكننا أن نحلم لاحقًا بالوصول إليها؟ “
بعد أن أنهيت الكتاب أدركت أن سؤالي يشبه أسئلة ابني ذو الخمسة أعوام، وهو يسألني بنفاذ صبر حول كيفية الوصول إلى القمر، وعندما يثقله الخيال، ويحاول أن يجد لنفسه مخرجًا، يقرر أن علينا البدء بصناعة سفينة فضاء في المنزل كخطوة أولى عملية. على أي حال، لا يعد إيكو بالوصول إلى الحلم أو التعريف، كما لا ينكر الأمل نهائيًا في وجودهما، باختصار يجيب علينا كما أجيب على أسئلة ابني بخصوص الذهاب إلى القمر، وأنا أقول “إن شاء الله” بمعناها المصري المائل لتعويم المعنى والوقت.
يضم الكتاب محاضرات ألقاها إيكو بالإنجليزية على طلبة الدراسات العليا في الأكاديمية الإيطالية بأمريكا. في المحاضرة الأولى المترجمة بعنوان: حلم اللغة المثالية، يبدأ إيكو رحلته من زمن النبي نوح، حين كانت الأرض كلها تتحدث لغة واحدة، وبعد الطوفان والنجاة منه، شعروا أنهم مختارون، فقاموا ببناء برج بابل ناشدين به لأنفسهم الخلود، ساعين للصعود إلى الجنة حرفيًا عبر درجات البرج وليس مجازيًا. بعدها أربك الرب ألسنتهم وحل علينا تعدد اللغات بصفته عقاب.
طوال تلك المحاضرة يتحدث إيكو عن حلم البشرية بالعودة إلى اللغة الأولى التي طُردنا منها، لغة آدم التي ورثها أحفاد نوح وأضاعوها بـ”الخيلاء والعناد”. ذلك السعي الذي تحول إلى صراع بين اللغات حول أحقية وصفها باللغة المثالية.
ينقل إيكو عن أنصار العبرية أنه بما أن صوتياتها تتطابق مع أشكال حروفها فهي اللغة المثالية هذا بالإضافة لكونها لغة آدم وبالتالي هي اللغة الأصلية. أما أهل اللاتينية فيرونها الأحق لأنها لغة المنطق. يبرهن الألمان على أحقيتهم باللقب لكون الألمانية لغة الطبيعة، كما يصفها الألماني كونراد بليكانس “ترعد مع رعود السماء، وتنتشر مع وابل البرد، وتهمس مع الرياح وتزأر مع الأسد” ويخالفه ألماني آخر، وهو ليبنتز حيث يقول أنها حفظت بمثالية مظهرها الطبيعي مما جعلها أقرب للبدائية منها للمثالية، أما الإيرلنديون فيرون أن لغتهم هي اللغة المثالية لأنهم قاموا بانتقاء أفضل ما تتسم به كل لغة وقاموا بحفظها في الإيرلندية، هذا إلى جانب التماثل الشكلي بين الأشياء والكلمات الدالة عليها في لغتهم.
في الثقافة المصرية حاليًا، وحدها القُرص من بين كافة أنواع الخبز المعروفة لدينا، هي التي تحقق ذلك التماثل الشكلي الذي يفخر به الإيرلنديون بين الشيء والكلمة الدالة عليه. دوائر من العجين اللدن تخبزها نيران الأفران وتتحول إلى تلك الأقراص الذهبية، في قرى محافظة البحيرة القريبة من الإسكندرية يطلق عليها البكاكين، ولا أعرف سبب لتلك التسمية، لكن خيالي وجهني إلى كلمة “baking” الإنجليزية والتي تعني فعل الخَبز، ربما تلك التسمية هي واحدة من تجليات الاستعمار الإنجليزي على اللكنة المصرية، أقول ربما.
المصدر Guillaume Paumier. تحت رخصة المشاع الإبداعي
غزل شبكة أمان
عادة ما يتأرجح المغترب في بلد جديد بين نقيضين؛ تجربة طعام ذلك البلد، مدفوعًا بالفضول وسذاجة البدايات، وعندما يطيل المكوث يسعى بجد إلى البحث عما يألفه من أطعمة، التي قد تشكل أحيانًا في دوامة المتغيرات التي تعصف به شبكة آمان. وفي البلد الجديد، أصبح البحث عن “العيش البلدي” بهذا المسمى يبدو أقرب لنكتة. هنا “العيش” هو الأرز، و”البلدي” ساقني إلى رحلة في الجغرافيا. حيث ينسبون الخبز إلى موقعه الأصلي على الخريطة، خبز التنور هو الخبز الإيراني، تتعدد الأرغفة الفرنسية من بريوش وباجيت ونحوه، لكن التوست تلك الرقائق الصلبة، تم صهرها في الثقافة المحلية وأطلقوا عليها “شابورة” لأنه وفقا لحراس اللكنة، طالما خبزتها الجدات هنا في حجم الشبر.
يقول إيكو: نحن نسافر ونستكشف العالم حاملين “خلفية معرفية” ومما لا شك فيه أننا لا نحملها ماديًا -فهي ليست مثل الجبن التركي الذي نسيه رفيق الطائرة- بل أعني نسافر بمعرفة مسبقة عن العالم تسلمناها عن تقاليدنا الثقافية. بكل الفضول نسافر ثم يتجلى تأثير هذه الخلفية المعرفية في أنه “مهما رأى المسافر واكتشف فإنه يظل يفسر كل شيء وفقًا لهذه الخلفية”.
جاءت هذه الجملة ضمن محاضرته الثانية المكتوبة بعنوان: حكايات عن إساءة الفهم بين ثقافتين. حدد تلك الإساءة المتبادلة ما بين الثقافة الأوروبية والصينية، وساق لنا أقصى تجلياتها في رحلة ماركو بولو. يحكي عنه إيكو قائلا: “طالما سمع ماركو بولو في الأساطير الأوروبية عن آحادي القرن “unicorn” ذلك المخلوق الأسطوري شاهق البياض، والمتميز عن باقي الحيوانات ذوات القرون بقرن وحيد منبثق من مقدمة رأسه.
وهو عائد من رحلته الطويلة رأى ماركو بالقرب من يافا حيوانات بدت مثل آحادي القرن ولأنه كان ساذجًا وأمنيًا لم يستطع الاحجام عن قول الحقيقة. نقل لأهله أنه رآى آحادي القرن فعلًا عدا أنه مختلف عن الأساطير الأوروبية، أسود وقرنه أسود وله حوافر تشبه الفيل وشعر يشبه شعر الجاموس، في الحقيقة ما رآه ماركو بولو لم يكن سوى وحيد القرن “الخرتيت”. لا نستطيع زعم أن ماركو بولو كذب عليهم، هو فقط ماثل بين ما يعرفه وما رآه فأصبح ضحية خلفيته المعرفية.
بعد أن عرفت الطريق إلى المطاعم والأفران المصرية هنا، أكتشفت أنها تقدم لنا نسخ هجين من “العيش” مدعية أنه “بلدي” فيخرج أحيانًا أكثر سماكة أو أصغر حجمًا مما يجب، لكن الأكثر جرأة يخرجه أقرب إلى الخبز الشامي الأقرب طعمًا وشكلًا للقرص، النوع المفضل لكل الزبائن. في كل مرة يتم عجن الدقيق بالماء والخميرة وخبزهم في النار، نقف أمام الفرن في انتظار احتمال من بين مئات الاحتمالات قد يصدف أن يكون أحدهم عيش بلدي كالذي أعرفه لكنها صدف نادرة.
لم يكن ماركو بولو هو المسافر الوحيد الذي تلاعبت به اللغة، كما أنني لست الوحيدة التي تراهن على لعبة الاحتمالات في سفرها. في الحقيقة أحدهم جمحت به الاحتمالات اللغوية بعيدًا حتى أنه صمم لها لعبة كما يحكي إيكو. صنع عجلة دوارة تنتج احتمالات ضخمة من المفاهيم، وأسماها عجلة الفن الأعظم. قام رامون لول بتصميم تلك العجلة للوصول إلى مفاهيم غير مدركة بعد، وفقا لزعمه.
لتقريب الحديث عن كنه المفاهيم غير المدركة، هناك كلمة بالألمانية وهي “kummerspeck” لا يوجد لها ترجمة حرفية بالعربية، وهي تعني الوزن الزائد عن التهام الكثير من الطعام (لحم الخنزير المقدد تحديداً) تحت تأثير الحزن. وكلمة أخرى وهي “waldeinsamkeit” والتي هي الأخرى لا تترجم إلى كلمة واحدة وتعني الشعور بالعزلة في الغابة. كلاهما مرتبط بالخلفية المعرفية لألمانيا؛ الطعام والجغرافيا، حيث لا غابات في بلادنا لنختبر هذا النوع من العزلة، وبالتالي نميز له اسمًا.
وهكذا ظن لول أن بإمكانه تخطي حاجز الخلفية المعرفية، والتقاط تلك المفاهيم الخفية من خلال عجلته، مدفوعًا بهدف نبيل وهو هداية الكفار إلى الدين الصحيح والذي كالمعتاد هو دينه. كانت عجلة الفن الأعظم تدور حرفيًا ومجازيًا حول مجموعة من القيم الدينية لهداية الكفار وهم في روايته المسلمون، يقول إيكو: وفقًا للأسطورة تنقل لول بين المسلمين يعرض عليهم عجلته، ولأنه كان مثلها غير مقنع قُتل.
المصدر Rain Rannu. تحت رخصة المشاع الإبداعي
لا توجد لغة وحيدة
وعلى ذكر المفاهيم غير المدركة، جاءت المحاولات الأولى لترجمة الهيروغليفية نابعة من ذلك المنطق. حيث يستحيل أن يكون النسر المرسوم على تلك المعابد المهيبة هو ببساطة نسر بل فسروه على أنه رمز للأم وللمكان ولنهاية الأشياء وللرحمة. حتى جاء حجر رشيد وعرفوا أن النسر نسر وأن المركب مركب وبالتدريج اكتشفوا أن تعقيد تلك اللغة ينبع من تعقيد الطبيعة ذاتها، فعندما يضاف إلى المركب شراعًا مرفوعًا يعني أن هناك رياحًا تحركه.
بعد حجر رشيد تحولت قراءة الهيروغليفية من كونها لغة خرافية تتحدث عن جوهر الأشياء، إلى لغة تضم توليفات لتسمية الأشياء ذاتها ودلالتها أيضا. ويعود الفضل في ذلك إلى اللغات الآخرى، حيث أن أهم ما يميز حجر رشيد هو أنه نص واحد مكتوب بثلاثة لغات: يونانية، ديموطيقية وهيروغليفية بالطبع.
ختم إيكو محاضرته الأولى باقتباس من ابن حزم يقول فيه: في أية لغة يستطيع الناس اكتشاف الروح والتنفس والعطر وآثار اللسان الأصلي متعدد اللغات. ولنقبل الاقتراح الموحي الذي يأتينا من بعيد، فلهجتنا الأم ليست لغة وحيدة وإنما هي مركب من كل اللغات.
بعد أن جربت مختلف أنواع الخبز اكتشفت أن الفروقات بينها ليست بتلك الحدة، وأدركت أن شعور البحث عن طعم الردة (نخالة قشرة القمح) الممتزج بلدونة العيش البلدي، هو شعور مبهم لا يمكن ترجمته إلى كلمة واحدة، هذا إلى جانب أنه يصيبني بالحزن ويكسبني وزنًا زائدًا.
صار علي أن استمع إلى اقتراح ابن حزم فيكيفني الشعور بالعزلة بالرغم من غياب الغابات هنا. وأن أواصل الاستماع لصوت ما زال بداخلي يؤكد أن وجود الخرتيت لا ينفي -إن شاء الله طبعًا- وجود آحادي القرن.