برلين.. أول مرة في حياتي أسير في مدينة لا أعرفها بلا شغف، عادة ما تجتاحني الإثارة عند زيارة المدن الجديدة، لكن هذه المرة كانت مختلفة، رغم أني أقرأ عن برلين منذ طفولتي، وأعرف شيئًا عن عبء تاريخها القريب وانقسامه بين الولايات المتحدة وروسيا، الذي ينعكس على شوارعها وعلاماتها وأماكنها. لكن أشعر أن ثمة شيء ناقص.
أدخل مقهى جانبي لأشتري قهوة تساعدني على تحمل البرد، أكمل سيري محاولة استرجاع هذا الشغف بالمدينة الذي طالما صاحبني. لكن يبدو أني فقدته، أتساءل.. هل فقدت شغفي لأن حياة المُدن تشابهت، أم فقدته نتيجة للمحاولات المستمرة للتعايش مع فقد الشغف؟ لم يشغلني الرد، شغلني أكثر البحث عن بعض السكينة بداخلي في محاولة مستمرة للتخلص من الشعور بالغربة.
لسنوات ظلت تشغلني تلك العلاقة بين المكان والروح، وكلما أحسست بالغربة أبحث فيها وعنها على أمل الوصول لأفكار جديدة. سألت صديقي: “تفتكر ليه مش متحمسة أشوف المدينة الجديدة؟” وجاء رده: “لقد أصبحنا مواطنين عالميين، حفظنا المدن عن ظهر قلب، فتشابهت المُدن على أرواحنا، ولا يبهرنا أي جديد!”.
لم أقتنع، قلت لنفسي نعم إنه الإكتئاب الذي يفقدنا كل الشغف. ظللت أحاول في هذه الأيام أن أتواصل مع برلين وروحها وشوارعها، لكن الشغف لم يصاحبني كثيرًا، وتركني وحيدة مع أسئلتي.
بداية فهم
تتشكل علاقة بين الأماكن وأرواحنا عبر العديد من المراحل في حياتنا. تأوي الأمكنة أرواحًا، إلى أن تتآلف الروح مع العديد من التفاصيل من الأماكن. تلك الألفة هي ما ترسخ فهمنا للمكان، والشعور بالأمان فيه. لا توجد طريقة واحدة، أو تعاليم محددة لتشكل تلك العلاقة، هي تُبني من خلال تحسس الطريق والأماكن كل يوم ولفترات طويلة. عندما أمر على شارع مألوف في القاهرة أشعر براحة لأنني أعرف طريقي، ثم استمتع بشدة لعدم اضطراري لتحسس الطريق.
يأخذني عقلي إلى موقع الطائر الذي يرى المكان من نقطة عالية، مثل شعوري وأنا في الطائرة أثناء صعودها أو هبوطها، وبتعرفي على ملامح القاهرة وتفاصيلها من أعلى كما تعرفت عليها على مدار أكثر من ثلاثين عامًا عشتها هنا.
من الطائرة أستطيع تمييز ملامح المدينة الأساسية، فهذا شارع بورسعيد، هذا جامع ابن طولون، ونهر النيل من هنا، يحده بولاق أبو العلا شرقًا، وجزيرة الزمالك تقع في وسط النيل. لا أتعرف بالمرة على مدن الدلتا المختلفة وقُراها، فقط أميز الأخضر من المباني بطبيعة الألوان، فأنا بنت القاهرة، بنت المدينة الرمادية، التي ظللت لسنوات أظن أنها برتقالية بسبب المباني الأثرية التي اعتدت النظر إليها طويلًا.
ألفة تتكون
تسكعت في طفولتي ثم مراهقتي في شوارع وسط البلد، من ميدان التحرير، لميدان طلعت حرب، شارع قصر النيل، شارع شريف، أيس كريم من محل العبد، شوكولاتة من جروبي، سينما أوديون، وسينما مترو. الألفة هو الشعور المسيطر علي روحي طوال تواجدي في وسط البلد. لست متأكدة من وجود تلك الألفة مع أي منطقة أخرى في القاهرة مثلما هي مع وسط البلد وشوارعها.
أتذكر صباحات الجمعة وأنا أسير بجانب أمي والجو بارد ونعاسي في أثناء ذهابنا لسينما مترو لمشاهدة أفلام الرسوم المتحركة، وبعدها اتمنى أن أذهب إلى برج القاهرة كي أشاهد المدينة من زاوية مختلفة، وإصرار أمي على تعريفنا على ملامح المدينة والاتجاهات.
*
سكنت في طفولتي في حي الهرم، غرب نهر النيل بالجيزة، في أول الشارع الطويل الذي ينتهي بالأهرامات، ولدت هناك ودخلت المدرسة، وقبيل انتهاء المرحلة الإبتدائية انتقلنا إلى حي المقطم في أوائل التسعينات.
في المقطم الواقع على تلة عالية شمال شرق القاهرة. تعرفت على ملامح مختلفة تمامًا لمعنى البيت، لم يكن مسموح لنا بركوب الدراجات في الهرم بسبب وجود جراج أتوبيسات النقل العام خلف منزلنا. أما في المقطم اعتدت اللون الأصفر، حتى الفأر الذي دخل بيتنا كان أصفر، اعتدت المنحدرات في جميع الشوارع، واعتدت ركوب الدراجة، كانت وسيلة تنقلي الأساسية داخل المقطم. في البداية،كرهت بعدنا الجغرافي عن وسط البلد، ولكني لم افتقد حي الهرم يومًا.
أصبح يوم الخميس يوم وسط البلد أتسكع مع أصدقائي وندخل السينما وتناول الغذاء سويًا. تركت المقطم في 2009، وانتقلت لحي المعادي، لكني لم ارتبط به بالمرة، كنت على أطراف الحي حيث كورنيش النيل. لذا لم يمر العام حتى عدت مرة أخرى للمقطم، ثم قررت الاستقلال.
لم يكن متاحًا لشابة في عمري أن تسكن وحدها تمامًا، كما لم يسمح وضعي المادي بإيجار وحدة سكنية كاملة وحدي. تعرفت على تلك الحجرات والتي تؤجر للسكن المشترك مع آخرين وأخريات. واخترت وسط البلد كمكان جغرافي، وكان انتشار تلك الحجرات في وسط المدينة دافعًا محببًا لي، وسكنت قريبًا من محطة المترو.
انتقالات وتغيرات
انتقلت للعيش في حجرتي الجديدة في الخامس عشر من يناير لعام 2011، أربعة أيام قبيل عيد ميلادي السابع والعشرين، وعشرة أيام قبل الثلاثاء الخامس والعشرين يناير. أحببت حجرتي وتواجدي في وسط البلد بشكل دائم.
تغيرت علاقتي بشارع طلعت حرب، في البداية انتابتني الرهبة والخوف وانكمشت داخل جسمي كامرأة أثناء مروري وسط البائعين وهم يحتلون الأرصفة، واضطراري لحماية صدري ومؤخرتي من كل التلميحات الذكورية أثناء مروري بالشارع. اضطررت لتغيير مسارات سيري لشوارع موازية حتى لا أمر داخل شارع حرب، مثلما في سنين الألفية الأولى عندما قررت عدم المرور من شارع الشواربي مرة أخرى لانزعاجي الشديد من الباعة واختراقهم لكل مساحة خاصة حول جسدي أثناء مروري.
أنشأت علاقة جديدة مع شوارع وسط البلد، لكوني ساكنة، وارتاد الأماكن كمقيمة في المنطقة وليس كعابرة. لكن لم يكن تغيير علاقتي بالمنطقة فقط نتيجة للسكن فيها. بدء الثورة حول علاقتي تمامًا بوسط البلد، شعرت حينها بانتماء جديد لشوارع نتظاهر فيها مطالبين بحريتنا، ومحققين فيها مساحات انتصار وتلاحم وأحلام لمستقبل مختلف نصنعه بتصورات عن العدل والحرية.
في تلك السنين تغير شارع طلعت حرب أكثر من مرة وغلّف العنف تلك التغيرات الاجتماعية والثقافية في تركيبة الشارع ومحاله التجارية وليس مبانيه، كما تغير عدد الباعة الجائلين بشدة في نفس الشارع فيما بين عامي 2011 حتى 2013، استوعبها عقلي وقررت تفاديها، مثلما تفاديت بائعي الشاي في ميدان التحرير لانزعاجي الدائم من علاقتهم بقوات الأمن من بعد يوليو 2011.
*
عدد من الحيل اعتدت لعبها للعبور، مثل محاولاتي للتخفي داخل ملابسي في اشتباكات محمد محمود في نوفمبر ٢٠١١، أملًا في أن يقل التحرش بي وسط قنابل الغاز، وكم الدماء المتناثرة، واشتباكات لم تستطع روحي التعامل معها. ورغم خوفي الشديد في تلك الأيام، لكن رغمًا عني لم أستطع التوقف عن المشاركة، آمنت في كل لحظة بحقي في امتلاك الشوارع، بحق محاولة تحقيق العدل والعدالة، الحق في العيش أحسن، وأننا كلنا نستحق أحسن مما نحصل عليه.
تلك التغييرات في الشوارع المحيطة بشارع طلعت حرب أخذت مجراها وتغيرت هي نفسها لاحقًا.
انعطاف
أخذني في خضم أحداث الثورة شغف هائل تجاه علم جديد، يختص بالإنسان وعلاقته بالجغرافيا البشرية، وكانت نقلة منطقية لعقلي بعد دراسة العمارة وانشغالي بسكان المدينة وليس بمعمارها، وخصوصًا اهتمامي بالمناطق التي بناها الأهالي بمعزل عن أي تخطيط من الدولة، أو ما يطلق عليه العشوائيات.
وجدت نفسي استغرق في دراسة علم الإنسان والعمران تمامًا، مما دفعني للتقدم للحصول على درجة الدكتوراه في مجالي. ساعتها اضطررت أن أترك القاهرة خلفي، مسافرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتي لا أعرف عنها شيء باستثناء بعض التنميطات الجاهزة منذ طفولتي.
شعرت بوخز في قلبي والطائرة تغادر أرض مطار القاهرة في أغسطس 2015، شعرت بالغربة من مجرد فكرة الرحيل، ولم أكن أعلم متى سأعود، متى سيسمح لي العالم بالعودة والاستمتاع بألفة الشوارع التي أعرفها مرة اخرى.
اخترت نيويورك للالتحاق بإحدى جامعاتها، لأني أدركت عدم استطاعتي العيش في مناطق نائية أو بعيدة عن المدينة، أردت أن أعيش في مكان أستطيع الانخراط اليومي في شوارعه، والإنصات إلى مشاكله، ومحاولة تحليلها مثلما أفعل في القاهرة. ونيويورك هي المدينة المُثلي لهذا، تنظيم الشوارع، وجود كتلة بشرية ليست هينة تعيش في الشوارع وفي الأنفاق، الفقر، كلها عوامل ساعدتني على الرؤية والتحليل. بالإضافة لتشابه نيويورك والقاهرة فيّ كمدنٍ لا تنام، مترو الأنفاق يعمل 24 ساعة، وعدد غير قليل من محلات تقديم الطعام لا تغلق ليلًا.
اتبعت الأجندة الأكاديمية بشكل صارم، كنت أعود للقاهرة لمدة تتجاوز الأربعة شهور في العام، كلها شهور تتبع مواعيد إجازاتي.
حاولت تسريع الخط الزمني لدراستي وكلفني ذلك مجهودًا أكبر، حتى أستطيع إنهاء امتحاني الذي سيجعلني في مرحلة البحث الميداني وفيها سأظل بالقاهرة. وذلك ما سعيت له وتحقق في يناير 2019. وعُدت إلى القاهرة، ليس إلى عدة شهور تلك المرة، ولكن لعام ونصف على الأقل، وكل ما أتمناه ألا أعود للغربة مرة أخرى. أنا آلف القاهرة وأشعر أنها تألفني وتعرفني.
شيء ما مفقود
في البداية انقضت عدة شهور، كنت منطلقة فيهم تمامًا في القاهرة، وسعيدة بتدخين الشيشة في مقاهي المدينة، وعودتي للألفة التي افتقدها بشدة. ولكن بعد الشهور الخمس الأولى، شعرت بغربة لأول مرة في القاهرة وأنا أسير بشوارعها، انتابني الفزع في البداية فهذه مدينتي والتي ارتبطت بشوارعها لأكثر من ثلاثين عامًا. لم أعلم ماذا تغير، هل تغيرت أنا، أم تغيرت المدينة؟ أم تغير المألوف إلى نفسي؟ بدأت أتساءل حول ماهية الأمان، ومتى أشعر أني في بيتي؟
تختلف البيوت والأماكن، ويبقى شعور السكينة هو الأهم عندما نطأ بأقدامنا داخله. هذا الشعور بالألفة الذي يتدرج منذ دخولنا لحدود منطقة جغرافية ما، حتى اقترابنا من المبنى، حيث نعرف ما نسميه “البيت”.
تتغير الأماكن باستمرار، وهو ما يعبر عن ديناميكية مستمرة في حياتنا وأرواحنا، نلحظ تغير أماكن معيشتنا، وتتغير معها تفاصيل الممارسات اليومية والتي تربطنا بالمكان وتترسخ فينا وفيه وبنا وبه. قد تلحظ غلق إحدى المحال وافتتاح أحد المقاهي، وتحاول أن تتآلف عليهم ومعهم وتختبر إلى أي مدى سوف ترتبط بهم.
قد تتقبل هذا التغيير وأحيانًا لا، قد تتألف معه ويشعرك أنه تغيير لا يخل بإحساسك بـ “ألفة البيت” وأحيانًا يشعرك بدخيل ما في حياتك وقد تعتبره ضيف ثقيل، أو شريك رحلة تتمنى أن تأتي محطة مغادرته سريعًا.
أسير في الحي الذي نشأت فيه، أشعر بغربة تحيطني من كل جانب، أنهيت علاقتي به منذ أحد عشر عامًا، وأشعر بالغربة لاضطراري التعامل معه مرة أخرى بتغيراته وظروفه. ولكن الأكثر ازعاجًا هو الشعور الدائم بانعدام السكينة، هل هو المكان؟ أم أنا وذاتي؟ هل هم المحيطات بي؟ أم أنه شعور داخلي بالفشل في إعادة صياغة معنى “البيت” ومفرداته؟
تبدلات
وسط البلد، تغير تمامًا، هيمنت قوات الأمن على كل تفاصيل الشوارع. تم إغلاق مقاهي البورصة والممرات التجارية التي دائمًا ما أخذني أبي أو أمي إليها لنشرب شيئا أثناء جولاتنا المطولة في وسط المدينة. افتقدت حتى إعلان الكوكاكولا المطل على ميدان التحرير رغم أنه أزيل قبل الثورة. افتقدت الباعة، افتقدت الحياة في تلك الشوارع.
مازلت أخاف من شارع محمد محمود حتى الآن، أرى فيه صور الدم، أرى فيه مشاهد اغتصابات للنساء ومحاولاتي الاشتراك في تخليصهم. الكعكة الحجرية -قلب الميدان- أو حيث تواجدت قاعدة تمثال اسماعيل باشا والتي اختفت لسنوات. وأصبح مكانها قائم حديدي قبيح عليه علم مصر الذي لا أرتبط به، ويذكرني فقط بكرة القدم قبل الثورة.
حل مكان القائم هذا العام مسلة مصرية قديمة، لا أدرى لماذا؟ لماذا خلط الفترات التاريخية ببعضها البعض. لماذا المسلة والكباش. هذا الميدان شهد المستشفى الميداني، شهد الاغتصابات، شهد المطالبة بالحرية، يتحول إلى رمز للحضارة المصرية القديمة، لماذا محو الذاكرة بتلك الطريقة ومحاولات لتبديلها؟ ولماذا هدمت الجامعة الأمريكية مبني مكتبتها؟ محو المألوف من المباني أصبح مقززًا، أضواء قبيحة تكتب أشياء لا معنى لها على مبنى مجمع التحرير. سوف أترك هذا الميدان، سوف أترك هذه الشوارع المألوفة في جولة أخرى للبحث عن المألوف في شوارع أخرى.
حصار
أسير حتى بولاق ابو العلا، فهو الحي الذي عملت عليه بكثافة حتى اليوم، أبحث عن سكان عرفتهم لسنين لم أجد معظمهم، منهم من ماتوا، ومنهم من رحلوا هربًا من القتل أو الحبس نتيجة للإخلاء القسري للمنطقة. أطأ بأقدامي منطقة رملة بولاق، اختفت البيوت، هُدمت تماما واختفت. ولم أدرى ماذا أفعل.
إحساسي بالغربة يحاصرني، تهدم مثلث ماسبيرو وأصبح أرضًا خاوية يبنى فيها مشروع أسمنتي ضخم لأشخاص آخرين لا نعرف من هم بعد.
في طريقي للمقطم، وجدت منشية ناصر والدويقة تخترقها معدات هدم وبناء مستمرة، شكل المنطقة تغير تمامًا. داخل المقطم الذي أصبح مزدحمًا بحثت عن بعض الألفة، لكن الشوارع تغيرت مع ديناميكية التغيير العمراني لمنطقة تشهد تعمير حديث نسبيًا.
سيري في شارع صلاح سالم في طريقي إلى مصر الجديدة أشعرني بمحو ذاكرة المدينة تمامًا من خلال تجريف مقابر المماليك التي طالما مررت بها، والتي عرفت تاريخها في رواية خيري شلبي “بطن البقرة”.
مع وصولي لمصر الجديدة، أزعجت عيوني في الطريق أنوار قصر البارون المبالغ فيها، ثم صدمت بعدد من الكباري القبيحة الرمادية والتي لم أعلم كيف استخدمها، أشعرتني أن المنطقة تغيرت بمنطق شرطي المرور وليس بمنطق جغرافي أو تاريخي أو إنساني يخص ساكنيها أو مستعمليها.
اختفاء “الكنوز المخفية”
يصيبني الخوف بشكل حقيقي في مساراتي في القاهرة أينما ذهبت، أختفى كل ما خلف سور مجري العيون، المدابغ، والبيوت. عين الصيرة اختفت، وبيوت عين الحياة، والخيالة، والسحلية.
أعرف المنطقة منذ طفولتي، حين زرت لأول مرة مركز “الجيل” الذي أسسه اليساري الراحل أحمد عبد الله رزة، لعبت مع أطفال العمال طوال اليوم، وشاركوني قصصهم عن المدابغ أو المخابر أو الورش التي يعملون بها. وعليه ربطتني بالمنطقة رابط خفي مرتبط بإدراك أن طفولتي لا تمت بصلة لطفولة الأطفال العاملين.
ربما لهذا اخترت أن يكون مشروع تخرجي من قسم العمارة بجامعة القاهرة عن تطوير منطقة المدابغ والجلود وعلاقتهم بنهر النيل. حينها ولسنوات كانت منطقة مجرى العيون وجهتي اليومية، طالما ألفتها بشدة، وألفت رائحتها وأشكال جلودها.
تبلور أثناء هذه المرحلة في دراستي اهتمامي الشديد بالمناطق المتدهورة عمرانيًا والمحرومة من الخدمات. ساعتها اعترض أساتذتي بشدة على منطق تطوير المدابغ، وقضيت شهور طويلة في زيارات إلى المنطقة، حتى أقدم مقترح لأساتذتي في جامعة القاهرة لإقناعهم لإمكانية تطوير المنطقة.
كره بعض العمال وجودي، ورحب بي بعضهم. وجود جسدي كامرأة وسطهم كان غريبًا وغير مألوف بالمرة، فالمنطقة تضم فقط رجالًا وأطفالًا يعملون أعمالًا شاقة.
في أيامي الأولى في المنطقة، كان ينتابني الخوف، بسبب عدوانية البعض الواضحة. بعد وقت فهمت سبب عدوانيتهم، كانت الحكومة ساعتها -في مطلع الألفية- تدرس مقترحات لإزالة المنطقة، ونقل ورش الدباغة إلى مكان آخر، فظنوا في البدء أنى من هؤلاء الصحفيات الذين يؤدي عملهم إلى تسريع مقترحات الحكومة. بعد حديثي مع بعضهم وشرح سبب وجودي اختلف الوضع وأخذوا يروني “الكنوز الخفية” في المنطقة وهو العنوان الذي أطلقته على مشروع تخرجي.
صُدمت عندما لاحظت تهدم بعض المدابغ في 2019، وبدأت البحث وراء ما يحدث، وصُدمت أكثر أثناء سيري داخل المنطقة اتحسس طريقي لأنه لم يكن هناك طريق، فقدت المنطقة معالمها بالكامل وأصبحت صحراء جرداء، تمتلئ بركام الهدم، وتظلم تماما ليلًا. كنت ادخل المدابغ وراء سور مجري العيون خائفة واتلفت حولي.
وجدت شجرة ونخلة هن علاماتي الوحيدة للسير والوصول إلى أكوام مختلفة من الركام، تتغير كل يوم وعدد من الماكينات الضخمة يهدم ويزيل الركام، وبعض العربات الكارو تأخذ ما تستطيع المتاجرة فيه.
غضب
ماذا عن الألفة، ماذا عن البيت، أين المدينة التي طالما ألفنا بعضنا البعض. رغم إدراكي الشخصي والسياسي للتغييرات العمرانية التي تحدث في القاهرة وهو ما أدرسه، لكن لا أشعر بالمرارة بل أشعر بغضب شديد، غضب لما آلت إليه المدينة وناسها، غضب من السلطة التي تحرك كل ما في المدينة لتنشأ ذاكرة تخصها هي فقط، كما تصنع سردية تاريخية في كتب التاريخ لا تهمني ولا أعترف بها، لأني حييت بذاكرة مختلفة من منظور مختلف تمامًا. رغم غضبي السياسي، أدرك تمامًا أن ما كنت افتقده في القاهرة حقًا هو الألفة.
الألفة، والثقة أنى أستطيع التعامل مع كل ما حولي، هو ما أفتقده في المدينة. التي أسير فيها اليوم، مرعوبة لتغير ملامحها وحياتها وتفاصيلها، دون أي إدراك حقيقي من هادمي المدينة لتلك الجغرافيا التي تختفي فجأة وتأخذ من ذاكرتي ما أفطنه عن فكرة البيت والمكان والألفة والوطن.