قاعدة شاهقة تتوسط حديقة كبيرة بمنطقة محطة الرمل بمدينة الأسكندرية يعلوها تمثال لرجل شامخ القامة، يقف وجبهته مواجهة لشاطئ البحر الواسع. تقف أمامه تشعر بالهيبة والفخر، على بعد خطوات من التمثال هناك لوحة مكتوب عليها اسم شارع سعد زغلول (1858-1927)، يتبادر لذهنك كل القصص التي زُرِعت داخلنا عن نضاله الطويل ضد الاحتلال البريطاني لمصر. سرعان ما نتذكر صفية زغلول -الشهيرة أيضًا بأم المصريين- الزوجة والمناضلة والمدافعة عن حقوق النساء أيضًا. نبحث في المنطقة ذاتها عن سيرتها، لنجد شارعًا يحمل اسمها، كزائر للمدينة ربما تظن أن تمثالًا لامرأة بذات الشموخ يتوسط شارعها، ويجسّد نضالها مثل زوجها، لكن لا شيء، سوى اسم الشارع.
بدرجة ما تعكس المنحوتات والتماثيل في الميادين العامة جزءًا من هوية وتاريخ الشعوب، تنسج في ذاكرتهم ملامح المدينة عبر رموزها التاريخية، تميّز من خلالها ملامح من الحياة العامة باعتبار فن النحت أداة للتخليد والترميز، وفي مصر، غير أن النحت فن متأصل في تاريخها، وبنظرة سريعة على المنحوتات المنتشرة في عموم ميادينها الكبرى، نكتشف ندرة تماثيل الشخصيات النسائية، وحصرهن في صورة واحدة على الأغلب.
شخصية.. غير حقيقية
تزخر مصر بعدد كبير من المنحوتات في ميادينها العامة، لتخليد ذكرى شخصيات مؤثرة في تاريخها، منها مصطفى كامل (1874- 1908) وسعد زغلول، محمد فريد (1868- 1919) وغيرهم من الرموز الوطنية والفنانين والحُكام، بجانب منحوتات رمزية تعبر عن شخصية مصر الاعتبارية، مثل الفلاحة أو المرأة الفاتنة، أو هوية المكان الموضوعة فيه، كما الحال في تمثال نهضة مصر للمثال الكبير محمود مختار (1891- 1934)، الموجود أمام جامعة القاهرة، وهو عبارة عن امرأة تستند بيدها على رأس أبو الهول وتنظر للمستقبل، تلك الرؤية جرى استنساخها طوال الوقت على مدار المائة عام الماضية تقريبًا.
***
في مواجهة مكتبة الإسكندرية، في حي الأزاريطة، يوجد تمثال شهير ضخم لوحش برأس ثور وجسد مموج مثل البحر يحتضن امرأة أشبه بعروس البحر، مستوحى من الأسطورة اليونانية حول اختطاف زيوس لأوربا، أنشأه الفنان المصري فتحي محمود عام 1962، ومثّل فيه روح المدينة كشخصية رمزية غير حقيقية، على الرغم من ثراء التاريخ السكندري بنساء تمثل حضارتها وتاريخها، أشهرهم ربما الفيلسوفة هيباتيا.
من الإسكندرية للعاصمة، وأمام جامعة القاهرة يقف ثمثال نهضة مصر، ويتبادر إلى الذهن.. لماذ لا نجد تمثالًا لإحدى خريجات الجامعة؟.. ألا تستحق سهير القلماوي تمثالًا؟ أول فتاة مصرية تلتحق بالجامعة عام 1929، والتي لم تقف مسيرتها عند كونها الأنثى الوحيدة بكلية الآداب من بين 14 طالبًا ذكرًا أثبتت كفاءتها بينهم، فأكملت دراساتها وحصلت على الدكتوراه و انتزعت حقها لتصير أستاذة في الجامعة لتصبح أحد أهم العلامات في تاريخ الأدب المصري الحديث، وبعد سهير تدفقت الجهود النسوية لانتزاع حق الالتحاق بالجامعة، لكن لم نرَ حتى اليوم محاولة لتخليد ذكرى أي امرأة في تمثال أمام الصرح الذي خضن معارك واسعة لدخوله.
شارع.. نعم/ تمثال.. لا
بالنسبة لـ رنيم العفيفي الكاتبة والباحثة في قضايا النوع الاجتماعي..”قضية التماثيل والمنحوتات تتشابك مع كل أشكال التمييز والعنف الواقعة على النساء في مصر، والمحور الأساسي هو تهميش النساء عمومًا، والرائدات خصوصًا، والجهل برموز الحركات النسوية، مقارنة مع الرجال، وذلك يرجع لأن من يسجل التاريخ بالأصل أغلبهم من الذكور، فضلًا عن ذلك، عدد قليل جدًا من الميادين والشوارع تحمل أسماء نساء لتشجع على وضع تمثال لها، بالرغم من وجود استثناءات، كتمثال أم كلثوم الموجود بالقرب من متحفها بحي الزمالك”. وتكمل: “يعود ذلك بشكل أساسي إلى التعامل مع شخصية أم كلثوم ذاتها كنموذج مغاير لصورة الأنثى التقليدية، باعتبارها امرأة قوية بصوت جهوري وتقربها للسلطة على مدار ثلاثة عقود، مما منحها قبول مجتمعي أكبر”.
يشكل تمثال أم كلثوم استثناءً، وذلك يعود بشكل أساسي إلى التعامل مع شخصية أم كلثوم ذاتها كنموذج مغاير لصورة الأنثى التقليدية، باعتبارها امرأة قوية بصوت جهوري وتقربها للسلطة على مدار ثلاثة عقود، مما منحها قبول مجتمعي أكبر.
تتابع رنيم قائلة: “على الجانب الآخر، لا يمكننا أن نجد تمثالًا لشخصيات نسوية ومناضلات، مثل المناضلة النسوية هدى شعراوي والتي تلقى تكريمًا من الدولة المصرية في كل عصر، ويوجد بالفعل شارع باسمها في منطقة وسط البلد، بينما يوجد في منطقة وسط البلد نفسها تماثيل لشخصيات مثل طلعت حرب ومحمد فريد وعمر مكرم، رغم أن هدى شعراوي لا تقل أهمية وتأثيرًا عنهم”.
من جانبها، تقول سعاد رمضان فنانة النحت الميداني: “يمكننا إيجاد جواب لهذا التساؤل عند البحث عن التمييز الجندري في مجال النحت نفسه.. مثلًا، أنا كنت الفتاة الوحيدة في قسم النحت الميداني، بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا، كنت أعاني من التمييز من قبل أساتذتي، على الرغم من اجتهادي لإثبات جدارتي كزملائي الذكور، لكن جهودي دائمًا تقابل بوصم زملائي، كان الأساتذة يردّدون: يعني البنت تتفوق عليكم؟”.
تضيف سعاد: “إلى جانب قلة فنانات النحت في مصر، أيضًا يذهب تكليف نحت تماثيل الشخصيات العامة للأساتذة الذكور فقط، وبالتبعية يقع اختيارهم للمساعدين من الطلاب على الذكور فقط، باعتبار أننا لن نستطيع تحمل ظروف العمل مهما كنا جديرات به، فبالتالي لا يوجد اهتمام أصلًا بالبحث عن رموز نسائية لنحتها، أو حتى تطوير النظرة النمطية لنحت المرأة”.
زوجة مخلصة.. فقط لا غير
لايوجد حصر محدد بعدد فنانين النحت في مصر ونسبة الإناث منهم، لكن يمكننا ملاحظة الفرق في عدد الطلاب بقسم النحت في كليات الفنون، كما في تجربة “سعاد”.
اتجهنا بالسؤال للدكتور “أحمد بركات” أستاذ مساعد قسم النحت، بكلية الفنون الجميلة، جامعة الإسكندرية، عن كيفية اختيار مجسم للنحت في الميادين العامة، يقول بركات: “أي جهة -سواء حكومية أو شركات خاصة- تُكلف واحدًا من أساتذة النحت بعمل تمثال في مكان ما لا تقوم بتحديد شخصية التمثال بناء على نوعه، لكن يأتي في صورة الرغبة في تخليد شخصية أدبية أو وطنية، هنا بنسبة 95% يقع الاختيار على المشاهير من الرجال، كنجيب محفوظ مثلًا، لأنه لا توجد شخصيات نسائية بنفس القدر من الشهرة”.
يبدو القول غريبًا بعض الشيء.. عندما تتدافع أسماء مثل.. سميرة موسى أول عالمة ذرة مصرية، وروز اليوسف أول مصرية تنشئ دار نشر ومجلة، و صفية زغلول المعروفة بأم المصريين، كلهن وأكثر، نساء برزن في تاريخ مصر الحديث، ومهّدن الطريق للأجيال القادمة في الحياة العامة، لكن لا نصيب لهن من الشارع.
لا نجد لصفية زغلول أي تمثال، رغم دورها المحوري في الحِراك الوطني المصري المناهض للاحتلال الإنجليزي، والحِراك النسوي المصري في موجته الأولى، وهذا أيضًا يعكس الطريقة التي تُقرَأ بها سيرة صفية زغلول من جانب أغلب المؤرخين، باعتبارها الزوجة المخلصة للزعيم الثائر والتي أكملت المسيرة في غيابه الاضطراري بعد النفي عن البلاد.. وفقط.
تقول رنيم: “تهميش الشخصيات النسائية لا سيما الموجودة في الشوارع والميادين هو امتداد لتهمیشها تاریخًیا، وعلى سبيل المثال يمكننا أن نجد تمثالًا للزعيم الراحل سعد زغلول في محطة الرمل بالإسكندرية، بينما لا نجد لصفية زغلول زوجته أي تمثال، رغم دورها المحوري في الحِراك الوطني المصري المناهض للاحتلال الإنجليزي، والحِراك النسوي المصري في موجته الأولى، وهذا أيضًا يعكس الطريقة التي تُقرَأ بها سيرة صفية زغلول من جانب أغلب المؤرخين، باعتبارها الزوجة المخلصة للزعيم الثائر والتي أكملت المسيرة في غيابه الاضطراري بعد النفي عن البلاد.. وفقط.
وهو التصوّر النمطي ذاته عن المرأة ودورها كتابع للرجل، وللأسف تُهْدِرْ هذه الزاوية الذكورية التي يعتمد عليها المؤرخين في توثيق سير النساء المصريات جوانب محورية في تاريخهن، وتنزع عنهن استقلاليتهن، وتهمش معاركهن الخاصة”.
تماثيل لرجال عراة؟
عند نقطة تقاطع شارع محمد فريد بشارع قصر النيل بمنطقة وسط البلد، يقع تمثال للزعيم مصطفى كامل، نحته الفرنسي الشهير ليوبولد سافين، يمثل فيه صورته بالملابس الملكية الرسمية، يقف مرفوع الرأس كالخطيب، ويده على تمثال مصغر لأبي الهول، بينما أسفله يوجد تمثال لامرأة تسمع هتافات التحرير.
بعيدًا عن ميدان مصطفى كامل، وأمام أحد المراكز التجارية الكبرى بالقاهرة، يوجد تمثال ضخم لامرأة شبه عارية، منحوت بمقاييس جمالية دقيقة جدًا.
***
تقول رنيم: “معلوم أن المخيلة البصرية للمجتمع تحصر النساء في خانة الغوایة والإثارة، وذلك بشكل أو بآخر هو أحد الأسباب الرئيسة في انتشــار التماثيل التي تجسد أجساد النسـاء العارية، بينما من العسير علينا أن نجد تماثيل لرجال عراة الجسد، منحوتةً بذات الدرجة من الدقة التي تحظى بها نظيرتها من تماثيل النساء”.
مئات الشخصيات النسائية تركن بصمتهن في التاريخ المصري، بعد نضال واسع وطويل لانتزاع حقوقهن، لكن لم تنتشر سيرتهن في نطاق واسع، يقول أحمد: “الفن الميداني يخاطب الجمهور الواسع بمختلف فئاته، من غير المنطقي نحت تمثال لشخصية غير معروفة للجميع، لذلك ينظر للمرأة في النحت على أنها قيمة رمزية عامة بدل الإشارة لأشخاص محددة، مثل تمثيل شخصية مصر كأم ولّادة تدافع عن الدولة والأرض وتُقدّم المزيد من الشهداء، وهذه هي فكرة تمثال أم الشهيد“.
الإصرار على حصر المنحوتات النسائية في أنماط محددة، هو في حد ذاته شكل من أشكال التمييز ضد النساء وسبيل آخر من سبل التنميط، فالتماثيل عادةً ما تُصنع لنقول أن صاحبها أو صاحبتها صنع إنجازًا أو صورته تستحق التخليد ليسأل عنه وعن سيرته الجميع، وفي التاريخ هناك كثير من النساء يجدر بنا أن نجسد تماثيل تحفظ وتخلد ذكراهن، مثلما يتمتع الرجال بهذا الشكل من التكريم والتخليد
في هذا الصدد تقول رنيم: “الإصرار على حصر المنحوتات النسائية في أنماط محددة، هو في حد ذاته شكل من أشكال التمييز ضد النساء وسبيل آخر من سبل التنميط، فالتماثيل عادةً ما تُصنع لنقول أن صاحبها أو صاحبتها صنع إنجازًا أو صورته تستحق التخليد ليسأل عنه وعن سيرته الجميع، وفي التاريخ هناك كثير من النساء يجدر بنا أن نجسد تماثيل تحفظ وتخلد ذكراهن، مثلما يتمتع الرجال بهذا الشكل من التكريم والتخليد”.
أمّا سعاد فترى أن: “تنميط النساء هي نظرة ممتدة تاريخيًا يمكن إرجاعها إلى فترات مبكرة من وجود الإنسان، الفنان البدائي كان يرى في المرأة رمز للخصوبة لأنها بالنسبة له مصدر الحياة على الأرض، وبدأ ينحتها بهذه الرمزية، وكان يرى الجمال في اختلافاتها الجسدية، لكن مع التطور البشري و ظهور آلهة فُرضت معايير محددة للجمال، تأثر بها النحت النسائي، تطورت إلي أن وصلت لما نحن عليه الآن”.
ليست مصر فقط البلد الوحيدة التي يتمتع فيها الرجال بمساحات أوسع في الميادين العامة، لكن الحال نفسه موجود في العالم كله تقريبًا، مما دفع لظهور حركات واسعة للمطالبة بتضييق الفجوة الجندرية بين المنحوتات العامة، منها حركة عضوات البرلمان البريطاني، التي دعت لنحت عدد من التماثيل لرموز نسوية، وفي الولايات المتحدة أطلقت حملة بعنوان “monumental woman” بعد اكتشاف أن نيويورك بها عدد كبير من التماثيل من بينهم فقط خمسة تماثيل نسائية، لذلك دعت لنحت مزيد من التماثيل لزيادة تواجد الرموز النسائية.