بتاريخ 17 أكتوبر 2023، فصلت جامعة بيرن في سويسرا محاضراً دون سابق إنذار وبشكل نهائي، بالإضافة إلى كفّ يد بروفيسورة أخرى عن العمل حتى انتهاء التحقيقات، بسبب “التعليق الإيجابي” على “هجمات حماس الإرهابية” الأخيرة، على حدّ تعبير الصحف المحليّة.
في المقابل، يكتظّ برنامج الجامعة في كل فصل بكورسات تحرص فيها على رفع شعارات من قبيل “ما بعد الكولونيالية” (پوست كولونياليزم)، و”نزع الكولونيالية” (دي كولونياليزم)، وما يرافقه من نقد للاستشراق والنسوية البيضاء، وغير ذلك من الترند الأكاديمي فيما يُدعى بالغرب.
شعارات لا بأس في ترديدها وتبنيها طالما أنها لا تتجاوز هويتها كشعار، بينما توضع بهدوء في أماكنها المناسبة والصائبة سياسياً كما تقتضي تطبيقات الترند وما يلزمه من سياسات الإشفاق. تلك التي تقتضي مثلاً أن يتمّ، وبصوت عالٍ، نقد التاريخ الاستعماري الغربيّ -المتّفَق عليه- لأفريقيا، ثم السعي لتوظيف شخص “ذي لون” في كادر الجامعة التدريسي بهدف التنوّع، مرفقاً بالحرص، بمناسبة وغير مناسبة على أخذ صورة له/ لها، تأكيداً على حقيقة: كم نحن دي كولونياليون.
تُبنى سياسات الإشفاق تبعاً لديناميكيات القوى التي تقول بأنّ الأقوى يشفق على الأضعف، والعكس غير صحيح، وذلك لأن لديه بالأساس الامتياز بأن يختار أن يشفق فعلاً -أو لا يشفق- على الضحيّة. يقتضي الإشفاق أن يكون هناك ضحيّة بالضرورة، ودون التباس. بذلك، يكون الطرف الأقوى ومالك امتياز الشعور بالشفقة قادراً على الإحساس بذلك انطلاقاً من موقعه، وبالتالي قادراً على أخذ مبادرة المساعدة تجاه هذه الضحيّة كفعل إنساني يُحتفَى به. يقتضي فعل المساعدة أن يبقى الوضع على ما هو عليه: قوي مشفق مقابل ضحيّة بحاجة لإثارة الشفقة، وبالتالي للمساعدة.
إذن، يقتضي قبول الضحيّة بموقعها، تسليمَها بحقيقة تجريدها من إنسانيتها والتعاطي معها ككيان سليب الإرادة، حيث تتضاءل إنسانيتها ليصبحَ لها حجم ضحيّة لا أكثر.
في سياقات يكون فيها حضور القوّة طاغياً، كالحروب، واللجوء والاعتقال والتغييب في ظلّ أنظمة حكم ديكتاتورية، يُنزع العنصر الإنساني عن البشر ليتحوّلوا إلى لا شيء سوى كيانات على شكل ضحايا سليبة الإرادة، الإرادة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالكرامة والفاعلية التي تبقي على إنسانيتهم وأحقّيتهم بالحياة، فتُطلق عليهم الأسماء من مثل “جرذان” و”حيوانات بشرية” على حد التعبير التاريخي النازي والتعبير الإسرائيلي الحديث، تباعاً.
بشكل أدقّ، يتم تصوير البشريّ على أنه “شيء” غير ذي قيمة ودون إرادة. حينئذ، يأخذ الإشفاق وعدمه شكلاً أكثر تطرفاً تبعاً للسياق، وتبعاً لموقع الضحيّة السياسي من المشفقين ومن أيديولوجياتهم ومخاوفهم وأفكارهم النمطيّة وأحكامهم المسبقة.
في الوقت الذي تأخذنا نشوة الإنجاز الإنساني كمشفِقين قادرين على الإحساس بالآخر الأقلّ حظاً، تنزلق الضحيّة أكثر في الفخ، وتدرك لاحقاً أن خروجها من فخ الإشفاق وإعادة اكتسابها لموقعها السياسي والإنساني مجدداً لهو أمر أكثر صعوبة بكثير من منجز كسب الإشفاق بدايةً.
لا بأس في ترديد شعارات “ما بعد الكولونيالية” (پوست كولونياليزم)، و”نزع الكولونيالية” (دي كولونياليزم)، وما يرافقه من نقد للاستشراق والنسوية البيضاء وتبنيها طالما أنها لا تتجاوز هويتها كشعار، بينما توضع بهدوء في أماكنها المناسبة والصائبة سياسياً كما تقتضي تطبيقات الترند وما يلزمه من سياسات الإشفاق
مع أي محاولة لتغيير الموقع السياسي المألوف للضحيّة؛ كضحيّة سليبة الإرادة، ومع أي تلويح لامتلاكها لأي ملمح لإرادة غير مرحَّب بها وغير منسجمة مع المشهد المتّفق عليه، ستفقد الضحيّة ذاك الإشفاق. إذن، كي يبقى المشفق المتعاطف من موقع قوته إنساناً، لا بدّ للضحيّة من موقع انكسارها أن تبقى ضحيّة متعاطَف معها، وإلّا، ستُلغى تلك المنّة الموشّاة بالإنسانية دون أي تردد، بل وستنقلب في كثير من الأحيان إلى ملامة واستنكار وهجوم مُدين.
لا يتعلّق ذاك التحوّل بمآلات حالة الضحية بالضرورة، بل بانكسار مخيّلة المشفقين، وإحساسهم بالخسارة المتمثّل بفقدهم لموقع قوتهم وامتيازهم ووهمهم بإنسانيتهم. لا يعني ذلك أن الضحيّة هي فعلاً كيان سليب الإرادة بالضرورة، فالتطبيقات السياسية للضحيّة أكثر تعقيداً من ذلك، وفي بعض السياقات تكون الضحيّة الواعية بموقعها السياسي كضحيّة أكثر قدرة على التعامل مع العقبات وتحقيق الامتيازات انطلاقاً من وعيها بهويّتها وتمسّكها بتكريس صورتها المتعاطَف معها واستخدامها له.
يحدث ذلك على المستوى الفردي والشعبي معاً، كما في تمسّك إسرائيل مثلاً بخطاب الضحيّة واستخدامها للاضطهاد التاريخي لليهود كمبرّر للعدوان المستمر والجرائم الممنهجة، في استمرارية لشعورها بالاستحقاق أمام انتهاك حقوق وحياة الآخرين طالما أن موقعها السياسي من المتعاطِفين أصحاب القوّة يتيح لها ذلك.
في الميديا، كما في الأكاديميا وكما في السياسة، تلعب سياسات الإشفاق دوراً حيوياً في تشكيل الرأي الشخصي والعام، لذا، كان لا بدّ من استمرار وجود تيمة الضحيّة، وفقاً لأجندات المشفقين وتصوّرهم للمشهد بالطبع، حيث يُملأ الفراغ بمواقع الجناة والضحايا تبعاً للسياق ولديناميكيات القوى. يختلف ذلك عن التضامن الذي ينطوي جزئياً بالفعل على التعاطف المشفق كشعور إنساني، لكنّه يتعدّاه إلى الإيمان بأحقّية الضحية بإنسانيتها، وبخروجها من موقعها المهزوم إلى موقع الإنسان المساوي للآخر المتضامِن، في الحقوق والكرامة.
ما حدث في السابع من أكتوبر أعاد تشكيل تصوّر موقع الضحية من سياسات الإشفاق في المشهد الفلسطيني وفي عين العالم، لينتقل الفلسطيني من صورته النمطيّة كضحية “لا غير” مثيرة للشفقة ومتروكة لمصيرها، إلى ضحية ذات ملامح إنسانية تخرج عن هويتها المفروضة، فتغضب وتأخذ بزمام المبادرة وتظهر إرادة وفاعليّة ومقدرة على التخطيط والتنفيذ وكسر الخوف ووهم السلطة.
في الأيام القليلة التي تلت ذلك، كان من المربك للإعلام الغربي الحديث عن الفلسطيني دون شيطنة ذاك الفعل وتكريس إدانته، لتُنزع عنه إنسانيته مجدداً، سريعاً، ويتمَّ تصويره كإرهابي متوحش وعديم الشفقة، قبل أن يبدأ القصف على غزّة وتغزو صورة الفلسطيني الضحيّة الشاشات مجدداً لتعود الأمور إلى مكانها الـ “طبيعي” ويهدأ ذاك القلق.
أتاحت المفردات المتداولة، المتراوحة بين “المقاومة” و”الإرهاب” استقراء المتلقّي للموقف السياسي للمنصّة الإعلامية والمحاور، والتنبّؤ بطبيعة الحوار. فبينما اجتاحت الكلمة “حماس” شاشات الأخبار الغربيّة، مرفقة بالتعبير “فعل إرهابي”، غاب الـ “فلسطينيّ” وفعله المقاوم عن المشهد في تجنّب لأي أنسنة قد تطاله ضمن هذا السياق كإنسان ترتبط موجوديته بفعل المقاومة، في اعتناق لحقّ مشروع وفقاً للقانون الإنساني الدولي، كان ليُحتفى به في سياق آخر “أقلّ تعقيداً”.
لم يكن الهوس بفرض السؤال “هل تدين حماس؟”، عند بداية أي حديث يطلّ علينا عبر شاشات المؤسسات الإعلامية الغربية إلّا محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها، حيث يُدفَع الفلسطيني مجدداً إلى موقعه السياسي كضحيّة، لا ككيان إنسانيّ فاعل وقادر على الكون في فعل الإرهاب أو المقاومة، وفقاً للموقف السياسي، ولو كان ذلك على شكل رأي له صوت يمرّ عبر شاشة.
الفلسطيني ضحيّةً، له موقع واضح هو استجداء العطف وترقّب يد العون القادمة على شكل تصريحات سياسية وتبرعات ومناشدات ومساعدات وقوافل إنسانية، تضمن استدامة سياسات الإشفاق نحو الفلسطيني، المسيّجة بالحذر الشديد. في السياق ذاته، تمتدّ لوثة نزع الإنسانية عنه واختصاره إلى ضحيّة لتشمل نزع الحقّ عنه حتى في تكوين رأي سياسي غير متّسق مع الرأي السياسي للـ “آخر” الجاهز للشفقة وللتعاطف المشروط. يتحوّل الرأي إلى تهديد حقيقي، فتكوين الرأي فعل إنساني، وهذا ما لا ينسجم مع هوية الضحية المهزومة منزوعة الإنسانية في نظر المتعاطف المؤدلَج.
هكذا، كان السؤال “هل تدين حماس؟” ذا حضور لا يقلّ كثافةً عن تصوير مشاهد العنف القادمة من غزّة، فكلاهما له الهدف ذاته؛ دفع الفلسطيني مجدداً إلى موقعه كضحيّة.
بينما تطلّ وجوه الفلسطينيين المغطّاة بالبكاء وحرقة الفقد من تحت الركام في بحثهم عن أحبتهم ولملمة ما تبقى من أشلائهم، لا يزال الإعلام الغربيّ مشغولاً في إيجاد إجابة لسؤال الإدانة المرتبك، وإلّا، سيبقى الفلسطينيون عالقين في شرك ذاك الـ “سياق” المعقّد. لذا، كان لا بدّ من تبسيط المشهد إلى فلسطيني مُدين للهجوم، يرقى إلى كونه ضحيّة تستحق الشفقة، مقابل فلسطيني آخر لا يستحقها. هكذا، يتحوّل السؤال في رمزيّته إلى تلويح واضح لحتميّة تخلّي الفلسطيني عن إنسانيته بمعناها الواسع وعودته إلى زاوية الضحية مقابل الشفقة المرتبكة، وإلّا، ينزلق خارجها أوتوماتيكياً لعدم كفاءته كضحيّة.
لم يكن الهوس بفرض سؤال “هل تدين حماس؟”، عند بداية أي حديث يطلّ علينا عبر شاشات المؤسسات الإعلامية الغربية إلّا محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها، حيث يُدفَع الفلسطيني مجدداً إلى موقعه السياسي كضحيّة، لا ككيان إنسانيّ فاعل وقادر على الكون في فعل الإرهاب أو المقاومة، وفقاً للموقف السياسي، ولو كان ذلك على شكل رأي له صوت يمرّ عبر شاشة ..
في هذا السياق، احتدمت الآراء حول لقاء باسم يوسف الأخير مع پيرس مورغان، الصحافي البريطاني على محطة CNN والذي ارتبط اسمه بسؤال الإدانة الشهير لإصراره الممل على تكراره على مسامع ضيوفه أصحاب الموقف السياسي الداعم للقضية الفلسطينية.
منذ البداية، توجّه باسم يوسف في خطابه إلى مشاهديه في الغرب، فروى لهم بقالب ساخر تفاصيل عن حياته وحياة عائلته، منطلقاً من موقعه الشخصي كضحيّة واضحة الملامح عابراً بها إلى المشهد السياسي الأوسع لمأساة الشعب الفلسطيني كضحية ملتبسة. حصد اللقاء ملايين المشاهدات ومئات الآلاف من الإعجابات على صفحات التواصل الاجتماعي من المشاهدين جميعاً، وليس فقط من جمهور الغرب ذي الإشفاق المتردّد.
تضاربت وجهات النظر حول الأداء الدرامي لباسم يوسف، على الرغم من أن خطابه بدا مدركاً لطبيعة الجمهور المتلقّي و”ثقافته” -أو عدمها- حول القضية الفلسطينية، فنجح في كسب مشاعر الشفقة والتأثير على الرأي العام الغربي، ليكون بذلك مثالاً آخر تتضاءل فيه إنسانية الفلسطيني ليُختزل في موقع الضحيّة ويلتقي بالشكل الأمثل مع سياسات الإشفاق.
ربما كانت إثارة الشفقة وتصدير أنفسنا كضحايا طريقة ناجعة للفت انتباه شعوب العالم الأقوى، والتي تدّعي أنها بدأت تسمع اليوم فقط عن فلسطين، ولكن، هل يكفي لفت الانتباه أمام قضية إنسانية بحجم فلسطين؟ إلى أين يذهب بنا خطاب الضحية؟ أهكذا فقط يتحرك قلب العالم القاسي؟ نقول: “انظروا، هذا طفل، ما ذنبه؟ انظروا، تلك مستشفى، كيف بها تُقصف؟ انظروا، تلك كنيسة، أجل هناك مسيحيون في غزة، انظروا، الناس تجوع تحت الحصار، أدخلوا المساعدات!”.
هكذا، تُختزل قضايا الشعوب المحقّة إلى استجداء جمعيّ للشفقة، ويتحوّل أصحاب الأرض إلى لا شيء يعدو كونهم ضحايا بحاجة إلى المساعدة، ويدان أيّ فعل للمقاومة أمام أي تهديد لزعزعة إشفاق المشفقين المنهمكين بتعاطفهم هرباً من أسئلة أخرى تضعهم أمام إنسانيتهم غير المنفصلة عن لعبة القوة والتفوّق.
بتاريخ 17 أكتوبر 2023، فصلت جامعة بيرن في سويسرا محاضراً دون سابق إنذار وبشكل نهائي، بالإضافة إلى كفّ يد بروفيسورة أخرى عن العمل حتى انتهاء التحقيقات، بسبب “التعليق الإيجابي” على هجمات “حماس” الإرهابية الأخيرة، على حدّ تعبير الصحف المحليّة.
في المقابل، يكتظّ برنامج الجامعة في كل فصل بكورسات تحرص فيها على رفع شعارات من قبيل “ما بعد الكولونيالية” (پوست كولونياليزم)، و”نزع الكولونيالية” (دي كولونياليزم)، وما يرافقه من نقد للاستشراق والنسوية البيضاء، وغير ذلك من الترند الأكاديمي فيما يُدعى بالغرب.
شعارات لا بأس في ترديدها وتبنيها طالما أنها لا تتجاوز هويتها كشعار، بينما توضع بهدوء في أماكنها المناسبة والصائبة سياسياً كما تقتضي تطبيقات الترند وما يلزمه من سياسات الإشفاق. تلك التي تقتضي مثلاً أن يتمّ، وبصوت عالٍ، نقد التاريخ الاستعماري الغربيّ -المتّفَق عليه- لأفريقيا، ثم السعي لتوظيف شخص “ذي لون” في كادر الجامعة التدريسي بهدف التنوّع، مرفقاً بالحرص، بمناسبة وغير مناسبة على أخذ صورة له/ لها، تأكيداً على حقيقة: كم نحن دي كولونياليون.
تُبنى سياسات الإشفاق تبعاً لديناميكيات القوى التي تقول بأنّ الأقوى يشفق على الأضعف، والعكس غير صحيح، وذلك لأن لديه بالأساس الامتياز بأن يختار أن يشفق فعلاً -أو لا يشفق- على الضحيّة. يقتضي الإشفاق أن يكون هناك ضحيّة بالضرورة، ودون التباس. بذلك، يكون الطرف الأقوى ومالك امتياز الشعور بالشفقة قادراً على الإحساس بذلك انطلاقاً من موقعه، وبالتالي قادراً على أخذ مبادرة المساعدة تجاه هذه الضحيّة كفعل إنساني يُحتفَى به. يقتضي فعل المساعدة أن يبقى الوضع على ما هو عليه: قوي مشفق مقابل ضحيّة بحاجة لإثارة الشفقة، وبالتالي للمساعدة.
إذن، يقتضي قبول الضحيّة بموقعها، تسليمَها بحقيقة تجريدها من إنسانيتها والتعاطي معها ككيان سليب الإرادة، حيث تتضاءل إنسانيتها ليصبحَ لها حجم ضحيّة لا أكثر.
في سياقات يكون فيها حضور القوّة طاغياً، كالحروب، واللجوء والاعتقال والتغييب في ظلّ أنظمة حكم ديكتاتورية، يُنزع العنصر الإنساني عن البشر ليتحوّلوا إلى لا شيء سوى كيانات على شكل ضحايا سليبة الإرادة، الإرادة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالكرامة والفاعلية التي تبقي على إنسانيتهم وأحقّيتهم بالحياة، فتُطلق عليهم الأسماء من مثل “جرذان” و”حيوانات بشرية” على حد التعبير التاريخي النازي والتعبير الإسرائيلي الحديث، تباعاً.
بشكل أدقّ، يتم تصوير البشريّ على أنه “شيء” غير ذي قيمة ودون إرادة. حينئذ، يأخذ الإشفاق وعدمه شكلاً أكثر تطرفاً تبعاً للسياق، وتبعاً لموقع الضحيّة السياسي من المشفقين ومن أيديولوجياتهم ومخاوفهم وأفكارهم النمطيّة وأحكامهم المسبقة.
في الوقت الذي تأخذنا نشوة الإنجاز الإنساني كمشفِقين قادرين على الإحساس بالآخر الأقلّ حظاً، تنزلق الضحيّة أكثر في الفخ، وتدرك لاحقاً أن خروجها من فخ الإشفاق وإعادة اكتسابها لموقعها السياسي والإنساني مجدداً لهو أمر أكثر صعوبة بكثير من منجز كسب الإشفاق بدايةً.
مع أي محاولة لتغيير الموقع السياسي المألوف للضحيّة؛ كضحيّة سليبة الإرادة، ومع أي تلويح لامتلاكها لأي ملمح لإرادة غير مرحَّب بها وغير منسجمة مع المشهد المتّفق عليه، ستفقد الضحيّة ذاك الإشفاق. إذن، كي يبقى المشفق المتعاطف من موقع قوته إنساناً، لا بدّ للضحيّة من موقع انكسارها أن تبقى ضحيّة متعاطَف معها، وإلّا، ستُلغى تلك المنّة الموشّاة بالإنسانية دون أي تردد، بل وستنقلب في كثير من الأحيان إلى ملامة واستنكار وهجوم مُدين.
لا يتعلّق ذاك التحوّل بمآلات حالة الضحية بالضرورة، بل بانكسار مخيّلة المشفقين، وإحساسهم بالخسارة المتمثّل بفقدهم لموقع قوتهم وامتيازهم ووهمهم بإنسانيتهم. لا يعني ذلك أن الضحيّة هي فعلاً كيان سليب الإرادة بالضرورة، فالتطبيقات السياسية للضحيّة أكثر تعقيداً من ذلك، وفي بعض السياقات تكون الضحيّة الواعية بموقعها السياسي كضحيّة أكثر قدرة على التعامل مع العقبات وتحقيق الامتيازات انطلاقاً من وعيها بهويّتها وتمسّكها بتكريس صورتها المتعاطَف معها واستخدامها له.
يحدث ذلك على المستوى الفردي والشعبي معاً، كما في تمسّك إسرائيل مثلاً بخطاب الضحيّة واستخدامها للاضطهاد التاريخي لليهود كمبرّر للعدوان المستمر والجرائم الممنهجة، في استمرارية لشعورها بالاستحقاق أمام انتهاك حقوق وحياة الآخرين طالما أن موقعها السياسي من المتعاطِفين أصحاب القوّة يتيح لها ذلك.
في الميديا، كما في الأكاديميا وكما في السياسة، تلعب سياسات الإشفاق دوراً حيوياً في تشكيل الرأي الشخصي والعام، لذا، كان لا بدّ من استمرار وجود تيمة الضحيّة، وفقاً لأجندات المشفقين وتصوّرهم للمشهد بالطبع، حيث يُملأ الفراغ بمواقع الجناة والضحايا تبعاً للسياق ولديناميكيات القوى. يختلف ذلك عن التضامن الذي ينطوي جزئياً بالفعل على التعاطف المشفق كشعور إنساني، لكنّه يتعدّاه إلى الإيمان بأحقّية الضحية بإنسانيتها، وبخروجها من موقعها المهزوم إلى موقع الإنسان المساوي للآخر المتضامِن، في الحقوق والكرامة.
ما حدث في السابع من أكتوبر أعاد تشكيل تصوّر موقع الضحية من سياسات الإشفاق في المشهد الفلسطيني وفي عين العالم، لينتقل الفلسطيني من صورته النمطيّة كضحية “لا غير” مثيرة للشفقة ومتروكة لمصيرها، إلى ضحية ذات ملامح إنسانية تخرج عن هويتها المفروضة، فتغضب وتأخذ بزمام المبادرة وتظهر إرادة وفاعليّة ومقدرة على التخطيط والتنفيذ وكسر الخوف ووهم السلطة.
في الأيام القليلة التي تلت ذلك، كان من المربك للإعلام الغربي الحديث عن الفلسطيني دون شيطنة ذاك الفعل وتكريس إدانته، لتُنزع عنه إنسانيته مجدداً، سريعاً، ويتمَّ تصويره كإرهابي متوحش وعديم الشفقة، قبل أن يبدأ القصف على غزّة وتغزو صورة الفلسطيني الضحيّة الشاشات مجدداً لتعود الأمور إلى مكانها الـ “طبيعي” ويهدأ ذاك القلق.
أتاحت المفردات المتداولة، المتراوحة بين “المقاومة” و”الإرهاب” استقراء المتلقّي للموقف السياسي للمنصّة الإعلامية والمحاور، والتنبّؤ بطبيعة الحوار. فبينما اجتاحت الكلمة “حماس” شاشات الأخبار الغربيّة، مرفقة بالتعبير “فعل إرهابي”، غاب الـ “فلسطينيّ” وفعله المقاوم عن المشهد في تجنّب لأي أنسنة قد تطاله ضمن هذا السياق كإنسان ترتبط موجوديته بفعل المقاومة، في اعتناق لحقّ مشروع وفقاً للقانون الإنساني الدولي، كان ليُحتفى به في سياق آخر “أقلّ تعقيداً”.
لم يكن الهوس بفرض السؤال “هل تدين حماس؟”، عند بداية أي حديث يطلّ علينا عبر شاشات المؤسسات الإعلامية الغربية إلّا محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها، حيث يُدفَع الفلسطيني مجدداً إلى موقعه السياسي كضحيّة، لا ككيان إنسانيّ فاعل وقادر على الكون في فعل الإرهاب أو المقاومة، وفقاً للموقف السياسي، ولو كان ذلك على شكل رأي له صوت يمرّ عبر شاشة.
الفلسطيني ضحيّةً، له موقع واضح هو استجداء العطف وترقّب يد العون القادمة على شكل تصريحات سياسية وتبرعات ومناشدات ومساعدات وقوافل إنسانية، تضمن استدامة سياسات الإشفاق نحو الفلسطيني، المسيّجة بالحذر الشديد. في السياق ذاته، تمتدّ لوثة نزع الإنسانية عنه واختصاره إلى ضحيّة لتشمل نزع الحقّ عنه حتى في تكوين رأي سياسي غير متّسق مع الرأي السياسي للـ “آخر” الجاهز للشفقة وللتعاطف المشروط. يتحوّل الرأي إلى تهديد حقيقي، فتكوين الرأي فعل إنساني، وهذا ما لا ينسجم مع هوية الضحية المهزومة منزوعة الإنسانية في نظر المتعاطف المؤدلَج.
هكذا، كان السؤال “هل تدين حماس؟” ذا حضور لا يقلّ كثافةً عن تصوير مشاهد العنف القادمة من غزّة، فكلاهما له الهدف ذاته؛ دفع الفلسطيني مجدداً إلى موقعه كضحيّة.
بينما تطلّ وجوه الفلسطينيين المغطّاة بالبكاء وحرقة الفقد من تحت الركام في بحثهم عن أحبتهم ولملمة ما تبقى من أشلائهم، لا يزال الإعلام الغربيّ مشغولاً في إيجاد إجابة لسؤال الإدانة المرتبك، وإلّا، سيبقى الفلسطينيون عالقين في شرك ذاك الـ “سياق” المعقّد. لذا، كان لا بدّ من تبسيط المشهد إلى فلسطيني مُدين للهجوم، يرقى إلى كونه ضحيّة تستحق الشفقة، مقابل فلسطيني آخر لا يستحقها. هكذا، يتحوّل السؤال في رمزيّته إلى تلويح واضح لحتميّة تخلّي الفلسطيني عن إنسانيته بمعناها الواسع وعودته إلى زاوية الضحية مقابل الشفقة المرتبكة، وإلّا، ينزلق خارجها أوتوماتيكياً لعدم كفاءته كضحيّة.
في هذا السياق، احتدمت الآراء حول لقاء باسم يوسف الأخير مع پيرس مورغان، الصحافي البريطاني على محطة CNN والذي ارتبط اسمه بسؤال الإدانة الشهير لإصراره الممل على تكراره على مسامع ضيوفه أصحاب الموقف السياسي الداعم للقضية الفلسطينية.
منذ البداية، توجّه باسم يوسف في خطابه إلى مشاهديه في الغرب، فروى لهم بقالب ساخر تفاصيل عن حياته وحياة عائلته، منطلقاً من موقعه الشخصي كضحيّة واضحة الملامح عابراً بها إلى المشهد السياسي الأوسع لمأساة الشعب الفلسطيني كضحية ملتبسة. حصد اللقاء ملايين المشاهدات ومئات الآلاف من الإعجابات على صفحات التواصل الاجتماعي من المشاهدين جميعاً، وليس فقط من جمهور الغرب ذي الإشفاق الملتبس.
تضاربت وجهات النظر حول الأداء الدرامي لباسم يوسف، على الرغم من أن خطابه بدا مدركاً لطبيعة الجمهور المتلقّي و”ثقافته” -أو عدمها- حول القضية الفلسطينية، وبالتالي نجح في كسب مشاعر الشفقة والتأثير على الرأي العام الغربي من جهة أخرى. إنه خطاب آخر تتضاءل فيه إنسانية الفلسطيني ليُختزل في موقع الضحيّة ويلتقي بالشكل الأمثل مع سياسات الإشفاق.
ربما كانت إثارة الشفقة وتصدير أنفسنا كضحايا طريقة ناجعة للفت انتباه شعوب العالم الأقوى، والتي تدّعي أنها بدأت تسمع اليوم فقط عن فلسطين، ولكن، هل يكفي لفت الانتباه أمام قضية إنسانية بحجم فلسطين؟ إلى أين يذهب بنا خطاب الضحية؟ أهكذا فقط يتحرك قلب العالم القاسي؟ نقول: “انظروا، هذا طفل، ما ذنبه؟ انظروا، تلك مستشفى، كيف بها تُقصف؟ انظروا، تلك كنيسة، أجل هناك مسيحيون في غزة، انظروا، الناس تجوع تحت الحصار، أدخلوا المساعدات!”.
هكذا، تُختزل قضايا الشعوب المحقّة إلى استجداء جمعيّ للشفقة، ويتحوّل أصحاب الأرض إلى لا شيء يعدو كونهم ضحايا بحاجة إلى المساعدة، ويدان أيّ فعل للمقاومة أمام أي تهديد لزعزعة إشفاق المشفقين المنهمكين بتعاطفهم هرباً من أسئلة أخرى تضعهم أمام إنسانيتهم غير المنفصلة عن لعبة القوة والتفوّق.