يتجه العالم اليوم إلى ردّ الاعتبار للفئات التي كانت معزولة أو غير مندمجة مع السياق العام والغالب للأمم والمجتمعات، مثل الانطوائيين والمختلفين ثقافيًا، فالوحدة ليست أزمة لفنانين ومثقفين أو مختلفين أو فقراء ومهمشين، إنها قضية متصلة بوجودنا وشعورنا بهذا الوجود وتقييمنا له أيضًا. الوحدة مكان مميز؛ كما في أغنية دينيس ويلسون في ألبومه pacifif ocean blue
منحت الشبكية معنى جديدًا للوحدة، إنها قدرتك على أن تكون كما يجب أو تحب أن تكون بلا مساعدة أو وصاية من أحد أو مؤسسة. وأنت في الأصل وحيد، تولد وحيدًا، وتفكر وحيدًا، وتؤمن أو لا تؤمن وحيدًا، وتنسى أو تتذكر وحيدًا. وتتألم أو تستمتع وحيدًا، وتجوع أو تشبع وحيدًا، وتموت وحيًدا، وتلاقي الله وحيدًا. وقد تكون وحيدًا وأنت بين الجموع، مثلما أنك وحيد وأنت تعيش وحدك. كيف لا تكون وحيدًا عندما تكون مع الناس؟
إن الشعور بالوحدة أو الحياة في عزلة ووحدة أصبح قضية تشغل المؤسسات الاجتماعية والثقافية، ولم يعد ينظر إلى الانطوائيين أنهم غريبو أطوار أو مختلفون، لكنهم يدفعون ثمن عجز المجتمعات والمؤسسات عن فهمهم واستيعابهم. بل ويجب أن نلاحظ أيضًا أن العزلة أو الشعور بالوحدة قد تكون مستمدة من سمات إيجابية أو نزعة إلى الفردية، والتي قد تكون في كثير من الأحيان فضيلة أو ضرورة لأجل العمل والإنجاز، وفي أحيان يكتسبها الإنسان بسبب طبيعة عمله. لقد صعدت قضية الوحدة والشعور بالوحدة في عدة اتجاهات؛ باعتبارها أزمة اجتماعية يجب التصدي لها ومعالجتها، وفي أحيان باعتبارها فضيلة إيجابية، أو ضريبة لعصر الصناعة والعمل المتواصل المكثف الذي يعزل الإنسان المعاصر عن بيئته الاجتماعية، ويفصله عن أقاربه وأصدقائه. كما صعدت أيضا بالنظر إليها أحد مؤشرات فهم وتتبع التطرف والكراهية.
أنت في الأصل وحيد، تولد وحيدًا، وتفكر وحيدًا، وتؤمن أو لا تؤمن وحيدًا، وتنسى أو تتذكر وحيدًا. وتتألم أو تستمتع وحيدًا، وتجوع أو تشبع وحيدًا، وتموت وحيًدا، وتلاقي الله وحيدًا. وقد تكون وحيدًا وأنت بين الجموع
تلاحظ أوليفيا لاينغ (كتاب المدينة الوحيدة) أن موضوع الوحدة شغل كتّاب الأغاني أكثر من علماء الاجتماع والنفس، وتسرد على نحو مؤثر سيرا لعدد من قادة الفنانين والمثقفين أمضوا حياتهم وحيدين على نحو مريع، ومن هؤلاء الفنان آندي وارهول مؤسس مجلة “انتر فيو” والذي قتل في عام 1987، وكان قد تعرض لإطلاق نار عام 1968 على يد فاليري سولاناس، والتي تمثل أيضا حالة متطرفة للشعور بالوحدة والتهميش، وكانت قد نشرت قبل ذلك بسنة كتابها “بيان الحثالة” وكانت في حياتها وسيرتها مثالًا صارخًا ومحزنًا للموهبة والتمرد اللذين يقتلهما التهميش والوحدة، وكانت حادثة اغتيال وارهول المحور الرئيسي لفيلم ” I Shot Andy Warhol” في عام 1996 وكذلك أغنية لو ريد “I Believe” في عام 1990. يقول وارهول: س هو أي أحد يساعدني على تمضية الوقت. س هو أي أحد، وأنا لا أحد.
تقول أوليفيا لاينغ: كم سأكون ضائعة ووحيدة بدون الموبايل. إن علاج الوحدة في تعلم الطريقة التي يمكنك بها أن تكون صديقًا لنفسك. الوحدة تجربة شخصية، لكنها أيضا تجربة سياسية؛ إنها مدينة.
تعرض أوليفيا لاينغ قصة صادمة ومشهورة في الوسط الثقافي والفني؛ حارس المستشفى والفنان هنري دارجر؛ الذي كان يعيش وحيدًا في مأوى في شيكاغو، في انعدام شبه كامل لأي رفقة أو جمهور، كان وحده في كون خيالي بالكائنات المخيفة والرائعة، وعندما تخلى عن غرفته دون رغبة منه في سن الثمانينات ليموت، اكتشفت مئات اللوحات الفنية المخبأة في غرفته والتي لم يسبق له أن عرضها على أي إنسان من قبل. كما وجدت لديه مخطوطة لرواية هائلة وجميلة، وقد نشرت الرواية بعد وفاته وحولت إلى فيلم، كما نقلت لوحاته إلى المعارض الفنية، لكن الصدمة أن أحدًا لم يكن يعرف عن دارجر اهتمامًا فضلًا عن الانشغال بالفن والثقافة، لم يكن لكل من يعرفه سوى عامل نظافة في مستشفى، ظل في عمله هذا أكثر من ستين سنة.
الفردية بما فيها من وحدة وعزلة تمثل استجابة طبيعية ومتوقعة لانحسار المجتمعات، والحلّ يكون بـ “الذات الفاعلة”، وفي ذلك يقدم المفكر الاجتماعي الفرنسي آلن تورين في كتابه “براديغما جديدة لفهم عالم اليوم” مقاربة مهمة وربما تكون فريدة، فهو يرى أن المجتمعات والحركات الاجتماعية تمضي إلى الزوال، أو هي تتغير تغيرا جوهريًا، لتفسح المجال للذات الفاعلة والحركات الثقافية لتستوعب عالم اليوم المتشكل حول الشبكية والعولمة، هكذا أيضًا يجب برأيه أن تخلي سوسيولوجيا الأنساق المكان لسوسيولوجيا الفاعلين والذاوات الفاعلة. وقد يبدو ذلك صعب التقبل على الاجتماعويين، لكن لا مناص لنا نحن الخارجين من مرحلة تاريخية طويلة سيطرت عليها فكرة المجتمع من التخلي عن أداة تحليل فقدت قوتها. إننا نعيش نهاية التصور الاجتماعي، وندخل في قطيعة تشبه تلك التي تشكلت قبل قرون خلت عندما نهضت المجتمعات بديلا تنظيميا للمؤسسات الدينية والإقطاعية، وأنشأت ديمقراطيات وأنظمة سياسية كانت تبدو في ذلك الحين خيالا متطرفا!
كانت الفردانية ضريبة عصر الصناعة، لكنها فضيلة عصر المعلوماتية، وتصعد بقوة الاتجاهات الفكرية والفلسفية التي تمجد “الفرد” ويتحول الاتجاه إلى الفردانية إلى تيار اجتماعي قوي، يعتبر أن الوحدة أو الاجتماعية (الانتماء إلى المجموعة) أو “الانقباض والانبساط” مسألة متعلقة بطبيعة الإنسان كل إنسان على حدة، نصف أو ثلث الناس على الأقل يولدون وهم يفضلون على نحو فطري أو جينيّ أن يكونوا وحيدين في العمل وأسلوب الحياة، كما في التفكير والاختيارات، بل وتضايقهم كثيرا المحادثة مع الناس من غير سبب أو ضرورة أو لأغراض التسلية والترفيه. فالناس تتسلى بالمحادثة، والعالم لا يكف عن الحديث كما تقول سوزان كين مؤلفة كتاب “الهدوء: قوة الانطوائيين”
لقد تعودنا على الاستماع والتعلم على نحو إغراقي في ذم الانطوائية والهدوء والعزلة والفردية باعتبارها نقيصة يجب التخلص منها، وتؤكد المدارس والجامعات ومؤسسات العمل دائما على الجماعية والعمل الجماعي والانتماء إلى المجموعة وربط المشاركة والإنتاج بالقدرة على الاندماج والمشاركة الاجتماعية، وبالطبع فإنها قيم ضرورية ومهمة، لكن في عصر المعلوماتية أو تكنولوجيا المعنى يعاد النظر في فهم الانتماء والعمل الجماعي والمشاركة، إذ ليس شرطا لتحقيق هذه القيم والأفكار أن يتحلى المرء بمهارات اجتماعية جماعية.
نصف أو ثلث الناس على الأقل يولدون وهم يفضلون على نحو فطري أو جينيّ أن يكونوا وحيدين في العمل وأسلوب الحياة، كما في التفكير والاختيارات، بل وتضايقهم كثيرا المحادثة مع الناس من غير سبب أو ضرورة أو لأغراض التسلية والترفيه ..
اليوم يتحول العالم إلى شبكة يقف فيها على قدم المساواة جميع المشاركين فيها، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، أغنياء او فقراء، ومن أي بلد كانوا وبأي لغة يتحدثون؛ يصعد الفرد قوة عظمى مؤثرة، وتصعد أيضًا أفكار وفلسفات تخاطب الأفراد بما هم أفراد؛ تقول سوزان كين: كن كما أنت انطوائيًا، ولا تنشغل بتغيير نفسك، ولا تحتاج أن تكون كما يراد لك أو يتوقع منك، إذ ليس الانبساط متعة بالضرورة، بل إن البعض يراه مصدرًا للطاقة السلبية والشعور بالتعاسة، فإذا كنت تجد نفسك أفضل وأنت وحيد، وإذا كنت تعمل وتنجز أفضل وأنت وحيد فكن وحيدًا، واستمتع بعزلتك، وكن وفيًا لطبيعتك الخاصة. ولا تقلق بشأن التواصل مع الآخرين وبناء علاقات اجتماعية وصداقات أنت لا تحبها أو لا تسعدك. اعمل ما تحب وما يسعدك، ولا تشغل نفسك بالآخرين إذا لم تكن تسيء إليهم أو تخالف القوانين والقيم.
ليس الانطواء هو الخجل، فهما أمران مختلفان. الانطواء هو تفضيل بيئات عمل وحياة معينة، لكن الخجل هو الخوف من الرفض الاجتماعي والنبذ. الانطواء ممتع ومفيد لكن الخجل مؤلم، وإذا كان طفلك انطوائيًا، فلا تجبره على المشاركة والانبساط، وفكر فيما يمكن أن يتفوق فيه أو يحبه كالقراءة والرسم أو تخصصات وهوايات واتجاهات معينة يبدي ميلًا إليها أو تتفق مع طبيعته، وفي الصداقة أيضا فإن اتجاهات الناس مرتبطة بطبيعتهم، وقد لا يحتاج المرء أكثر من صديق وقد يكون صديق نفسه.
وفي العمل أيضا يستطيع الانطوائي أن ينجز عمله بكفاءة، ولا يحتاج كما هو شائع أن يكون “انبساطيًا” ويقدر أيضًا على أن يكون إيجابيًا وأن يبث الإيجابية في عمله من غير حاجة لمعايير تبدو له غير جوهرية، إذ لا يحتاج تقسيم العمل وتكامله سوى قيم التعاون والتنظيم المختلفة تمامًا عن النشاط الاجتماعي. هذا الخلط بين التعاون والمشاركة الاجتماعية؛ الإيجابية والتسلية؛ يضر بالعمل والقيم أيضًا. فالانطوائي قادر على التحدث وعرض وجهة نظره والمشاركة في الأفكار والحوار والجدل وتبادل المعرفة والمهارات، والمزاح وإطلاق النكات، والحال أن الواحد لا يكون سيئًا لأنه انطوائي أو انبساطي، فالأمر ليس أخلاقيًا، لكنه يشبه أن يكون أحد طويلًا أو قصيرًا، أو ما تكون عليه لون بشرته.